29-أكتوبر-2023
احتجاجات نساء في السودان ضد التطبيع

(أرشيفية/غيتي)

مع انفجار حدث الطوفان في السابع من تشرين الأول/أكتوبر الجاري، خبا بريق الصراع المشتعل في خرطوم الـ"لاءات الثلاث" وهي التي أجرت فيما سبق قطيعة مفاجئة مع تاريخها النضالي بموجب تقديرات لحظية أملتها ظروف الفاقة والحاجة إلى تعويض الموارد المهدرة بسبب الانفصال. كان الفريق طه عثمان الذي جمع بجانب إدارة مكاتب الرئيس وممارسة دبلوماسية القصر بوصفه أوثق مندوب يعبر عن لسان حال البشير، ومقاله يسابق الخارجية في قطع العلاقات مع طهران، ويسارع في تحديد الوجهة المضادة لما رسخته الإنقاذ كدولة مشروع لا مشروع دولة، وهو يقرر على نحو حاسم الانضمام إلى "عاصفة الحزم" بما تعني محاربة طهران في اليمن.

سيجد الباحث أثرًا لـ"إسرائيل" في معركة السودان الراهنة والممتدة ميادينها من أم دافوق وأم جرس وحتى أم مغد وفي عمق العاصمة الخرطوم

كانت خرطوم اللاءات تعانق عوالمًا من "نَعَم" لأجل ما ورائها من "نِعَم" وهي تيمم وجهة جديدة عليها وتعاظل واقعًا شديد الوطء ثقيل العبء إذ لم يحسن ساكن قصرها لعبة الرقص على رؤوس الثعابين بعد أن مل "العرضة" على أعناق الجماهير وملته، وبدت إدارة تناقضات الداخل والخارج أعقد مما عهده فيما خلا من أحداث ومواقف فأتى بنقيض طه الأزلي المكنّى "قوش" على ذات النهج ليقارب التطبيع من باب العلاقة المخابراتية ويلتقي كوهين في فرانكفورت ضمن رؤية أوسع لما سمي تاليًا العودة إلى حضن المجتمع الدولي.

وفي مرحلة لاحقة، بدا البرهان ومن غدا منافسه الحميم "حميدتي" يسارعان الخطى إلى استتمام التطبيع، ويدخلان إلى "إسرائيل" من أبواب متفرقة لا كما فعل "شباب المقاومة" هناك عنوة واقتدارًا. لتجد نخبة تل أبيب نفسها مضطرة إلى تجريب الحياد الظاهري وهي تعلن رغبتها في التوسط بين طرفي المعادلة\الصراع في السودان وإخفاء ولوغها في دعم طرف دون طرف وفق طريقتها الأثيرة، أو كما قال كونديرا: "العوالم السرية هي المجال الحقيقي للعبة الساسة".

أيادي العدو

سيجد الباحث أثرًا لـ"إسرائيل" في معركة السودان الراهنة والممتدة ميادينها من أم دافوق وأم جرس وحتى أم مغد وفي عمق العاصمة الخرطوم، وعلى فضائها الغربي الذي عانى كثيرًا منذ اندلاع أزمة دارفور في 2003 وأدت لأول مرة إلى وصول أفواج من أبناء الإقليم إلى مدن فلسطين المحتلة ونشوء جاليات وجمعيات صداقة شعبية. سيجد أن أسلحتها وتكنولوجيتها وأجهزة تنصتها وجماعات ضغطها في البرلمانات الغربية حاضرة. سيعثر ليس فقط على فعالية راجماتها في دقة التصويب وتحديد الأهداف كما ذكرت مصادر متطابقة، ولكن في جهودها المتواصلة للحصول على أكبر كنز معلوماتي من مظانها ومصادرها في مقرات المخابرات ومؤسسات الدولة الرسمية ودور الأحزاب ومنظومات العمل وما استطاعت بلوغه من سفارات غربية وعربية وأفريقية، وفي هذا الصدد أفاد مصدر خاص أن واحدة من أهم السفارات التي تقع في قلب الصراع مع دولة الكيان استطاع طاقمها المحترف أن يخرج سجلاته ووثائقه كلها ويؤمنها من الملاحقة ويفلت من أكبر شرك مخابراتي تم نصبه بذكاء ومكر.

