من المهم النظر بعين الاعتبار إلى أن الأمور في السودان لن تسير كما هي عليه طويلًا؛ أي أن المجتمع الدولي لن يسمح بحرب بلا نهاية بين الجيش والدعم السريع، والتي تستمر منذ ستة أشهر مخلفة تشريد الملايين ومقتل الآلاف وتدمير البنى التحتية بالعاصمة الخرطوم، حيث فقد على إثرها الاقتصاد المحلي نحو تريليون دولار - بحسب تقارير.
على الرغم من أن وقف الحرب مكسب كبير، لكن تبقى الأهمية لقوة الطبقة السياسية ووحدتها نحو التحول الديمقراطي والحكم المدني
وفي حال وصول الطرفين إلى منبر جدة لبدء محادثات حول وقف إطلاق النار، فإن أقوى السيناريوهات المتوقعة عقب نجاح هذه العملية التي تتم برعاية سعودية أميركية هو أن يعود الوضع العسكري والأمني بالنسبة للطرفين على ما كان عليه قبل اندلاع الحرب في منتصف نيسان/أبريل الماضي؛ مثل احتفاظ الجيش بمواقعه وقواعده العسكرية ما قبل الحرب، بينما تعود قوات الدعم السريع إلى معسكراتها حول العاصمة الخرطوم والمدن الأخرى كما كانت.
في ذات الوقت فإن هناك سيناريوهات أخرى ربما تعد "قاتمة" مثل احتفاظ كل طرف بمواقعه التي كسبها عقب الحرب وحتى تاريخ التوقيع على وقف إطلاق النار في منبر جدة، وهذا الخيار قد يجعل الدعم السريع منتشرًا في كافة أنحاء العاصمة بينما يحتفظ الجيش بقواعده المعروفة في الخرطوم والولايات.
وفيما يمكن التكهن بأن عملية دمج قوات الدعم السريع في الجيش الموحد ستواجه بعراقيل متعددة، لكن مكسب توقف الحرب لا يعلو عليه التشاؤم من القادم بقدر ما أن الوصول إلى جيش واحد قد يكون مطلبًا أساسيًا حال توفر عملية سياسية واعدة وقوية.
ومن بين التوقعات القوية والمتشائمة في ذات الوقت لدى غالبية الفاعلين في الشأن السياسي في السودان، أن الجنرالين ربما يكونان ضمن المشهد السياسي ما بعد الحرب، لكن هذا هو خيار المجتمع الدولي الذي يرى أن إبعادهما وعزلهما قد يطيل أمد الحرب، لكن يبقى السؤال عما إذا كانا على استعداد لتسليم السلطة إلى المدنيين ومغادرة السلطة السياسية أو المثول أمام العدالة في الانتهاكات التي وقعت أثناء الاقتتال.
من الناحية النظرية وارد جدًا القبول بما جاء على ديباجة الاتفاق المحتمل، لكن من الناحية التكتيكة وقرائن الأحوال ربما يمكن التوقع أنهما قد يلجآن إلى مناورات جديدة تتركز على صنع حلفاء جدد من الطبقة السياسية، خاصة مع وجود تيارات سياسية لديها القدرة على التحرك فوق الرمال.
هذا الوضع الشائك والتكهنات المرعبة في سودان ما بعد الحرب وخلال الفترة الانتقالية الجديدة المتوقعة، ربما يقود إلى ولادة توترات أمنية بين الطرفين، خاصة وأن السودان شهد من قبل فترات ما بعد الحرب مع الحركة الشعبية بقيادة الزعيم الراحل جون قرنق وخلال اتفاقات السلام مع الحركات المسلحة في إقليم دارفور.
لذلك من بين المقترحات الموضوعة على طاولة الوسطاء في منبر جدة حسب التكهنات الواردة من هناك، أن يتم صنع مناطق عازلة بين الطرفين المتحاربين عبر قوات دولية لديها علاقة مرنة مع السودان، أي أن تكون قوات غير مرفوضة من السلطة القائمة ومن الطرفين المتحاربين.
هناك نماذج في دول الجوار خاضت حروب داخلية وأبرمت اتفاقات سلام، مثل جنوب السودان العام 2017 وإثيوبيا في العام 2022، حيث كانتا بمنأى عن القوات الدولية وتمكنتا من الصمود والمضي إلى الأمام في دفع الاتفاق السياسي بين الأطراف المتحاربة في حدود عدم انهيار الوضع الأمني، لذلك فإن إرادة الطرفين المتحاربين في تنفيذ أي اتفاق محتمل لوقف النار ربما تبعد السودان من القوات الدولية. وهي مقترحات أولية وليست نهائية، كما يقول المراقبون.
كما أن "ميكانيزمات" تقوية اتفاق وقف النار يعتمد بالدرجة الأولى على "وعي وتماسك الطبقة السياسية" التي ربما تنخرط في عملية سياسية لتكوين حكومة مدنية تتمكن من معالجة الوضع الأمني، بينما حتى هذه اللحظة الملاحظ بوضوح خلافات بين الأطراف السياسية خاصة الكتل والتحالفات المؤثرة خلال الفترة الانتقالية قبل الحرب.
ربما يحقق طي الخلافات بين قوى الحرية والتغيير "المجلس المركزي" والكتلة الديمقراطية بعض الاختراق السياسي في فترة ما بعد الحرب، أو قبل ذلك في إيقافها، لكن هذا مرهون بمدى التنازلات المقدمة من الطرفين. ومن الصعوبة ضمان عودة التحالف بينهما، لذلك فإنه ربما لن يجدي وضع التفاؤل حيال هذا الأمر. وربما يحتاج السودانيون إلى طبقة سياسية لديها القدرة على استيعاب التعقيدات والأزمات وضرورة تقديم التنازلات المؤلمة من أجل التحرك إلى الأمام.
وعلى الرغم من أن المجتمع الدولي أبدى اهتمامًا بائنًا في بداية الحرب، لكن عجزه عن إيقافها يضع ظلال الشك عما إذا كان قادرًا على حماية وقف إطلاق النار بين الطرفين المتحاربين، خاصة مع مصالح الدول الإقليمية ودول الجوار، وضعف الطبقة السياسية داخليًا وتعويلها على مجتمع دولي عاجز تمامًا عن حماية المدنيين في السودان خلال الحرب، بسبب تخليه عن الضغوط والأدوات المعروفة في هذا الصدد.
يحتاج السلام في السودان إلى طبقة سياسية لديها قدرة عالية جدًا للاستثمار في التناقضات الموجودة بين الطرفين المتحاربين
باختصار يحتاج السلام في السودان إلى طبقة سياسية لديها قدرة عالية جدًا للاستثمار في التناقضات الموجودة بين الطرفين المتحاربين، وشراء المستقبل عبر سلسلة تنازلات، مع الوضع في الاعتبار صنع مشروع وطني بدلًا عن وضع انتقالي تشوبه الاتهامات والرد عليها.