10-أكتوبر-2023
عمرو صالح ياسين - مركبة عسكرية بها قوة من الدعم السريع

عمرو صالح يس

"ديسمبر لحظة تأسيسية، ووعيها مقروء ثقافي خاطئ للمصالح المادية المتصلة بها! وحين امتدحها أتكلم عن وعي منطقها الصادق لا خطابها الكاذب".

"النخبة السودانية أبدلت السودانيين الخراب كلما تأملوا طلوع فجر جديد".

"التوصيف الصحيح للمعارك الدائرة: أنها حرب الدولة السودانية ضد قوى ومحاور إقليمية تسعى إلى تقويضها وتذويب قوى عنفها وإعادة هندسة آلة عنفها مما يجعلها مستتبعة بالكامل لمقربات الأمن القومي لمحاور في الإقليم".

"حرب أبريل هي شهادة وفاة للطبقة السياسية السودانية".

"العنف غير المبرر الذي فُض به الاعتصام كأنه أريد به أن يخرج قصيدة كتلك التي قالها أزهري محمد علي في وصم الجيش إزاء ما تعرض له الثوار من غدر وخيانة". 

"عناصر في الحرية والتغيير منخرطة في الانقلاب وحمدوك ليس بعيدًا من أيدي المحاور الإقليمية".

"لا يمكن فهم مشروع ابتلاع الدولة السودانية بمعزل عن فاعلية مثلث قوى الحرية والتغيير والبرهان والدعم السريع".

"حميدتي كان سيذيق الحرية والتغيير الأمرين إذا استتب له الأمر ودان له حكم السودان".

"حرب السودان بين الجيش مع الدعم السريع المشروعية فيها للحرب وليس السلام".

"الجيش السوداني عظيم في مستوى معركة الدولة ورديء في مستوى معركة الديمقراطية".

"مجموعات الإسلاميين لا تلتقي في مائدة عشاء واحدة، ولو لم تُضعف لما سقطت".

"الدعم السريع هو حارس المصالح السلطوية الاستخراجية لتحالف الأفندي والعسكري والشرتاي والطفيلي.. وهو أبرز تناقضات دولة 56 وليس نقيضها المحتوم كما يزعم".

"الثوّار يصدرون عن مرونة ذهنية عالية لا تقف ضد فاعلية الجيش في معركة الدولة ويترفعون على الوعي القبائلي لنخب ما بعد الاستعمار".

"الكتائب الإسلامية التي تقاتل إلى جانب الجيش اتخذت الموقف الوطني السليم وكان أفضل أن تحتسب الأجر عند الله".

"مشكلة الجيش في تماهيه مع بنية الفساد المؤسسي.. وعليه أن يسعى لحماية الدستور بدلًا عن حماية شخص قائده العام من عبود إلى البرهان".

عمرو صالح يس لـ"الترا سودان": "لا يمكن فهم مشروع ابتلاع الدولة السودانية بمعزل عن فاعلية مثلث قوى الحرية والتغيير والبرهان والدعم السريع"

عمرو صالح يس فاعل في المجال العمومي منذ 2009. انخرط في برامج الإصلاح والتثوير التي انتظمت آخر سني الإنقاذ. وجمع إلى تخصصه في دراسة الطب بجامعة الخرطوم اشتغالًا بقضايا الفلسفة والمنطق، وصنف كتابًا عن التفكير النقدي "مدخل في طبيعة المحاجة وأنواعها" عن منشورات الشبكة العربية للأبحاث والنشر 2015، وأنجز رسالة ماجستير في فلسفة العقل والمعرفة واللغة من جامعة سينت آندروز في بريطانيا، ونصب إلى إعداد أطروحة الدكتوراه من نفس الجامعة في ميتفيزيقا التعريفات والهندسة المفاهيمية، ويعمل على صعيد آخر باحثًا مشاركًا في معهد آركي لدراسة فلسفة العقل والمنطق والمعرفة والميتفيزيقا.. اقتطعنا منه وقتًا ثمينًا وهو يطوي سفر إطروحة الدكتوراه في فلسفة العقل ويستقبل مولوده الأول.. فلم يبخل بإفاداته المستطردة التي تفي بمراد اللحظة الحرجة على وقع دوي المدافع والراجمات في قلب العاصمة الخرطوم؛ فكان هذا الحوار المهم الذي تراوح بين النظري المجرّد والمفاهيمي واشتباكات وعثاء السياسة وتحليل مواقف الفاعلين والمؤسسات والمنظومات المنخرطة في الحرب.

تمتدح في كتاباتك ثورة ديسمبر بوصفها لحظة تأسيسية مهمة، ألم تسهم ديسمبر في تضخيم الدعم السريع والاستثمار فيه كحامٍ لمشروع الانتقال وترياقٍ مضاد لعودة الإسلاميين؟

