أمس الأول سيرتْ قوى ثورة ديسمبر، مواكب دعا لها وأيّدها عددًا من الأحزاب السياسية المحسوبة على تحالف الحرية والتغيير، بجانب كيانات مهنيّة وثورية، فيما لقيت الدعوات تحفظًا، أيضًا من بعض مكونات تحالف الحرية والتغيير نفسه. وكان حصيلة هذه المواكب، بحسب تقارير طبية ورسمية عشرات الإصابات المتفاوتة، وسقوط قتيلٍ شاب، بمنطقة الجريف شرق، شرقي الخرطوم. لكن السؤال الأكثر واقعية هنا، ماذا بعد هذه المواكب؟ وما الذي يترتب عليها في حقلي الأحزاب السياسية، والحكومة الانتقالية؟
أحد العلامات المهم الوقوف عندها هو تباين مواقف قوى الثورة من دعم موكب 21 أكتوبر
ما يُمكن قوله بشكل مباشرٍ الآن عقب مواكب الحادي والعشرين من أكتوبر أنّ شارع الثورة لم يعُد هو كما كان عليه. فالأعداد الضخمة التي كانت تملأ شوارع الثورة في السابق، والتي كانت تُقدّر –ببساطة- بالآلاف لم تظهر بالأمس بحسب متابعات مراقبين وإعلاميين. ويبدو أنّ عوامل عديدة أثّرتْ في خروجها، ربما من بينها تباين المواقف في الحاضنة السياسية للحكومة الانتقالية، وهي تحالف الحرية والتغيير. إذ لم تدعُ جميعها وتتفق على دعم الموكب، والمشاركة فيه. تترافق مع هذه التباينات في المواقف، تباينات أخرى شبيهة في لجان المقاومة، عظم الظهر بالنسبة لثورة ديسمبر. حيث لم تُساند العديد من لجان المقاومة بعدد من أحياء الخرطوم مواكب الحادي والعشرين من أكتوبر، ويتجلى عدم المساندة هذا في حجم الأعداد التي خرجت بالأمس.
أو ربما أمر آخر أثّر في خروج أعداد الثوار الضخمة، وهو التغريدة التي دونها الرئيس الأمريكي دونالد ترامب، الاثنين الماضي، والتي تلقاها قطاعٌ واسعٌ من السودانيين بفرح غامر، كونها تُعطي الضوء الأخضر لخروج السودان من قائمة الدول الراعية للإرهاب، وقبول الإدارة الأمريكية بالتعويض المالي للضحايا الأمريكيين في حادثة تفجير سفارتي أمريكا في دار السلام ونيروبي.
اقرأ/ي أيضًا: السلام وديمقراطية لوردات الحرب!
اللافت في ما بعد مواكب الحادي والعشرين من أكتوبر، أنّ كيانات سياسية ومسلحة كثيرة، كان تُصدر بياناتٍ في تفاصيل عادية، وفي أحداث عادية، وفي أحايين أقل من عادية، لكن لم يبْدُ منها أية ردود أفعال ما بعد المواكب، وتطورات الأحداث فيها، بالرغم من الإصابات المتفاوتة بين المشاركين في المواكب، وبالرغم من سقوط قتيل شاب. في المقابل أصدر كلٌ من والي الخرطوم، السيد أيمن نمر، بيانًا تحمّل فيه مسؤولية ما حدث من تقصير باعتباره المسؤول الأمني الأول بولاية الخرطوم. وكذا أصدرت قيادة الشرطة بيانًا، وهي ذاتها التي شاركت بعنفٍ غير مبرر في مناطق كثيرة.
أمر آخر لافت في مواكب الحادي والعشرين من أكتوبر، هو دعوة عدد من منسوبي النظام السابق، أو من المنتمين إلى تيارات الإسلام السياسي المختلفة، للمشاركة في ذات المواكب. وبالرغم من أنّ مطالبهم وأسبابهم مختلفة جذريًا عن مطالبات مواكب الثوار التي تدعو إلى دعم حكومة الفترة الانتقالية، وإلى ضرورة استكمالها لهياكل الحكومة، وحلحلة الأزمة الاقتصادية التي بدأت حبالها تُمسك في رقاب السودانيين رويدًا رويدًا.
