بعد غياب لاثني عشر عامًا تعود المخرجة جين كامبيون إلى مهرجان البندقية السينمائي بفيلمها الفائز بجائزة الأسد الفضي لأفضل إخراج "قوة الكلب The Power of the Dog". هذا الانقطاع لعقد وحولين كان برؤية جديدة من آخر فيلم لها "النجم الساطع"، يذكرني تمامًا بعودة المخرج تيرانس ماليك إلى السينما بعد انقطاع طويل.
هذا العمل بطابع الويسترن الأمريكي هو ثورة جديدة لدهاليز هوليود، لكن لن تجد فيه تلك الطبيعية البربرية الشرهة للقتل والسطو المسلح، لن تجد رعاة بقر وسكان يختبئون في منازلهم أثناء النزالات الحرة وقتلة مأجورون وصائدو جوائز وعصابات مقنعة بأكياس أقمشة وقطاع طرق وعمدة وشريف، بل هذه المرة نجد انغماسًا في ذوات هؤلاء الأشخاص بشكل أعمق من خلال فهم تسلسل نوايا هذه الشخوص.
هذا العمل من أكثر إنتاجات نتفلكيس تعقيدًا عاطفيًا
هذا العمل من أكثر إنتاجات نتفلكيس تعقيدًا عاطفيًا، حيث يتناول موضوعات رئيسية تتمثل في الذكورة السامة وانعدام الأمان الذي يثني الفرد عن إبراز ذاته ونفسه في المجتمع، وكل هذا التعقيد يتمظهر في "فيل"، القائد المخيف وراعي البقر القاسي مثل جلودها، لكن في أعماقه يريد الاتصال بشخص كما فعل مع "برونكو هنري" معلمه في الخيالة.
اقرأ/ي أيضًا: "الألم نفسه" على خشبة المسرح الوطني بالعاصمة المغربية الرباط
هذه الدراما واقعية خالية من تلك الرمسنة في الحقيقة، وهي اقتباس من رواية قوة الكلب للكاتب توماس سافاج، لكن بتحريفات ميلودرامية لتناسب السياق السينمائي. وأعتقد أن هذا العمل يمتاز بأعظم "حبكة ملتوية Plot Twist" وأكثرها عبقرية.
أبطال الفيلم فيل بوربانك "بنديكت كامبرباتش"، الذي يعمل مع أخيه الأصغر جورج "جيسي بليمنز"، وشخصية بيتر "كودي ماكفي" التي يغلب عليها الانطوائية والغرابة والعزلة والهشاشة ببشرته البيضاء جدًا وجسده النحيل وقمصانه النظيفة المكوية والمشط الذي في يده -هي عكسية تمامًا لإنسان الغرب راعي البقر الذي يغلب عليه الطابع العشوائي وعدم الاهتمام بالنظافة وبصق التمباك في آنية الأسنان المصفرة، والخشونة وتعالي صوت الذكورة وهذا أكثر ما استفز فيل بشان بيتر منذ اللحظة الأولي للفيلم عندما قام بحرق الورود التي صنعها من الورق واستخدمها لإشعال التبغ.
وتتوالى لقطات التنمر والرفض الصريح لهذا الفتى المدلل الذي ينوي أن يغدو جراحًا أنيقاً بدلًا من راعي بقر خشن. أما جورج شقيق فيل، فهو شخصية متحجرة نادرًا ما يتحدث أو يصرح، بارد الملامح وتصرفاته غير متوقعة، لا أظن أحدا قد يجيد هذا الدور ببراعة جيسي بليمنز.
والدة بيتر، روز "كريستن دانست"، الأرملة الوحيدة التي تمتلك مطعمًا، حيث توفي زوجها منتحرًا، وهي تجرب حظها من الزواج بجورج شقيق فيل، وتُقدم للعيش معه في منزلهم الكبير حيث تسرف في الشراب بسبب علاقتها المحتقنة والمضطربة مع فيل حماها الذي يُظهر لها ذات العداء.
ولكن لنلقي نظرة تشريحية لهذا المجتمع الصادح بالذكورة المفرطة والمهترئ الخَدر الهَوان داخليًا، هذا الفيلم يذكرني في جاذبيته بفيلم "ستسيل الدماء There Will Be Blood" لبول أندرسون في ذلك التفكيك والتحليل النفسي.