أعتقد أن المدخل المناسب هو ما ظللنا نطرحه بخصوص السلطوية والتأسيسية، والمتعلق بتوصيف الاقتصاد السياسي (مُتَجَه ومِقدار الكُلّي لمعادلة قسمة السلطة والثروة، السلطة المرتبطة بالسياسة، والثروة المرتبطة بالاقتصاد)، على اعتبار أن الوقائع السياسية في جغرافيا سياسية معينة هي ابنة التفاعل بين المصالح السياسية والاقتصادية المنظمة، فثورة ديسمبر بهذا المعنى لحظة تأسيسية بغض النظر عن فعل الفاعلين السياسيين فيها بالمعنى المتعلق بالبنية، لأنها لحظة نهاية تناقضات سودان ما بعد الاستعمار، سودان ما بعد 1821م، والذي استغلظ معناه "الاستخراجي" في الاقتصاد و"السلطوي" في السياسة في عام  1898 بالاستعمار الإنجليزي، ثم لم تتحلل معالم الاستغلال السلطوية والاستخراجية بالاستقلال في عام 1956 ولا بثورة أكتوبر 1964 ولا بثورة أبريل 1985 ولا بثورة ديسمبر 2018 وإلى الآن. فحينما أتحدث عن التأسيسية أعني أن منطق الاقتصاد السياسي للمجموعات الفاعلة سياسيًا قد بلغ النهايات، وهو منطق فاعل في إعادة إنتاج الدولة في كل المنعطفات الحرجة التي مرت بها. ما مضى من انتقال –والذي كان على رأسه البرهان من الجيش وكانت قوى الحرية والتغيير على رأس القوى المدنية– هو الانتقال التأسيسي الخامس الذي يفشل في تاريخ السودان. هل أنا حين امتدح تأسيسية ديسمبر؟ أفعل ذلك حُكمًا على وعي فاعليها؟ (الوعي مُعَرّفًا ومَقروءًا ثقافيًا)؟ بالطبع لا! أنا هنا أُقرّظ وعي ديسمبر بالمصالح مقروءةً ماديًا، وبهذا المعنى الدقيق فديسمبر ثورة تأسيسية بلا مراء، لأن الكتلة المتضررة من منطق دولة ما بعد الاستعمار (دولة محمد علي باشا) بسبب طبيعة الحكم الزبائني بلغ النهايات في عهد الإنقاذ، وأعني أن ينفعل جهاز دولة حديث مستزرع بواسطة الاستعمار كجهاز تقليدي منقوص الشرعية مما تتولد في إطاره علاقات زبائنية مع المجموعات، ويزيد من فرص إدراكها بمصالحها ومن ثم تتحرك إزاء الاحتجاج والمطالبة والانتظام في عمل ثوري منتِج.

https://t.me/ultrasudan

يمكننا القول إن وعي ديسمبر هو مقروء ثقافي خاطئ للوعي المادي المتصل بها، هنا تتفاعل الأفكار في سياق التاريخ. الكتلة السياسية التي صعدت على أكتاف ديسمبر هي ابنة السودان القديم، وكانت فاعلة في إعادة إنتاجه ومكنت كما أشرت في سؤالك للمصالح السلطوية والاستخراجية المتمحورة حول الدعم السريع، وكأن ما عجز أن يذهب به البشير والإنقاذ بعد فشل اقتصادها السياسي واصلت به الحرية والتغيير والبرهان، بتكوين حكومة المحاصصات الحزبية في الثامن من شباط فبراير 2019، وعليه فان كل الذي نفعله في منعطفاتنا الحرجة أن ثوراتنا الجماهيرية أو الانقلابات التي يقوم بها العسكر هي تغيير للتحالف السلطوي بين العسكر والأفندية والشرتاي والطفيلي، لأن وعينا مقروء ثقافي خاطئ وعاجز عن استنطاق المصالح المادية.. منطق هذه الدولة وغاية تناقضها أنتج الدعم السريع، وهذا ما يفسر بنيوية حرب السودان المشتعلة حاليًا أو بمعنى أدق يشير إلى أي مدى تعد شروطها الجوهرية بنيوية.

مرةً أخرى، حين أتحدت عن ديسمبر، أتكلم عن خطابها الكاذب ووعي منطقها المادي الصادق، بمعنى أن المجموعات الفاعلة في سياق الدولة سئمت من منطقها السلطوي سياسيًا والاستخراجي اقتصاديًا، وآن لها أن تستبشر دولة تنموية ديمقراطية على أنقاض دولة محمد علي باشا.. فأنا لا أحتفي بديسمبر إلا في إطار محاولة قراءة ثقافية صحيحة لمصالحها المادية بعد أن تزيل عنها قشور الفاعلين السياسيين السودانيين – أعني النخبة المعاد إنتاجها في دولة محمد علي باشا، وهي لم تبدل السودانيين إلا الخراب كلما تأملوا بزوغ فجر جديد!  

آراء كثيفة ومتعارضة بشأن سبب اندلاع حرب السودان بين من أطلق الرصاصة الأولى أم من أشعل الحرب.. كيف نسأل السؤال الصحيح؟

هذا سؤال مهم لجهة أنه يبين حجم المأساة التي نجتازها بسبب تقزيم المشهد سياسيًا بإنتاج سرديات مبتذلة وسطحية مثل المزاعم التي تصف حرب السودان بأنها "بين جنرالين"، وذلك بسبب الدعاية السياسية لقوى الحرية والتغيير والآلة الإعلامية للدعم السريع، مدعومةً بالآلة الإعلامية للمحاور الإقليمية التي لا يمكن أن تقرأ هذه الحرب إلا في مصالحها، وهو مستوى رديء في التحليل والخطاب، لأنه يفترض أن البرهان وحميدتي أناس طيبون، لكن هناك قوى متربصة وشريرة اسمها "الكيزان" قدحت فتيل الصراع بينهما، وأن الحل في اقتلاع هؤلاء الشريرين، وإرجاع الجنرالين مرةً أخرى إلى منصة الحوار واستئناف العلاقة.. الذي يغيب ها هنا هو حرب المليشيا على الدولة، وجزء من أسباب غياب هذا التحليل هو الأداء الضعيف للدولة خلال الحرب، لذا ساغ للبعض أن يجعلها حربًا بين طرفين متساويين، لا حربًا بين المليشيا والدولة، وهو في رأيي أيضًا مستوى أدنى من التوصيف الصحيح وهو أنها حرب الدولة السودانية ضد قوى ومحاور إقليمية تسعى إلى تقويضها وتذويب قوى عنفها وإعادة هندسة آلة عنفها مما يجعلها مستتبعة بالكامل لمقربات الأمن القومي لمحاور في الإقليم.. هذا هو المستوى الحقيقي للحرب في اعتقادي.

