شاءت الأقدار أن أتجرع في الأيام العشرة الماضية علقم الحرب التي هربت بسببها من السودان إلى إثيوبيا. وكنت أحد السودانيين العالقين في "غوندار" إحدى المدن التي اشتعلت فيها اشتباكات عنيفة بين الجيش الفيدرالي الإثيوبي ومجموعة "فانو" الأمهرية في الأسابيع الماضية.
ويغادر مئات السودانيين يوميًا عبر الحدود إلى إثيوبيا، في طريق طويل يبدأ في العادة بالمناطق التي تشهد اشتباكات بين الجيش والدعم السريع، وينتهي في أديس أبابا حيث يقيم بعضهم هناك فيما يواصل آخرون رحلتهم إلى أصقاع الأرض، بعد أن عطّلت الحرب مطار الخرطوم الدولي، فاضطر مئات الآلاف إلى مغادرة البلاد عبر الحدود.
قبيل اشتعال الاقتتال بين الجيش الفيدرالي الإثيوبي والـ"فانو" في إقليم أمهرا، كنت قد وصلت إلى "غوندار" التي شهدت معارك دامية أودت بحياة العديد من الضحايا المدنيين، بينهم سودانيون
وفي الطريق إلى أديس أبابا عبر الحدود البرية السودانية الإثيوبية، يضطر هؤلاء اللاجئون والمهاجرون السودانيون إلى الإقامة بمدينة "غوندار" في إقليم أمهرا المتاخم لولاية القضارف شرقي البلاد، حيث يغادرون عبر مطارها الدولي إلى أديس أبابا أو إلى وجهاتهم النهائية، وهو المطار الأول عقب دخول الأراضي الإثيوبية عبر معبر المتمة الحدودي شرقي البلاد. وقبيل اشتعال الاقتتال بين الجيش الفيدرالي الإثيوبي والـ"فانو" في إقليم أمهرا، كنت قد وصلت إلى مدينة "غوندار" التي شهدت معارك دامية أودت بحياة العديد من الضحايا المدنيين، بينهم سودانيون.
في صباح يوم الأربعاء الثاني من آب/أغسطس الجاري، خرجت من غرفتي بالفندق الذي أقيم به في المدينة، بخطى واثقة لتناول وجبة الإفطار، ونزلت إلى الطابق الأرضي وطلبت مني "هيلين" مسؤولة الاستقبال عدم الخروج، موضحةً أن الوضع بالخارج غير آمن! استغربت الأمر وأخبرتها بأنني ذاهب لتناول الإفطار، لكنني سأخرج لأتحقق من الطرقات. خرجت إلى الشارع وكانت كل الأماكن مغلقة، معظم الشوارع "مُترسة" وتنعدم فيها حركة السيارات و"الركشات"، في ظل حركة طفيفة للمواطنين. لم أعر الأمر اهتمامًا، واكتفيت بالذهاب إلى "كشك" يبيع المواد الغذائية.
في ظهر ذلك اليوم شاهدتُ مواكب صغيرة نسبيًا تهتف وتتغنى وترفع أعلام إقليم أمهرا. كانوا مسلحين بالعصي والأسلحة البيضاء، وسمعت أعيرة نارية خفيفة، وانتهى اليوم باحتجاج شعبي وإغلاق للطرقات.
صبيحة الخميس الثالث من آب/أغسطس الجاري تأزم الوضع سريعًا، مع انتشار أنباء تفيد باشتباكات مسلحة بين جماعة/مليشيا/حركة "فانو" والجيش الفيدرالي الإثيوبي في عدة مدن من إقليم أمهرا، ألغيت على إثرها جميع رحلات الخطوط الإثيوبية إلى "غوندار" و"بحر دار" و"لاليبيلا"، وهي أكبر مدن إقليم أمهرا، مع أخبار عن سيطرة "فانو" على مطار "غوندار"، ولكن حتى تلك اللحظة لم يكن الوضع خطرًا في أجزاء كبيرة من المدينة، ولا سيما منطقة وسط المدينة "بياسا" التي أقطن فيها.
إلى اليوم الثالث كانت كل الأوضاع هادئة تمامًا ولا توحي بأي صورةٍ من الصور بأن هناك حرب دائرة، كما كان يصورها التفاعل السوداني على مواقع التواصل، لا سيما وأن كل من تسأله من أهل المدينة عن الوضع يقول إنها "احتجاجات" وسيعود المطار إلى العمل قريبًا، ربما بعد يوم أو يومين، ويستتب الأمن.
