31-يوليو-2022
د. جون قرنق دي مبيور

د. جون قرنق دي مبيور

في الثلاثين من تموز/ يوليو 2005، تحطمت بصورة غامضة طائرة قائد ومؤسس الحركة الشعبية لتحرير السودان الدكتور جون قرنق دي مبيور، ليلقى الرجل حتفه بعد ستة أشهر من توقيع اتفاقية سلام بين الحركة وحكومة الخرطوم، أنهت أطول حرب أهلية عرفها العالم. وبعد (21) يومًا من تسلمه منصب نائب رئيس الجمهورية في السودان.

ولد جون قرنق في العام 1945 في مبيور قرب مدينة بور بولاية أعالي النيل، وهو ينحدر من قبيلة الدينكا المشهورة في جنوب السودان.

ما الذي تبقى من مشروع السودان الجديد بعد مرور 17 عامًا على رحيل زعيم الحركة الشعبية لتحرير السودان الدكتور جون قرنق دي مبيور؟

 أرسلته عائلته المسيحية إلى الولايات المتحدة لتلقي تعليمه، حيث درس في كلية غرينيل بمدينة أيوا، حيث نال شهادة البكالوريوس في الاقتصاد عام 1969 في الولايات المتحدة، ومنها نال الدكتوراة في الاقتصاد الزراعي. وإضافة إلى تأهيله الأكاديمي الواسع، كان منذ صغره مشاركًا فاعلًا في الحركات المتمردة وملتصقًا بقضايا أهله على الدوام.

وفي عام 1962 شارك قرنق في حرب العصابات بداية الحرب الأهلية مع "حركة أنانيا" الجنوبية، وبعد عشر سنوات وقعت الحكومة المركزية اتفاقًا مع الحركة وصار الجنوب منطقة حكم ذاتي، واستوعب الجيش السوداني قرنق ضمن صفوفه برتبة نقيب، ثم سافر إلى أميركا للدراسة والتدريب، وما إن رجع عام 1981 حتى عين عقيدًا في الجيش.

في عام 1983 كلف قرنق بإخماد تمرد قامت به كتيبة من الجنوبيين قوامها نحو (500) جندي، لكن المتمردين أقنعوه بعدالة قضيتهم ونصبوه زعيمًا لهم. شكل بعدها د. جون نواة ما سمي بالجيش الشعبي لتحرير السودان، الجناح العسكري للحركة الشعبية لتحرير السودان، مدشنًا ما عرف بمشروع "السودان الجديد".

وبحسب الحركة الشعبية فإن مشروع السودان الجديد هو مشروع فكري سياسي يهدف إلى إعادة هيكلة الدولة السودانية على أسس جديدة هي المساواة والعدالة والحرية وصولًا للوحدة الطوعية، ويسعى إلى تحقيق النهضة والتحديث والتقدم. وهو مشروع يطرح نفسه بديلًا للدولة السودانية القائمة، أي "السودان القديم"، لأنها تقوم على أسس وتوجهات تتناقض مع قيم الحرية والعدالة والمساواة والتقدم، وفقًا للمشروع.

وفاة الزعيم واستقلال الجنوب

مثّلت وفاة زعيم الحركة الشعبية لتحرير السودان جون قرنق دي مبيور، في مثل هذا اليوم قبل (17) عامًا علامة فارقة في تاريخ السودان الذي انفصل إلى دولتين، عانت من حروب أهلية وأزمات اقتصادية. 

ويرى كثيرون، أن انفصال الجنوب وتكوين دولته المستقلة، إحدى نتائج غياب قرنق عن المشهد السوداني. وقد كان للرجل توجّهات وطموحات بعيدة عن الانفصال كلّيًا، إذ تطلع إلى قيادة السودان الموحّد.

وبعكس أغلب قادة حركات التمرد الجنوبية، كان قرنق وحدويًا، يأبى انفصال السودان، ويحلم ببناء سودان جديد، وتحريره من سياسات النخب الشمالية التي ورثت الاستعمار. 

وينظر الكثيرون لذاكرة الثلاثين من تموز/يوليو بأنها ذاكرة لنعي مشروع السودان الجديد أكثر منها مناسبة يستعيد فيها المتعاطفون مع الحركة الشعبية مساهمات قائدها صاحب الإمكانيات السياسية الخاصة، ولأي مدى ساهم غيابه فيما آلت إليه الأوضاع في دولتي السودان جنوبًا وشمالًا.

الفشل شمالًا وجنوبًا

وعلى عكس ما هو مأمول، انتهى مشروع السودان الجديد لدولتين في جغرافيا "السودان القديم"، مع سيادة نفس قيم الانقسام والحروب، حيث تقوقع الجنوب في مربع الصراعات، ومشروع الدولة التي هلل البعض لقيامها بات مهددًا بالتفكك، شأنه شأن السودان، الذي خسر وحدته الوطنية"، حيث لم يكن من تسلّموا قيادة الجنوب على قد المسؤولية، وكذلك الحال في الشمال.

بوفاة قرنق، انفصل جنوب السودان وانقسمت الحركة الشعبية واشتعلت الحرب الأهلية في الدولة الوليدة. أمّا على مستوى شمال السودان، فاشتعلت الحرب من جديد في ولايتي النيل الأزرق وجنوب كردفان فضلًا عن استمرارها في إقليم دارفور، وهي خيارات كان من الممكن تفاديها بحسب ما قال في وقت سابق المفكر السوداني الراحل منصور خالد.