إن لم ننظر إلى حرب السودان في هذا الإطار ورأينا بداياتها في حرب اليمن منذ تولي القائد العام للجيش مهمة الاتصال والتنسيق في القوات البرية في اليمن والتي كانت قوات الدعم السريع جزءًا منها، ثم تابعنا التغيير العسكري الذي حدث في منتصف الطريق قبل سقوط الإنقاذ، وأتى بالقائد العام مفتشًا عامًا للقوات المسلحة، ثم الترويج الذي حدث لصور القائد العام بعد ظهور الموسيقى العسكرية في يوم 11 نيسان/أبريل 2019، ولقاء إبراهيم الشيخ معه في ذات السياق، ثم محطة فض الاعتصام بالطريقة المأساوية التي حدثت وأحدثت معها شرخًا عميقًا في علاقة الشعب السوداني بالجيش –فالعنف الممارس حينها وغير المبرر، كأنما أريد له أن يخرج قصيدة كقصيدة أزهري محمد علي يا "عار القيادة العامة" وهي كقول فني وإبداعي صاعق وصل أقصى وأقسى مدى في دمغ المؤسسة العسكرية بأوصاف سالبة لم يعهدها السودانيون في جيشهم، هذا بسبب ما استشعره الناس من معنى الغدر فيما جرى بخلاف فض اعتصام رابعة العدوية، الذي برغم جنوحه البالغ إلى العنف المؤذي إلا أنه لم يكن غادرًا– مرورًا بإلغاء المادة الخامسة من قانون الدعم السريع، ثم الاعتراف بالدعم السريع في الوثيقة الدستورية، ثم تنصيب قائدها "حميدتي" نائبًا أولًا لرئيس مجلس السيادة وإعطائه مساحات وصلاحيات واسعة في الدولة، ثم وراثته لمعسكرات هيئة العمليات بجهاز الأمن والمخابرات ومقرات المؤتمر الوطني، ومنحه كذلك نفوذًا سياسيًا يسمح له بالتعامل من خلال موقعه في مجلس السيادة، ثم السماح بالتمدد العسكري للدعم السريع، ثم إعادة إبراز "حميدتي" على أنه رجل سلام في مفاوضات سلام جوبا، ثم المساحة التي منحت له في إطار اللجنة الاقتصادية وترؤسه لرئيس الوزراء حينها عبدالله حمدوك وهو المعروف بكفاءته في حوكمة الاقتصاد التنموي (عبدالله حمدوك ثبت مؤخرًا أن يد المحاور ليست بعيدة عنه)، إلى الاتفاق الإطاري الذي اشتعلت من ورائه "حرب أبريل".

في كل هذه السياقات لا يمكن فهم هذه الحرب إلا بأنها حرب على الدولة السودانية عبر منظومة إجرامية استخباراتية كالدعم السريع بغرض إعادة هندسة قوى الدولة السودانية، وبروز هذا التناقض ظهر في ورشة الإصلاح الأمني والعسكري، وهذا ببساطة هو ما أشعل فتيل الأزمة، حينما بدا التمايز واضحًا بين المصالح التي تسعى إلى تقويض الدولة السودانية وتذويبها وإعادة هندسة قوى عنفها، وبين المصالح التي تريد الإبقاء عليها كيفما اتفق. هنا أفضل وصف للحرب في المستوى الرابع الذي أتحدث عنه ما ذكره سفير السودان لدى الأمم المتحدة الحارث إدريس حين قال إن الذين خططوا لهذه الحرب أرادوا للسودان أن يكون "دولة لا أحد".. الحديث عن أن هذه الحرب بين جنرالين أو بين جيشين بذات المستوى من الشرعية أو دولة ضد مليشيا كلها مستويات تقزم معناها الحقيقي في أنها حرب بالوكالة لمنظومة إجرامية استخباراتية كالدعم السريع على سيادة الدولة السودانية وبقاءها. 

كيف تقرأ التطابق بين رواية الدعم السريع وقوى الإطاري إزاء ملابسات اندلاع الحرب؟ أهو مؤشر اصطفاف وتوفير غطاء سياسي أم موقف يصدر عن معلومات دقيقة؟ 