يفرض هذا العمل السينمائي جدلًا واسعًا في قضايا كثيرة، أهمها الذكورة الصارخة والـ"Alpha Male" والمثلية الجنسية والجنسانية. هذا الفيلم حقًا تجريد فرويدي بحت ولا ننسى أنه من إنتاج نتفليكس الرائدة في هذا المجال -حسنًا مجرد تعليق ساخر فحسب.
لم يكبح فيل جماح نفسه واندفاعيته من تأثير عقده على الفتى بيتر عندما كان يدعوه بالمخنث أمام مرأى الجميع، في حين أن بيتر شك في ميوله المثلية عندما نشأت بينهما علاقة ودية فيما بعد حينما أراد أن يصنع له حبلًا مضفورًا يستخدمه رعاة البقر.
علي القرب من نهاية أحداث الفيلم يسأل فيل بيتر عن برونكو هنري صديقه المقرب راعي البقر الفذ الذي ورث عنه فيل مهارته في الفروسية وكان متأثرًا به حتى بعد وفاته وفي غالب إيقاعات الفيلم. يجيب فيل بتردد أنه كان أكثر من صديق عندما ناما متلاصقين في كيس نوم في ليلة شديدة البرودة وكانا عاريين تمامًا، عندها ينكشف الوجه الآخر العكسي لتلك الرجولة الصارخة ويسقط قناع الذكورة. هنا فقط تأكدت كل شكوك بيتر حول هذه الشخصية، ويستمر فيل بعقدِ الحبل الجلدي الملوث الذي قدمه له بيتر، هذا الحبل الجلدي المسمم بالجمرة الخبيثة لحيوان ميت يلوث فيل في جرحه المفتوح على يده. إثر ذلك يستيقظ بوعكة صحية ليموت بعدها، وهنا يظهر انقلاب الحبكة العظيم، عندما يتضح أن هذا مخطط بيتر منذ البداية للتخلص من فيل وحماية والدته والاستيلاء على أملاك زوجها.
يستغل بيتر مثلية فيل الجنسية لحبك مؤامرة للتخلص منه نهائيًا والوفاء بعهده في السرد الافتتاحي للفيلم بحماية والدته، ويصبح كلب الألفا في المكان، ومن هنا تجسد عنوان الفيلم المستوحى من الكتاب المقدس المزمور 22:20، عندما كان يسوع يتألم على الصليب ونصه: "نجني من السيف وحياتي الثمينة من قوة الكلاب"، حيث قوة الكلب هي كل تلك الالحاحات والمحفزات الداخلية التي لا يمكن السيطرة عليها وتسبب ذلك الدمار، هذه الثيمة هي التي تزين الإيقاع السردي للفيلم.
اقرأ/ي أيضًا: حوار| الروائي عاطف الحاج سعيد: أنا أستمتع بالكتابة وبعملية التخييل
بيتر هو رؤية للمكر والدهاء، الجندي الفائز على لوحة الشطرنج مرتديًا قفازه ويعيد الحبل الذي صنعه فيل أسفل السرير وينظر لوالدته وزوجها جورج من أعلى النافذة مع ابتسامة خبيثة على محياه. بيتر القسوة الحقيقة التي تحدث عنها والده قبل أن يشنق نفسه، عن أنه يخشى أن بيتر ليس لطيفًا كفاية وأقوى من اللازم.
أحداث الفيلم حقًا مقتبسة من حياة الراوي الأصلي للقصة المثلي المنغلق والمضطرب توماس سافاج
الأدوات الإبداعية في هذا العمل مذهلة؛ تصوير الوقائع في تلك الجغرافيا الشاسعة للغرب الأمريكي مناظر الشروق وانعكاس أشعة الشمس هي ما يدعم ذلك الوجه الاحترافي للفيلم.
أما الموسيقي من إعداد جوني غرينوود، تتراقص مع الأحداث وتنساب أصوات الكمان متأججة مع المشاهد الخشنة مع المشاعر، هذه الديناميكا المتوترة بين الشخصيات تتضارب مع العديد من الأوتار المقطوعة لخلق هذا الجو الاضطرابي الشاعري الجميل.
هذه الأحداث حقًا مقتبسة من حياة الراوي الأصلي للقصة توماس سافاج، حيث تصفه صحيفة النيويورك تايمز بأنه رجل مثلي الجنس ومنغلق استفاد من سنوات تكوينه والعمل في حقول ومزارع مونتانا.
اقرأ/ي أيضًا
الفترة الانتقالية والسياسات الثقافية.. تحديات إدارة التنوع في السودان