ويذكر أن القيادي في الحركة الشعبية وأحد مفكري مشروع السودان الجديد الراحل د. منصور خالد، كان قد حمّل المؤتمر الوطني نتيجة الانفصال بفعل سياساته أثناء الفترة الانتقالية، حين كان يمد لسان سخريته من النص الخاص بجاذبية الوحدة.

https://t.me/ultrasudan

 بالنسبة إلى منصور خالد، فإنّ الجنوبيين وهم يمضون باتجاه صناديق الاستفتاء وجدوا أنفسهم في طريق واحد هو الانفصال، ولم يكن هناك ما يغريهم بالبقاء في دولة "تتجاذبها خيوط الفشل"، على حد تعبيره.

يضيف منصور خالد أنه كان بالإمكان تجاوز ما حدث، لكن صاحب كتاب "قصة بلدين" كان يراهن على كاريزما الراحل الدكتور جون قرنق دي مبيور لجذب الجنوبيين إلى خيار الوحدة، ويبدو أنه خسر الرهان بوفاة عرّاب مشروع السودان الجديد في حادث تحطم طائرة بيوغندا في العام 2005.

مشروع السودان الجديد

في ذكرى رحيل قرنق يكتب نائب رئيس الحركة الشعبية وأحد من يطلق عليهم لقب "اولاد قرنق"، ياسر سعيد عرمان، مقالة يؤكد فيها أنه وبعد (17) عامًا من رحيله؛ قرنق ما يزال جميلًا، لا يزال هو نفس الثوري الذي بني الجسور وحطم الحيطان، ولا تزال بصماته باقية وتتمدد بتأثيرها - على حد قوله. ولكن السؤال اليوم يبدو متجاوزًا للراحل وقدراته وكاريزما حضوره لصالح السؤال الأكثر الحاحًا وهو ما الذي تبقي من المشروع؟

يجيب الطيب عبد السلام وهو أحد دعاة إعادة النظر في التعاطي مع مشهد السياسة السودانية متسائلًا: وأليس من يتقاتل اليوم على رئاسة الحركة الشعبية شمال هم تلامذته؟

ويكمل: "من يتصارعون بالسلاح في الجنوب هم “جيشه الشعبي، ألم يكن في وسعه إنشاء حركة شعبية ديمقراطية تعددية بدلًا عن سيطرة الدينكا عليها ليدفع الجميع فاتورة ذلك؟"

وفقًا لعبدالسلام، لم يكن المشروع أكثر من مطية للوصول لقصر الحكم، قائلًا: "ها نحن نرى تلامذته الكبار يواصلون ذات مشوار القتال على السلطة والجاه"، وبالنسبة له فإن أكثر ما كانت تسعى له الرؤية هو الوصول بدعوتها إلى بوابات قصر الحكم. "لم يكن سودانًا جديدًا ولن يكون، كان المشروع محض مطية للسلطة وسيظل كذلك"، يقول الطيب عبدالسلام.

"الحركات" الشعبية

وبالنسبة للكثيرين فإن ما جرى طوال سنوات "ما بعد نيفاشا" لا يعدو سوى تأكيدًا على النزاع السلطوي وليس للأمر علاقة بمشروع إعادة البناء الوطني وفقًا لأسس جديدة، ويعززه ما يجري الآن في مسرح ما تبقى من الحركة الشعبية، حيث يتنازع سلفا كير ومشار على كرسي الرئاسة في جوبا، ولا يبدو مشهد الشمال مختلفًا حيث يتنازع الحلو وعقار حول من الأحق بقيادة المهمشين لإنجاز ثورتهم الثانية، في صراعات لم تنجح الثورة السودانية التي حملت ذات شعارات المشروع في وضع نهاية لها.

كان مشروع قرنق وتحول إلى مجرد شعارات فضفاضة تفتقر الى التفاصيل والحفر العميق وفقًا الصحفي المقرب من الحركة الشعبية فائز السليك. وفي تصريحات لـ"التراسودان" يقول السليك إن الممارسات هزمت المشروع .

ويردف السليك: "كان مشروع قرنق وكاريزما القيادة التي يمتلكها وكان رحيله الفاجع أولى الصدمات التي وجهت للمشروع لارتباطه باسمه، وما تبع ذلك من أحداث دراماتيكية زادت الشروخ بين الشمال والجنوب، ثم جاءت الضربة الأكثر إيلاما للمشروع بانفصال جنوب السودان".

وبحسب السليك ما زاد الطين بلة تداعيات الحروب الإثنية في الجنوب بين رفاق شعار السودان الجديد. ومثلت عملية انقسام الحركة في الشمال في عام 2017 طعنة جديدة في جسد المشروع.

صحفي: السودان يحتاج إلى مشروع وطني بذات شعارات السودان الجديد بغية إعادة هيكلة مؤسساته وفق رؤية جديدة

ويختم السليك: "السودان يحتاج إلى مشروع وطني بذات شعارات السودان الجديد بغية إعادة هيكلة مؤسساته وفق رؤية جديدة لتكوين دولة بمواصفات حديثة تحترم المؤسسات والأفكار، ولا تتغذى من دماء الصراعات الإثنية".

وبعد (17) عامًا ما زال رحيل قرنق لغزًا تتنازعه التحليلات والتكهنات بتدبير مقتله، مقابل تصريحات رسمية ترجعه للأحوال الجوية. فيما يظل السودان الكبير، وربما العالم بأسره الخاسر الأكبر لشخص وطني مخلص لم تتحقق رؤاه حتى اليوم.