ببساطة هو موقف يصدر عن اصطفاف وتوفير غطاء سياسي. واضح أن الحرية والتغيير في داخلها أذرع تقع ضمن المخطط الذي تحدثنا عنه، ليس بالضرورة كل أعضاء أحزاب الحرية والتغيير وكل أحزاب الحرية والتغيير وكل الفاعلين فيها، فالقول بذلك ضرب من العبط ولا يمكن لمؤسسات كهذه أن تعدم وجود وطنيين وهم بلا أدنى شك ضد هذا المخطط. وبذات مسار الأحداث الذي فصلنا في سرد محطاته وأهم نقاطه المركزية كان هناك مسار مكافئ على المستوى المدني يعمل من خلال هذا المخطط ومعلوم في الاستخبارات اندراج أفعال منظومات وعناصر عديدة ضمن الروافع المعنية أحيانًا حتى من دون وعي تفصيلي بالمخطط ومغازيه وأهدافه.. بمعنى أن هناك في السياق الاستخباراتي أثر لروافع الفاعلين يقبلها من تعاطى معهم ويصرفونها في لحظة أخرى، ويمكن أن أرجع بداية التورط فيما أتحدث عنه من مخطط تحديدًا بعد نحو ستة أشهر من انقلاب 25 تشرين الأول/أكتوبر 2021 وبروز مصطلح "إنهاء الانقلاب"، عقب فشل ميثاق لجان المقاومة وإفشال محاولة توحيدها، وتقسيم لجان المقاومة من بعض المجموعات الثورية الجذرية، وخفوت مقاومة الشارع بسبب فشل تصدر اللجان للقيادة السياسية بعد استعادتها لزمام المبادرة في القيادة الميدانية عقب فض الاعتصام ومنازعتها للحرية والتغيير في القيادة السياسية بعد انقلاب الخامس والعشرين من تشرين الأول/أكتوبر 2021 مع الخلاف الذي ظهر بين معسكر الحزب الشيوعي ومعسكر الحرية والتغيير والمعسكر  الذي يريد أن يستقل بلجان المقاومة والتجمعات المهنية، وتشتت مشروع اللجان وفشلها على المستويين الميداني والسياسي. في هذه الأثناء توفرت الفرصة للحرية والتغيير لتستعيد زمام سيطرتها على الأوضاع من جديد لفشل اللجان في القيادة السياسية فضلًا عن القيادة الميدانية بإعادة تنظيم نفسها وهيكلتها بطريقة تُقدمها للفاعلين السياسيين والإقليميين على أنها ممثلة لقوى الثورة الحية.. وظهر مصطلح جديد مع عودة الحرية والتغيير لناصية المشهد وصدارته، وهو تفكيك معسكر الانقلاب وتوحيد الجيوش وليس دمج الدعم السريع في الجيش، واستخدام رافعة التفاوض عبر المقاومة المدنية ورافعة المجتمع الإقليمي والدولي لإنهاء الانقلاب وليس إسقاطه! هنا بدأت بعض عناصر الحرية والتغيير تتحدث عن التفاوض كضرورة وفي وجه من وجوهه لا غنى عنه، لتقوض أحد "اللاءات الثلاثة" التي كان يتحدث عنها الشارع.

واضح أن الحرية والتغيير كانت تسعى خلال هذه الفترة إلى تفكيك الانقلاب بصنع تحالف مع الدعم السريع، وتجلى بصورة سافرة في الاتفاق الإطاري الذي لا يتحدث عن دمج الدعم السريع في الجيش –وهو أدنى المواقف تشددًا في معسكر الثورة– بل تحدث عن دمج الدعم السريع والجيش في جيش جديد بهيئة قيادة جديدة، بما لا يضمن بأي حال –وفق الرواية التي نشرها طه إسحاق في الجزيرة وخالد عمر يوسف على إسبيس عبر منصة (إكس)– بما لا يضمن أصلًا بأن الدعم السريع قد توحد داخل جيش جديد، ولكن بما يضمن إعطاء استقلالية مالية وإدارية وعملياتية أكثر للدعم السريع بهيئة القيادة المشتركة التي تحدثوا عنها في الحد الأعلى تتكون من أربعة من الجيش واثنين من الدعم السريع ورئيس مدني، وفي الحد الأدنى تتكون ­–وفق كلام خالد عمر يوسف في (إكس)– من أربعة من الجيش واثنين من الدعم السريع والرئاسة فيها للجيش، ولكن مع منح حق النقض (فيتو) للدعم السريع.. هذه المعادلة لا توحد الجيشين ابتداءً، لكن تعطي استقلالية أكثر للدعم السريع كانت ستمكنه من إنفاذ مشروع تقويض الدولة وابتلاعها.. ووفق هذا السياق، فإن الحرب المشتعلة أتت باعتبارها خيار (ب)، بعد فشل قائد الجيش في إقناع الجيش بالإطاري.. قائد الجيش وفق رواية مناوي لم تكن لديه مشكلة في انتشار الدعم السريع بتلك الكثافة في الخرطوم –والتي كانت تقدر بنحو (100) ألف مقاتل– وإنما كانت لديه مشكلة في تحرك الدعم السريع نحو "مروي" وما يمثله من استفزاز للجيش.. المشكلة إذن لم تكن بنيوية وجذرية إزاء الأفعال الخطيرة التي قام بها الدعم السريع، فإذا به يتفاجأ بأن الخطة (ب) صار هدفها التخلص منه واعتلاء "حميدتي" لصدارة مجلس السيادة والإتيان بقائد عام يمرر الاتفاق الإطاري، وبعد أقل من أشهر يكتسب الدعم السريع استقلالية كاملة ويمتلك سلاح نوعي ثم يبتلع الدولة بكل سهولة عبر مخطط الاتفاق الإطاري.. لكل ذلك لا يمكن فهم مشروع ابتلاع الدولة السودانية بمعزل عن فاعلية مثلث قوى الحرية والتغيير والبرهان والدعم السريع.

