13-مارس-2020

نصب الأمير عثمان دقنة بمدينة بورتسودان (أرشيف السودان)

هب أنك طفل سوداني وأنك نشأت بواقع الجغرافيا بالقرب من تاماي نفسها. أو في إحدى المدن القريبة منها، سواكن أو بورتسودان، وذُكر أمامك اسم تاماي هذه، قد تجده في ذاكرتك أو لا، أو ربما بعد صعوبة والبعض قد يجيب بثقة أنه يعرف مصنعًا للثلج يحمل ذات الاسم في المنطقة التي تشتهر بصيفها الحار.

لو أنك ذكرت أسم شرق السودان وقتها في لندن أو روما أو باريس، لقفز أمام محدثك أسم واحد هو عثمان دقنة

لكن دعنا نسافر الآن عبر التاريخ ونذهب سويًا إلى تاماي المقصودة. في المنطقة الموجودة جغرافيًا بالقرب من مدينة سواكن الحالية، ولنختار تاريخ 13 من آذار/مارس عام 1884، فهذا اليوم يستحق أن يصبح عيدًا قوميًا.

اقرأ/ي أيضًا: عنصرية الميدان..عزة بالإثم واعتذار أفظع من الذنب

لو أنك ذكرت اسم شرق السودان وقتها في لندن أو روما أو باريس، لقفز أمام محدثك أسم واحد هو عثمان دقنة، كان شرق السودان هو البعبع الذي ما أن تخرج الشمس على الإمبراطورية التي لا تغرب شمسها إلا ووصلتها أنباءً عن تقدمه وتجهيزاته العسكرية وقطعه لطرق امدادات الجيش الإنجليزي بين البحر -كان الميناء الوحيد حينها هو سواكن- والعاصمة. وسيطرته على طريق بربر. ثم تحول قواته في التسليح من السيوف والحراب والعصي إلى امتلاكهم لبعض البنادق والمدافع بعد هزيمتهم للجنرال بيكر -أخ لصامويل بيكر الشهير- في معارك الساحل، أو ما عرف بمعارك التيب في نهايات شباط/فبراير من ذات العام.

لم تكن بريطانيا العظمى لتتحمل وقع هزيمتها تلك، فأعدت جيشًا لتنتهي من أسطورة رجل شرق السودان الجديد، فتم استدعاء فرق النخبة من القوات البريطانية فكرامة الإمبراطورية صارت على المحك وأسند أمر قياداتها للجنرال جيرالد جراهام.

كان النصر في مخيلة الإنجليز هو مسألة وقت لا أكثر، فقوة من أعظم المقاتلين بلغ عددهم 3500 مقاتل وطاقم القيادة بجوار جراهام كانوا الجنرال بولر والجنرال ماكنيل وهم مدججين بأحدث الأسلحة وقتها. وفوق كل ذلك كانت هناك الأسطورة الحربية الإنجليزية التي حيرت العالم "المربع الإنجليزي" وهو تكتيك حربي يتم اتباعه في معارك الأراض المكشوفة، طبقه الإنجليز في معارك القرم ومعارك فرنسا.

كل هذا الخيلاء جعل القوات الإنجليزية تغادر آخر تحصيناتها في مدينة سواكن كاسرة حصارها، وهنا تجدر الإشارة إلى أمر غريب، هو أن الثقافة الرسمية للدولة تحتفي كثيرًا بـ"بوابة سواكن" مع أن التاريخ يذكر أنها كانت علينا وليست لنا.

اقرأ/ي أيضًا: خارج حدود الاعتصام.. من بالخارج؟

خرجت القوات الإنجليزية تعزف المارشات العسكرية وترفع الرايات وبداخل المربع كانت المدافع والمؤن تجرها الدواب على العجلات.

كان الأمر أشبه بنزهة للفيلق الإنجليزي سيعود منها في المساء منتصرًا، غير أن الكفة لم تكن متساوية، فحين بدأت حضارات الشرق القتال لم تكن إنجلترا أصلًا قد وجدت في التاريخ، فأجداد الجنود في الجيش السوداني كانوا قد دافعوا عن أراضيهم هذه من توغل المصريين قبل أكثر من سبعة آلاف عام لكن ومن بعدهم الرومان ها هي المناسبة قد أتت ليعرف العالم ذلك التاريخ المنسي.

فرق الكشافة في القوات الإنجليزية تقودهم إلى المكان الذي يعسكر فيه دقنة وجنوده بالقرب من آبار تاماي في حدود منطقة أركويت، لم يكن المكان بعيدًا فهو لا يتجاوز الـ40 كيلومترًا. لكن العتاد الحربي المصاحب للجيش الإنجليزي جعل من التحرك بطيئًا والترقب لهجمات قوات دقنة المباغتة جعلت الحذر سيد الموقف.