بعد ظهر اليوم الثالث تبين أن الأمر أكبر من مجرد "احتجاجات"، بل كانت حربًا مكتملة الأركان، فقد علمنا أن "فانو" قد فرضت سيطرتها على أغلب مدن إقليم أمهرا، وأغلقت كل الطرق البرية والجوية بمساعدة شعب الإقليم، وتقدمت وسيطرت سيطرة شبه كاملة على مطار "غوندار" والقيادة المركزية الغربية للجيش الفيدرالي الإثيوبي، فيما احتمى الجيش بآخر منطقة له هي أعلى قمة جبل "بووها" وسط مدينة "غوندار".
حاصرت "فانو" الجيش الفيدرالي في ذلك اليوم وفرضت طوقًا أمنيًا شمل مساحات واسعة في "غوندار"، ومن ضمن تلك المناطق منطقة وسط المدينة والتي تشمل الفندق الذي كنت أقيم فيه. ولم يمض وقت طويل حتى أتى مقاتلون ومقاتلات "فانو" ليستغلوا سطح مبنى الفندق في نشر قناصة. انتشروا هناك وفي أسطح مبانٍ أخرى قريبة من الفندق. في اليوم الأول جاء ضابط رفيع من "الفانو" واصطحب مسؤولة الاستقبال وطاف على كل الغرف. وطلب هذا الضابط من كل النزلاء من الجنسية الإثيوبية تسليم هواتفهم المحمولة، وتحفظوا عليها في الاستقبال.
كنّا نحو (14) نزيلًا، وكنتُ أنا السوداني الوحيد، مما صعّب عليّ الأمر كثيرًا، نسبةً إلى حاجز اللغة في التواصل لفهم ما يجري بالتحديد، وعدم إجادة الكثير منهم للغة الإنجليزية.
ابتداءً من اليوم الرابع وصل الأمر مبلغًا من السوء لا يُمكن وصفه، فقد انقطعت الكهرباء وشبكة الاتصالات والإنترنت والمياه، ليس ذلك فحسب، وإنما انعدم الأكل تمامًا! في الأيام الأولى كان يجري توصيل الطعام إلى داخل الفندق من قبل أصحاب المطاعم المحلية المجاورة، ولكن قناصة الجيش الفيدرالي الإثيوبي صاروا يصطادون كل من يقع تحت منظار بنادقهم في تلك المنطقة!
مع تكشف حقيقة الوضع، انتبهت أنه ليس معي ما يكفي من الماء والطعام، فقد كان كل مخزوني من المأكولات عبوتا بسكويت "محشي" بكل عبوة ست قطع مزدوجة، وزجاجة عصير مانجو (500) لتر، وقارورتا ماء سعة الواحدة (600) مليلتر، في ظل غياب أي رؤية لإمكانية الخروج، أو أن يخاطر أحد ما بحياته لأجلنا!
أي تجربة يمرُ بها المرء يدخلها وهو محملٌ بحمولات نفسية وأحكام مُسبقة، وبناءً على التجربة القريبة في السودان "ساعة الحسم"، فقد رفض عقلي ترجيح أي فرصة لانتهاء الصراع قريبًا، لذلك قررتُ تقسيم ما لدي من مخزون ليكفيني لأطول فترة ممكنة، واضطررت إلى تقسيم كمية المياه التي عندي رياضيًا لخمسة أيام، كنت قد عزمت بعدها على الخروج مهما كلف الأمر.
طوال تلك الأيام كنت "أستخدم الساتر" تحسبًا للرصاص ليلًا ونهارًا، واضطررت إلى توضيب الأوراق المهمة وبعض الملابس في حقيبة ظهر وتركت كل شيء آخر، حال ساءت الأمور واضطررت إلى الخروج مُرغمًا.
مررنا بتجربة يومين من دون طعام وقدر قليل من الشراب، مع الكثير من الرصاص، وفرص عالية للتعرض للقنص في حالة الخروج. كانت تجربة مريرة لا أعرف كيف أكتبُ عنها بصورة مرتبة إلى الآن، ولكن الذي أعرفه هو أنني كنت متمسكًا جدًا بالنجاة.