قدمت قوى الحرية والتغيير في ندوة الدوحة مرافعة بشأن ما عدته تعبيرًا أخلاقيًا لما اتخذته من موقف إزاء الحرب بضرورة إيقافها.. كيف تقيم شعار "لازم تقيف" ولا للحرب؟

 أنطلق من ممايزة ضرورية بين مناقشة الموقف الأخلاقي المبدئي والموقف السياسي من رفض الحرب. ولنبدأ بمناقشة السياسي وفق ما أشرت إليه من فرضية مشروع تدويل قوى عنف الدولة السودانية وابتلاعها وتعريفها بالأساس للدعم السريع وإجراء مساومة بمنح السلطة المدنية فيها للحرية والتغيير، مقابل تمرير هذا المخطط نظير حكم ربما سيمتد إلى سنين في تصورهم، ولم يدروا بأن "حميدتي" كان سيذيقهم الأمرين في خلال أشهر إن استتب له الأمر ودان له السودان.. لكن مع الأسف لم يعتبروا بتجربة الترابي مع الإنقاذ ولا بتجربة الحزب الشيوعي مع العسكر ولا بما سطرته كتب التاريخ في هذا الصدد ومضوا ليتحالفوا مع من هو أسوأ من العسكر.. ومع فشل انقلاب الدعم السريع الذي بناه على عملية خاطفة لا تتعدى خمس ساعات كما يوحي بذلك بيان "حميدتي" المسرب والمعلن من خلاله عن سيطرتهم على الأوضاع،  وهو مخطط مكتمل الأركان بعض أدواته ممتدة داخل الجيش نفسه، ولأجل ذلك بدأت الحرب في السودان بصورة متزامنة، وكان رهان المعسكر الضالع في المخطط أن تنفيذه لن يستغرق أكثر من ساعات معدودة، ولما فشل الأمر بمعنى الحصول على الربح الإستراتيجي الأعلى بتنفيذ كل المخطط ووثوب الدعم السريع إلى صدارة السلطة بعد اغتيال البرهان واعتقال أعضاء مجلس السيادة العسكريين وتعيين قائد عام للجيش يمرر الاتفاق الإطاري وفي الظاهر يعلن التخلص من الكيزان ومشاكلهم السلطوية.. لما فشل هذا المخطط وما ينطوي عليه من ربح إستراتيجي أعلى، أصبح السيناريو البديل أن لا تحدث الخسارة الإستراتيجية الأقصى، أي أن لا يستأصل الدعم السريع أو يقضى عليه تمامًا.. أصبح بعد ذلك الهدف هو الاستبقاء على الامتيازات العسكرية والاقتصادية والسياسية للدعم السريع.. لا للحرب بهذا المعنى شعار حق أريد به باطل في المستوى السياسي.. وهو يريد قبل إضعاف الدعم السريع إلى أقصى درجة والقضاء على قوته الصلبة بما لا يسمح له بأي وزن تفاوضي – يريد الإبقاء على نواة الدعم السريع والحفاظ على قوته، وعلى العكس من ذلك يريد إيقاف تمدد الجيش عبر توازن ضعف للجيش ليستمر الدعم السريع في المشهد وتظل هذه "الحظيرة" الاستخباراتية للمحور موجودة، ثم يعاد مراكمة ما خُسر من خلالها من جديد، بالابقاء عليها كمنظومة إجرامية واستخباراتية.

في المستوى المبدئي لتجلي شعار لا للحرب، لا أحد بالطبع يحب الحرب، لكن هذا لا ينفي ضرورتها في سياق الاجتماع الإنساني، لأن ما تواضع عليه الاجتماع الحديث من شرعنة للعنف في الدولة، أتى بسبب الوقوف في وجه الجيوش الغازية والمجموعات الإجرامية المسلحة. ولذلك فحرب الجيش ضد الدعم السريع ليس لها مشروعية للسلام بل المشروعية فيها للحرب تمامًا، مثلما تفعل الشعوب الحرة حين تواجه غزوًا، بينما حرب الجيش ضد الحركات المسلحة المشروعية فيها للسلام، لأن هذه المجموعات لم تطلق سلاحها إلا صوب الدولة السودانية انطلاقًا من خطاب سياسي متماسك، ولهذا حين تدخل حركات الحلو المدن في جنوب كردفان أو عندما دخل خليل إبراهيم إلى أم درمان لم يستذل مواطنًا أو ينهب ماله أو ينتهك عرضه، غض النظر عما حدث في معارك الدعم السريع الذي كان سلاحه يعمل في ظلال سلاح الدولة وضمن أغطية طيرانها وآلاتها المدفعية الثقيلة فضلًا عما اشتهر به طوال مسيرته من سلوك همجي لا نظامي، وهو فوق ذلك يمثل حظيرة استخباراتية، وهو مركز للاتجار بالمخدرات والمضاربة في العملة وتهريب الذهب، فهو تمامًا مثله مثل "تسعة طويلة (عصابة إجرامية)" فحين تقول لا للحرب مع الدعم السريع، كأنك تقول نعم للسلام مع "تسعة طويلة".. ليس هنالك مشروعية للسلام في حرب الجيش ضد الدعم السريع، هنالك مشروعية للاستسلام فقط والخضوع الكامل للدولة.. هذا هو التوصيف الأخلاقي للحرب وفق نظرية الحرب العادلة (Just War Theory). هناك على النقيض فلاسفة مناهضون للحروب إذا كنت على طريقتهم في التفكير، عليك أن تخبرنا كيف تنظر وتؤسس لموضوع العنف في الدولة الحديثة على مستوى الجيش والشرطة باعتبارها أجهزة رادعة لمنظومات الإجرام والتعدي على حالة الأمن والسلم، فضلًا عن إنفاذ الدولة من خلالها لسياساتها، هذا يعني أنك تتحدث عن اجتماع بشري بخصائص نفسية مختلفة لا وجود للتفاوت بينهم ولا أثر لصراع الموارد والسلطة بينهم ولا تباين من حيث الخير والشر.. الهدف من شعار لا للحرب سياسيًا هو الإبقاء على الامتيازات العسكرية والاقتصادية والسياسية للدعم السريع، أما في تجليه المبدئي على النحو الذي يتردد في أصداء القواعد الاجتماعية للحرية والتغيير فهو لا ينهض على شيء.