وبمناسبة مشاركة المحسوبين على تيارات الإسلام السياسي في السودان، فإنّ واحدة من مألات مواكب الحادي والعشرين من أكتوبر، أنّها أظهرتْ وبجلاء؛ أن تهافتهم لمعارضة الحكومة الانتقالية بهذه الطريقة التي لا تخلو من سذاجةٍ سياسية، لا تُجدي. وأنّ نتيجتها؛ لن تكون بأية حالٍ من الأحوال عودتهم إلى مسرح الفعل السياسي قريبًا.
فالشاهدُ على سذاجتهم السياسية، أنّهم ظنّوا بأنّ الشعارات التي أسقطتهم، هي ذاتها التي من الممكن أنْ تُعيدهم، فظهرت ضمن هتافاتهم؛ هُتاف ثورة ديسمبر الشهير، تسقط بس، فاستخدموه. وظنّوا أن المواكب التي أسقطتهم ستُعيدهم، فسيّروا المواكب. وظنّوا بأنّ اختيار الأيام ذات الرمزية السياسية سيجعلُ منهم وطنيون ليتقبلهم الناس، فحاولوا الخروج فيها. وظنّوا بأنّ مفتاح التغيير سيكون وصول المواكب إلى القصر، أو إلى القيادة العامة للجيش، فحاولوا مراتٍ عديدةٍ ذلك، وعادوا بالغبار.
على قوى الإسلام السياسي أن تصل إلى قناعة بأن لا جدوى مما تقوم به من مواكب
كما شهدتْ عدد من أماكن المواكب المتفرقة بالخرطوم، احتكاكاتٍ هنا وهنا، بين شباب الثورة المؤيدين للحكومة الانتقالية، وبين منسوبي النظام السابق، تطوّر بعضها إلى تحرشات، وتحرشات مقابلة. وهو أمر إنْ تكرر في مستقبل المواكب والأيام؛ وإنْ لم تصل القناعة لدى منسوبي النظام السابق بقبول الأمر الواقع، وأن لا طائل مما يقومون به، لربما تكون نتيجته عنف أكبر من التحرش والاحتكاك.
واحدة من المظاهر التي يحسُن التوقف عندها، في حادثة مواكب الحادي والعشرين من أكتوبر، هو التعامل الذي لا يخلو من عنف مفرط من قبل قوات الشرطة، وبقية القوات الأمنية التي كانت مشاركة في حفظ الأمن. للأسف كانت النتيجة القاسية لهذا العنف المفرط؛ سقوط قتيلٍ شاب، وعشرات الإصابات المتفرقة، بسبب الغاز المسيل للدموع، والرصاص المطاطي، والحي.
وهو ما يدعو بشكل مباشرٍ إلى هيكلة القوات الأمنية، وتوعيتها بالطرق المثلى للتعامل مع المواكب السلمية، ولكون الشرطة تحديدًا حاميةً للمواطن، ومنفّذةً للقانون، وليست سوطًا للترهيب، وأداة قمع، وآلية قتل. وهذا لا يتحقق إلا عبر مسارين، الأول توعوي لأفراد قوات الشرطة، وغيرها من القوات الأمنية. والثاني، قانوني صارم، يُحاسب من يتجاوز صلاحيته إلى القتل. إذ من العيب الكبير أنْ يسقط قتيل في حكومة الثورة.
إلا أنّ ذلك كله، لا يلغي أنّ على الحكومة الانتقالية، الكثير من الضروري القيام به، والعمل على الإسراع في إنجازه بأسرعٍ وقتْ. وهذا الأمر ينسحب بالضرورة على الحاضنة السياسية للحكومة الانتقالية، التي يتوجّب عليها القيام في سياقاتٍ عديدة، تبدأ من الاقتصاد ومعاش الناس، وتمر بالإسراع في تكوين المجلس التشريعي، وبرلمان الفترة الانتقالية الحارس لعمل الجهاز التنفيذي والمراقب له، ولا تنتهي عند الإسراع في محاكمة رموز النظام السابق، وتحقيق ثالث شعارات ثورة ديسمبر، وهو العدالة.
على الحكومة الإسراع في إعفاء المسؤولين الذين ترى الجماهير أنهم أقل قامة من الثورة
كما أنّ على الحكومة النظر بجديةٍ في عمل أفراد جهازها التنفيذي، بالتعديلات والإعفاء لعددٍ منهم، خاصة الذين ترى الجماهير العريضة أنّهم أقل من قامة حكومة الثورة، وأقل من مطالبات الشعب السوداني الذي ثار وأسقط نظام الإنقاذ. وكذا في نقل مطالبات شارع الثورة العريض إلى واقع التنفيذ.
اقرأ/ي أيضًا