الرئيس المخلوع عمر البشير ومدير جهاز الأمن والمخابرات الوطني السابق صلاح قوش
الرئيس المخلوع عمر البشير ومدير جهاز الأمن والمخابرات الوطني السابق صلاح قوش

ويفيد مصدر أمني أن الصراع المخابراتي بلغ أشده في سنوات الإنقاذ الأخيرة واستطاعت الأجهزة الإسرائيلية أن تخترق الحلقة السرية التي تدير ملف المقاومة وتحصل على معلومات في غاية الأهمية والحساسية، وهو الأمر الذي دعا ضمن دوافع أخرى رهطًا نافذًا في الدولة إلى ترجيح التطبيع الذي بدا عقبة كأداء في استعادة العلاقة مع الغرب. ويرى ذات المصدر أن تكوين الدعم السريع في أعقاب اشتعال الموجة الأولى من الربيع العربي لم يقصد منه حماية النظام من أن تشمله الموجة الثانية وهو الأمر الذي حدث فعلًا على نحو مصنوع -كما يرجح ذات المصدر- إذ تطرق البشير في أنس خاص إلى أن السودان والجزائر هما أكثر بلدين ممانعين لإغراءات التطبيع، وأن اشتعال المظاهرات فيهما بشكل متزامن يظهر قدرات العدو على الاختراق.

اختراق

"الاختراق" هو كلمة السر فيما جرى بحسب المصدر، وهو الآلية المتبعة في إدارة المعارك الجيوسياسية في المحيط الإستراتيجي لدول الطوق، إذ تنتصب كثير من الشواهد التاريخية والعيانية على تدخل "إسرائيل" في تأزيم الصراعات السودانية كما تؤكد دراسات ووثائق نشرت مؤخرًا. وأشار دكتور تجاني عبدالقادر حامد إلى أن الدعم السريع الذي نشأ كجماعة وظيفية بغير فلسفة أو رؤية وطنية جامعة وضم شبكة ضخمة من العسكريين والأمنيين والإعلاميين ورجال الأعمال وزعماء العشائر، سرعان ما تخلق في ظروف غفلة داخلية واختراق إقليمي ودولي. وعبر سعيه المحموم للاستحواذ على السلطة والثروة لم يمتنع الدعم السريع عن الانخراط في أجندات لا يدرك غاياتها ويقاتل عدوًا غير معلوم تحت شعارات لا يدرك مضامينها. ويعتقد د. تجاني في مقال تحليلي مطول ومعمق، أن ما نشأ من منطقة فراغ تم احتلالها بواسطة عناصر سياسية من المسهلين ذوي الطموح المكبوت، حيث حاولت هذه العناصر أن تجعل من آل دقلو عائلة حاكمة فنظموا ورشة للإصلاح الأمني والعسكري وجلبوا إليها عددًا من الخبراء الأجانب وكتبوا ورقة جعلوا حميدتي يطالب فيها بمراجعة مناهج الكلية الحربية وتصفية القوات المسلحة من أصحاب الأيديولوجيات وتطوير العقيدة العسكرية وتضمين حقوق الإنسان وحقوق النوع!