كيف تقيم مواقف الأحزاب السودانية والفاعلين السياسيين؟

 أعتقد، من خلال متابعتي لمواقف الأحزاب والفاعليين السياسيين في السودان، أن الفرق بينها على المقدار والدرجة لا النوع، هذا باستثناء بعض الأحزاب السياسية الجديدة مثل حزب بناء السودان الذي يصدر عن رؤية غير سلطوية في مواقفه وأطروحاته، فجميع الكيانات السياسية –التقليدي منها والحديث، الطائفي منها والعقائدي، الإسلامي منها والعلماني– تنطلق من تموضعها ضمن الأسس الاقتصادية والسياسية والاجتماعية التي نشأت عليها، وهم ظلوا يتبادلون الأدوار في إنتاج دولة محمد علي باشا.. فالحركة الإسلامية، لم تعد تنظيمًا بالمعنى الذي كانت عليه قبل أن يحل الترابي التنظيم في بواكير التسعينات، لكن مجموعاتها المتفرقة لا تلتقي على مائدة عشاء واحدة، وهي ترى أن المجموعات السياسية التي سيطرت على الفضاء السياسي في ديسمبر ورثت القوة التصاعدية لشارع ثائر وجهت الثورة في تفكيك تمكينهم في الدولة واستهدافهم بلا عدالة، ويأتي تعويلهم على انتصار الجيش في المعركة الدائرة ليسمح بتقديم بعض ما تأخر بالثورة في درجة سلمهم السياسي السوداني هذا في الحد الأدنى، أما الحد الأعلى عند بعض دوائرهم فإنها ستعود لتتحكم في كامل المشهد.

الحزب الشيوعي وقف حماره عند العقبة فعلق على الحرب في بيان له بأنها معركة "أغنياء الإنقاذ"، وعجز عن أن يرى معنى السيادة منها، وهو حزب له حساسية عالية تجاه قضايا السيادة والاستقلال.. وهو على العموم أقل الكيانات تورطًا في مسألة الدعم السريع بوصفه عارًا وطنيًا كما صدع أستاذنا محمد جلال هاشم.

أما قوى الحرية والتغيير ففصلنا القول في مواقفها.

أعتقد أن حرب أبريل هي شهادة وفاة للطبقة السياسية السودانية، وتبادل الأدوار الذي تلعبه منذ استقلال هذه الأمة في إعادة إنتاجها في استعمارها في ثوب وطني بالمحافظة على الطبيعة السلطوية لجهاز الدولة ونمط اقتصادها الاستخراجي.

هاته الحرب اندلعت لأن الكيانات الفاعلة السياسية والقوى المدنية غير المحزبة اختارت أن تقف المواقف الخاطئة منذ 2018م، لهذا تقف الدولة السودانية على مهب الريح، بيد أنها دولة عريقة وشعبها عريق، ولذلك ستصمد أمام هذه الجائحة وتعود أقوى ولتتوفر على شروط ثقافية واجتماعية جديدة تجعلها تتجاوز اجتماعها السياسي بالكامل والذي سبق حكمها الوطني وتسبب في الدورة الخبيثة وانتهت بحرب أبريل.  

ما بين "جلب الديموقراطية" و"القضاء على دولة 56" تراوح خطاب الدعم السريع على عدة مستويات.. ما هو رهان الدعم السريع من الحرب المشتعلة وعلى ماذا يقاتل؟

يقرأ الخطاب في سياق ما أشرنا إليه من حلف نشأ وترعرع في طور الانتقال بين الدعم السريع والحرية والتغيير على نحو ما أوضحنا سابقًا وصعود رؤية تفكيك الانقلاب. وجرى قبل نشوب الحرب تدوال كثيف لموضوع تعدد الجيوش وأن الجيش "كيزان"، ضمن حملة إعلامية مدروسة، وكان المراد صنع سردية مسبقة للانقلاب باعتبارها الخطة (ب)، وتصوير الاتفاق الإطاري على أنه رافعة للتحول المدني الديمقراطي، اعتمادًا على تعمية الأجزاء المتعلقة فيه بإعادة هندسة قوى عنف الدولة السودانية وتذويبها وتقويضها واستبدال الجيش –العظيم في مستوى الدولة وليس العظيم في مستوى الديموقراطية– بمليشيا إجرامية استخباراتية أسرية، واستتباعه بالكامل لمقربات الأمن القومي للمحاور.. هذه هي السردية المراد لها أن تصيغ الوعي العام استثمارًا في الشرخ الذي حدث بين الجيش والشعب السوداني في فض الاعتصام والعنف غير المبرر الذي أشرنا إليه، واستثمارًا في أن هذا الشعب قام بثورة ضد نظام الإنقاذ، ولذلك جرى الاستثمار في مصطلحي الديمقراطية والحرب على الكيزان في صنع سردية توفر مبررًا سياسيًا لحرب الدعم السريع على الدولة.