كانت الأحوال هادئة للدرجة التي أغرت القائد الإنجليزي بأن يصدر لقواته الأمر بأن يبيتوا ليلتهم هنا ويواصلوا المسير مع شروق الشمس لمهاجمة دقنة وقواته.

في معسكر الأخير هذا كانت أخبار مسير الجيش الإنجليزي تصل أولًا بأول، لذا كان قرارهم أن "ما ينوم" وطبقوا الأمر حرفيًا، فتم حرمان القوات الإنجليزية من الراحة، كانت الخطة هي أن تهجم مجموعة منهم بشكل خاطف وتستهدف المؤن والدواب وتعود سريعًا وتم الأمر كما خطط له تمامًا.

صباحًا كان على جراهام أن يتعامل مع الوضع الجديد فلا دواب كافية تبقت ولا ماء، فقرر أن لا مناص من الهجوم والآن وتم نصب المربع الإنجليزي الذي قهر أوروبا.

ولكن لم يظهر البجة، كانت قوات الجنرال جراهام تمضي بثبات نحو الفخ المنصوب فقد انتهت الأراضي المنبسطة التي خبر جنوده فيها القتال وعليه الآن أن يتعامل مع تضاريس الجبال التي يخبرها خصومه جيدًا فهي أرضهم.

اقرأ/ي أيضًا: آفاق التفكير تنمويًا في الثورة السودانية

قام الإنجليز يتملكهم التوتر بإطلاق النار عشوائيًا وفي كل الاتجاهات ولم يأتيهم رد، جن جنون القائد البريطاني، أين هم؟ كان يقود جيشًا يقاتل الأرض الخالية والجبال والعطش وما أن حانت ساعة الصفر حتى بدأ الهجوم، سريعًا وخاطفًا وكأنهم رجل واحد، هجم البجة وكانوا في لحظات داخل المربع الإنجليزي فاليوم لن تشفع له المدفعية، لأن القتال سيكون رجلًا لرجل.

ليلتها كان جراهام الحامل لوسام فيكتوريا أرفع الأوسمة التي يمكن للقادة الميدانيين في وطنه الحصول عليها، يبرق حكومته باقتضاب: "كًسر المربع الإنجليزي".

دقائق معدودة وكأنهم تلقوا تدريبًا في أرقى الكليات العسكرية كان البجة يغادرون أرض المعركة، وتغادر معهم وللمرة الأولى أسطورة المربع الإنجليزي إلى الأبد، أصدر الجنرال جراهام المأخوذ بقوة البجة وبسالتهم أمره لجنوده بالانسحاب، كان الأمر مجرد تحصيل حاصل، فما تبقى من جيشه كان قد بدأ الانسحاب فعلًا.

ليلتها كان جراهام الحامل لوسام فيكتوريا أرفع الأوسمة التي يمكن للقادة الميدانيين في وطنه الحصول عليها، يبرق حكومته باقتضاب: "كًسر المربع الإنجليزي".

وبينما خلد الأعداء بسالتنا وشجاعة أجدادنا حين كتب شاعرهم روديارد كيبلينغ قصيدته "فيزي ويزي" قاصدًا ذمهم حين شبه طول شعرهم بالحيوانات المنزلية ذات الفراء، ومن هنا جاءت التسمية فيزي ويزي، غير قادرًا على الإنكار:

"لم يحرك الغزاة فيه غير نفرة احتقار

لذا نزجي إليك مدحًا في بلادك السودان

فأنت في الحياة معدم وجاهل

ولكن في الحروب قمة الفخار

نهديك ها هنا تحية يا أشعث الإهاب

يا من حكي وعاء التبن رأسه الدهين بالغبار

وأنت الأسود الوثاب الساغب الحشا

لأنك اقتحمت صف الإنجليز في اقتدار"*

 

اختفت سيرة هذه المعركة من تاريخنا الوطني كأنها لم تحدث بينما حظيت رفيقاتها وفي تواقيت مقاربة لها بالعديد من الكتابات والتوثيق، بل أن نصبًا تذكاريًا لعثمان دقنة ممتطيًا صهوة فرسه كان بمدينة بورتسودان تم تحطيمه في أول أيام حكم الإنقاذ بحجة أن هذه عبادة للأصنام!

 

*القصيدة ترجمة "عبد المنعم خليفة خوجلي"

 

اقرأ/ي أيضًا

ديسمبر الجليل.. تأويلية المكان وجماليات المقاومة

الشهيد يلحم أبعادنا ويكتبنا بالدم