ويرى ذات المصدر الأمني أن منظومة الدعم التي تحولت تحت أعين رعاية المحور الإقليمي من قوات تحمل في شعارها " ق د س" إلى أداة فعالة في المخطط التاريخي لدولة الكيان ومفاعيله في محيط دول الطوق، وهي أداة تجاوزت بالفعل قيادة الجيش التي تعاملت بإكراهات الواقع في إجراء تطبيع خجول سمحت بموجبه بدخول مقار التصنيع الحربي الذي لطالما اعتقد أن جزءًا من مقدراته تذهب في دعم المقاومة، معتبرًا أن "إسرائيل" لا تثق في الجيوش العربية وعقائدها التي لا يمكن أن تلتقي مع أهداف الكيان، وذلك بخلاف المؤسسات الوظيفية والميليشيات الفارغة من المضامين السياسية وخطابات التحرير.

غزة والخرطوم

ويذهب عباس محمد صالح الكاتب والمحلل السياسي إلى أن ما يجري في غزة من عدوان وحشي هو حلقة أخرى ضمن حلقات محاولات تصفية القضية الفلسطينية وحركات المقاومة، وذلك في إطار فرض الوجود الاستعماري للكيان الصهيوني في الوطن العربي. ولا تخفى -بحسب عباس- انتصاب خرطوم اللاءات في عمق الذاكرة الصهيونية في مقابل نشوء علاقة من نوع خاص بين قادة الدعم السريع والكيان والرعاة الرسميين للتطبيع مع الكيان. ويشير عباس إلى أن النتائج المطلوبة لمعركة غزة هي نفسها المطلوبة لمعركة الخرطوم في نهاية المطاف: "التدمير الممنهج لمقدرات وأجهزة ومؤسسات الدولة القُطرية القديمة"، وهو هدف مقصود لذاته ضمن إستراتيجية الكيان الاستعماري لكسر مقومات الصمود لدى المجتمعات والشعوب وإغراقها في دوامة من الأزمات للقبول بحقيقة وجود الكيان ومشروعه، بالإضافة إلى إحلال تشكيلات أمنية جديدة محل الجيوش الوطنية التقليدية لتكون موالية لمشروع التطبيع وأداة فيه كما هو معروف من خلال سياسة "التدمير المكاني". على أن الأهم -والقول لم يزل لعباس- وخاصة في ضوء ما يجري من حرب مدمرة في الخرطوم هو الانتقام من دعم حكومة الإنقاذ الوطني للمقاومة والذي كان مؤثرًا في موازين القوة بين فصائل المقاومة وجيش الاحتلال حتى طوفان الأقصى مؤخرًا. وعطفًا على ذلك فصمود أو انتصار المقاومة في معركة طوفان الأقصى ستنعكس نتيجته على معارك الخرطوم في سياقها الإقليمي الأوسع. فهيمنة المقاومة في غزة وتصفية القضية الفلسطينية بالنسبة للمطبعين يعني هزيمة بقية الشعوب وتطلعاتها في الحرية والكرامة والاستقلال والديموقراطية.

ويعتقد عبد القادر كاوير الكاتب والمحلل السياسي أن الدعم السريع يندرج ضمن مخطط قديم ومتجدد لفك وتركيب المنطقة وفقًا لمصلحة "إسرائيل" وحلفائها الغربيين، وبتنفيذ من المحور الإقليمي الداعي إلى التطبيع. وذلك يأتي كجزء من مشروع إعادة هندسة الأوضاع الجيوسياسية في أعقاب الربيع العربي كما حدث في اليمن وليبيا، وما أريد أن يحدث في السودان، وبالتالي فإن الدعم السريع لا يختلف عن المجلس الانتقالي الجنوبي وحفتر بحسب كاوير.