أما مسألة "دولة 56" التي ترد كثيرًا في آلة الدعم السريع، فمن عجب أن ينتقد "دولة 56" أبرز تجلي لتناقضاتها.. الدعم السريع هو "حارس" المصالح السلطوية الاستخراجية لتحالف الأفندي والعسكري والشرتاي والطفيلي، التحالف الذي استخلف محمد علي باشا وغردون باشا على استعمار السودان.. ونما الدعم السريع وهو يقوم بحماية المصالح هذه، وصار أعتى تجسيد لها وأسوأ مظاهرها.. هو إذن ليس نقيضها بل أعظم تناقضات "دولة 56"

، هو ابن استغلال تهميش الريف لصالح المدينة، تفاعل مع اقتصاد حرب الدولة في فترة الإنقاذ ومنطقها القابض ضمن انحيازها العروباسلامي ضد من المجموعات الأفريقية في دارفور، وتفاعل مع حلقات المصالح السلطوية والاستخراجية لنظام البشير ومن بعده البرهان والحرية والتغيير، وتفاعل مع اقتصاد سياسي إقليمي دولي توسعي لدولة الإمارات المتفاعلة مع مصالح إسرائيل، ليبرز كل ذلك في منتوج الدعم السريع.

الدعم السريع هو ابن "دولة 56"، استزرعه البشير والمؤتمر الوطني وفق المنطق السلطوي الاستخراجي الاستعماري لجيفة محمد علي باشا، ثم نماه البرهان، ثم تحالفت معه الحرية والتغيير وفق ذات المنطق، منطق وراثة دولة محمد علي باشا وليس تجاوزها، فجاءت من التناقضات الداخلية لهذه الدولة بوصفها أسوأ تمظهر لفشل منطقها وليس ثورة عليها.. وهذا هو مناط القول بأن "حرب أبريل" في جانب من جوانبها تأسيسية، كونها خافضة لهذا المنطق ورافعة لما سيقوم على انقاض المنطق الذي هذه الحرب – أعني منطق التحالف الرباعي الذي سيطر على سودان 56 فولد الدعم السريع. 

لم تقض ديسمبر على حكم الإسلاميين حتى برزوا بوصفهم فاعلًا خفيًا يعزى إليه كثير من الأحداث المفصلية في سياق إلهاب فتيل الأزمات منذ فض الاعتصام مرورًا بانقلاب 25 أكتوبر وانتهاءً بإشعال حرب أبريل.. إلى أي مدى يمكن الوثوق بهذه المقولة والبناء عليها على مستوى التحليل والمدافعة السياسية؟

السياسة تقوم على السرديات والسرديات تقوم على صناعة الأساطير، وما كان للمجموعة التي اعتلت ظهر القوة الاجتماعية الثائرة في ديسمبر أن تمكن نفسها في جهاز الدولة سلطويًا وتشكل حكومة المحاصصات الحزبية إلا بفزاعة الإنقاذ والكيزان، وإلا بإيقاف التاريخ وإعادة بدايته من 1989م رغم أن الجماهير التي خرجت في السادس من نيسان/أبريل 2019 استلهمت ثورة الجماهير على نميري في انتفاضة 1985. الإشكال الحقيقي أن تفويض سمسار لدولة 56 على اكتاف هذه الجماهير أعاد إنتاج المأساة لأن الثورة التي ستقوض دولة 56 ثورة يبدأ وعيها في تعريف الأزمة من 1821.. بما معناه أزمة سقوط جهاز دولة حديث على مجتمع تقليدي اقتصاديًا وسياسيًا واجتماعيًا بفعل الاستعمار. وإن لم ننطلق من هذه النقطة في التعريف بتاريخنا عام 1956 وفشله في استيعاب مستوى الأزمة على نحو ما قرر محمد أبو القاسم حاج حمد أن مكمن الأزمة في عدم وعينا بالأزمة، سنكتشف حينها أننا ننتوي الخوض في عملية تحديث اقتصادي وسياسي واجتماعي يضع مجتمعنا مكافئًا في الحداثة لجهاز الدولة من حيث الابتداء مع القدرة على عكس نمط السلطة والاستخراج الذي استزرعه المستعمر لصالح منطق ديمقراطي وتنموي يقودنا إلى دولة صناعية، والتخلص كليًا من قابليتنا للاستعمار، والوصول إلى مصاف العالمية.