استمرت حالة انعدام الحياة هذه لما يُقارب خمسة أيام، يشتد فيها القتال وينخفض خلال اليوم، ويتوقف للحظات عندما تهطل الأمطار، وذلك هو الوقت المناسب الذي كان كل النزلاء يستغلونه للزحف خارج غرفهم للتجمع في الطابق الأرضي للفندق -الاستقبال- حيث يتشارك الجميع في القليل مما عندهم من ماءٍ أو طعام أو مكسرات، وحيث يتبادلون الأخبار والتطورات. وأيضًا هو الوقت الوحيد الذي يُسمح فيه للنزلاء الإثيوبيين بإجراء مكالمة هاتفية واحدة إلى ذويهم.
كان من ضمن النزلاء في الفندق ستة محاضرين جامعيين من جامعات إثيوبية مختلفة جاؤوا إلى مدينة "غوندار" أساتذة زائرين حتى اندلعت الحرب. خلال حديثي إلى أحدهم، أخبرني بأن وضعهم هذا أشبه بالسجن، وأنهم في حالة "إقامة جبرية"، ولا يسمح لهم بالاتصال مع الخارج بحرية، ولا يمكنهم الخروج من الفندق.
في اليوم الرابع من انعدام الماء والطعام واليوم السابع للحرب تجمّعنا عصرًا في الطابق الأرضي للفندق، حينها بلغ البؤس والخوف واليأس قمته، حيث بدأت المعارك في ذلك اليوم منذ الرابعة صباحًا، واشتدت خلال ساعات الصباح الأولى. اخترق رصاص قناصة الجيش الفيدرالي معظم الغرف في الطوابق العلوية للفندق، تحديدًا الثاني والثالث، وكُنت أسمع بوضوح صوت قناص من "فانو" ومساعده وهم يتحدثون بلغةٍ لا أفهمها، ولكنهما يُطلقان وابلًا من الرصاص بصورة جنونية تجاه قمة جبل "بووها"، وكانت أغلفة الرصاص تتدحرج على سيراميك أرضية الممر أمام غرفتي تمامًا حتى تستقر تحت الباب مباشرة.
عند منتصف النهار هطل المطر بصورة غريزة مما تسبب في توقف إطلاق النار لفترة طويلة، تسللنا بحذر إلى الطابق الأرضي يملأنا القلق والخوف والتوتر بعد انتشار أخبار مفادها بأن الجيش الفيدرالي ربما قد يضطر إلى استخدام طائرات مسيرة "درونز" ضد الـ"فانو"، وأن إمدادًا من عتاد عسكري ودبابات قد وصل إلى الإقليم، ما يزيد من احتمالية استخدام السلاح المتقدم لحسم الحرب، وأن الفندق الذي نُقيم فيه سيكون ضمن أول الأهداف العسكرية.
بدأ الأساتذة الجامعيون بمكالمة ذويهم، وانفجر أحدهم بالبكاء الشديد، لم أفهم ما يجري بالفعل، وعندما استفسرت، وجدتُ أنه يفتقد عائلته، ويفتقد ابنه، حينها أيقنتُ أن الوضع يُشارف على النهاية، فإما بالموت جوعًا وعطشًا أو أن يُدكّ الفندق على رؤوسنا.
بعد ساعة من ذلك الموقف توقف إطلاق الرصاص تمامًا، وعم هدوءٌ غريب المكان. بعدها علمنا بأن قوات "الفانو" قررت الانسحاب وخرجت من المدينة.
هنا لم تنته الحرب ولم تعد الأوضاع إلى حالتها الطبيعية، فقد أعلنت الحكومة عن حظر للتجوال يبدأ عند السابعة مساءً، وحظر كامل عن الحركة لمركبات "الركشة" لأسبوعين. وما تزال خدمات الإنترنت مقطوعة تمامًا عن كامل الإقليم، مع قطع كامل للاتصالات والمكالمات الهاتفية خلال الليل، وعودتها في الصباح.
أثناء هذه الأحداث عانى السودانيون كثيرًا، خاصة العوائل وكبار السن، وتوفي عدد من السودانيين
وحتى كتابة هذه الأسطر، ما تزال الأوضاع مأساوية في إقليم أمهرا، في ظل ازدحام غير مسبوق في مطار "غوندار"، وصعوبات في الحصول على تذاكر السفر إلى العاصمة أديس أبابا.
أثناء هذه الأحداث عانى السودانيون كثيرًا، خاصة العوائل وكبار السن، وتوفي عدد من السودانيين -لا أملك إحصائية دقيقة- منهم من كبار السن أصحاب الأمراض المزمنة، ومنهم من أصابه الرصاص الطائش، وواحد تأكدت شخصيًا من وفاته بالجوع!