احتجاجات شعبية ضد التطبيع في السودان
يواجه التطبيع مع دولة الاحتلال رفضًا شعبيًا كبيرًا في السودان وهو الأمر الذي تؤكده نتائج المؤشر العربي

ويرجح الكاتب والمحلل السياسي في قراءة معمقة للحدث المشتعل في غزة والخرطوم، أن الرهان الكبير على التطبيع أو التدمير، وأن الاستنزاف والفوضى التي قد تنتهي بإعادة فك وتركيب وتقسيم وإضعاف حالة التماسك الوطني مقصودة لذاتها وليست أثرًا لمفاعيل المعركة. ويمضي كاوير إلى أن معركة غزة خلطت الأوراق وكشفت زيف القوة التي لا تقهر. مؤكدًا على حقيقتين تكشفتا من خلال معركة طوفان الأقصى: الأولى الرهان الراسخ على "إسرائيل" من جانب أمريكا والدول الغربية كرأس حربة وخط دفاع متقدم في الشرق الأوسط. والحقيقة الثانية أن "إسرائيل" تتلقى هذا الدعم ليس لكونها تملك تأثيرًا وجماعات ضغط وإنما لأنها تمثل "مخلب قط" وتلعب دورًا منذ وعد بلفور لإبقاء العرب في حالة خوف مستمرة.

 وفي رأي مخالف تذهب اتجاهات التحليل إلى أن مضي دول الخليج إلى تطبيع العلاقات مع "إسرائيل" هدفه بالأساس تعويض انصراف الولايات المتحدة إلى الشرق الأقصى بالاستثمار في ضامن قوي يقيها بيئة المخاطر والأطماع الإقليمية لدول كبرى وذات نزوع توسعي كإيران وتركيا، وأن ترجيح "إسرائيل" غرضه بالأساس توفير الغطاء الغربي في أي مواجهة محتملة في المنطقة، وأن الدعم السريع كمنظومة وظيفية لا يمكن الاستغناء عنه لجهة إثبات جدواه في محاصات الاختبار الراهنة والمتوقعة.

الاستيطان في السودان

وتؤكد د. سهير صلاح أستاذة العلوم السياسية بجامعة الزعيم الأزهري أن المحور الإقليمي الداعي للتطبيع والحارس لمصالحه الإستراتيجية ضالع في تمويل وتخطيط وتنفيذ مشروع عرب الشتات للاستيطان في السودان وهو مشروع متكامل يمتد من النيجر وأفريقيا الوسطى وتشاد.

ولا تخفى بحسب سهير وشائج الصلة بين الكيان والمحور الإقليمي الناشط في التطبيع، مبينة أن ما يدور في غزة والسودان يخرج من كوة واحدة، وأن ما يحدث في اليمن وليبيا يصدر عن مطبخ واحد. واعتبرت أستاذة العلوم السياسية أن الدلائل على تدخل "إسرائيل" في السودان لا تقع على حصر، وتشير إليها حوادث استهدافات متفرقة بضرب العربة "السوناتا" وشرق السودان واليرموك في أوقات متفرقة للتأكيد على اتهامات ظلت تطلقها الدوائر الإسرائيلية لحكومة الإنقاذ بدعم المقاومة.

 يأتي ذلك كله بوصفه مسارًا مقصودًا، أو في أحسن التقديرات بديلًا معقولًا لمرادات محاور الهيمنة الإقليمية

ومع تعطيل الحرب البرية في الخرطوم والدفع بقيامها في غزة، وعزل أي احتمال لتفجر الجبهة الشمالية ودخول حزب الله على خط المواجهة الشاملة، وإبطال توسع الصراع عبر مسارح متعددة، وحشد القدرات وتكثيفها لاستئصال المقاومة بشكل مباشر وحاسم، وتمدد رقعة المعارك في السودان بما تعززه تدفقات الأسلحة عبر الحدود، وتصعيد القتال في بؤر متفرقة، وتأزيم الأوضاع الإنسانية لاستعادة مشروع الدعم السريع في سياق معادلات السلطة القائمة، أو الدفع بنشوء مناطق نفوذ للقوى المتصارعة والإبقاء على واقع الهشاشة وهشاشة الواقع، يأتي ذلك كله بوصفه مسارًا مقصودًا، أو في أحسن التقديرات بديلًا معقولًا لمرادات محاور الهيمنة الإقليمية.