هذا هو الأفق المنشود لديسمبر الذي ينبغي فهم سياق مقاومتها في إطار مستمر لمقاومة الدولة منذ المهدية مرورًا بثورة 1924، مرورًا بالحركة الوطنية، ثم مرورًا بأكتوبر، ثم مرورًا بأبريل؛ هذه الجماهير التي قال عنها أبو القاسم حاج حمد أنها أعطت ثم أعطت ثم أعطت ثم لم تأخذ شيئًا، تتأتي ثورتها في هذا الاطار على خروج دولة سلطوية استخراجية قضت على أحلامها، تستخدم آلة عنفها لإرهاب جماهيرها وليس حمايتها، ومنطق ضريبتها هو الجباية وليس إعادة توزيع المال بما يحقق الخدمة، وسلطوية سياسيًا، واستخراجية اقتصاديًا، وتعمل على إذلال الإنسان السوداني وكبت مقدراته بدلًا من تحريره.. هذا هو مشروع ثورة ديسمبر التأسيسي الذي قوضته القوى السياسية التي اعتلت هذا المشهد وتبادلت الأدوار مع نظام الإنقاذ، فالنخبة التي وصفها على شهرة منصور خالد بأنها أدمنت الفشل هي النخبة المعاد إنتاجها في مشروع وراثة دولة محمد علي باشا.. وعليه كان لهذه القوى أن تنتج أسطورة الكيزان مع أن الإسلاميين لو لم يضعفوا من داخل بنيانهم لما سقطوا ابتداءً، من حل التنظيم في التسعينات، مرورًا بالمفاصلة، مرورًا بنيفاشا، مرورًا بسبتمبر وخروج مجوعة غازي صلاح الدين، ثم ظهور مجموعات السائحون ومجموعات أبناء قادة الإسلاميين وشباب المؤتمر الشعبي وإسلاميو الرصيف.. كل هذه المجموعات تفاعلت مع ثورة ديسمبر بوصفها الوعد التي كانت الإنقاذ حادبة له، لكن القوى التي اعتلت الثورة عبر بوابة تجمع المهنيين بعد شقه لصالح قوى أحزاب الحرية والتغيير كانت تريد أن تتمكن من جهاز الدولة وتحكم وفق الشرعية الثورة، وهنا لا بد من أن تنتج أسطورة تقابلها فكانت أسطورة الكيزان.. هذا بعد فعل لجنة التمكين دون استئنافات وأحكام قضائية بعد حل المؤتمر الوطني وتفكيك منظومات الكيزان "صامولة صامولة" لم تزل تتحدث عنهم.. هذه ليست كيزانوفبيا أو تصرف غير واعي.. هذه أسطورة لتتكامل الأدوار ضده في المحافظة على دولة محمد علي باشا، لأن هذه النخب من أقصى يمينها إلى أقصى يسارها تعريفها في الأساس أنها النخبة المعاد إنتاجها في حقل الدولة السلطوية الاستخراجية التي استزرعها محمد علي باشا واستغلظ استزراعها غردون وكتشنر. 

تصدر في تحليلاتك عن تفرقة بين الجيش المؤسسة وقادته.. في ظل التراتيبية الصارمة كيف يقوم هذا الفصل أصلًا؟ أليس الجيش هو القيادة القائمة بأمره؟

بطبيعة الحال أي منظمة بيروقراطية تعتمد على قيادتها وتأتمر بها، غير أن من طبيعة هذه المؤسسة وجود شخص يمكن أن ينقلب على القائد استثمارًا للرأي العام داخل الجيش والرأي العام في الفضاء السياسي، وهذا ما يخلق اقتصاد سياسي يجعل قيادة الجيش دائمة التحرك في حيز مناورة ضيق وما يجعل الجيش السوداني في لحظات اصطفافية وصراعية كبرى ينحاز إلى الشعب على حساب قائده بناءً على مساحة الاقتصاد السياسي باعتبار أن أي قائد لديه حدود مناورة في إطار الرأي العام للجيش والرأي العام للفاعلين سياسيًا في المجال العام، هذان محددان يتحكمان في قرارات الجيش.. على المستوى السياسي يظهر في كل لحظة من تاريخنا في أكتوبر أو أبريل أو 2018 يظهر مباشرة الفصل بين قادة الجيش، فالقادة الذين على رأس السلطة تضطر إلى الانحياز إلى التغيير حتى لا تصبح هدفًا له، وهذا ما جعل ابن عوف مثلًا يعزل البشير لأنه أدرك أن مستوى اصطفاف الرأي العام للجيش وصل إلى مرحلة تهدد بالانقسام الرأسي للجيش أو انقلاب يطيح به نفسه مع البشير.. فتقرر أن يكون جزءًا من التغيير بدلًا عن أن يكون هدفًا له، ضمن مقررات ضرورة حكم الاقتصاد السياسي. وباستمرار ستبرز لحظة يكون فيها التمايز واضحًا في الاقتصاد السياسي بين قائد الجيش ومؤسسته.

تطوعت عناصر ثورية للقتال في صف الجيش ما الذي يدفع ثائرًا كان حتى وقت قريب ينازع حقه في قيام حكم مدني إلأى القتال في صف قامعيه؟

هذا هو الوعي بالمصالح المادية.. والقدرة على التمييز بين مستويين من المعركة، فالذي يراها حربًا بين جنرالين منقلبين على التحول الديمقراطي، هذا مستوى تحليل لن يجعله ينفذ إلى بعدها الأعمق، أعني مستوى قراءتك الثقافية لمصالحك قريب بمستوى وعيك لمصالحك المادية المباشرة سترى أنها حرب في مستوى بقاء الدولة.. الجيش هو أهم حليف في معركة الدولة وأكبر عدو في معركة الديمقراطية.. الشباب الثوار الذين يقفون إلى جانب الدولة يدركون أن ثورتهم ليست ضد الإنقاذ وإنما ثورة ضد دولة محمد علي باشا، وهي ثورة ذات قيم مجردة هي دولة السلام والحرية والعدالة.. والدعوة إلى حكم ديمقراطي مدني بيد أنهم يعلمون أنك لا يمكن أن تحقق شرط المدنية قبل استيفاء شرط الدولة ولا يمكن أن تحقق شرط الديمقراطية قبل أن تستوفي شرط المدنية، هذا هو ترتيب الأشياء في ذهنهم .. ولذلك لديهم ترفع عن المستوى القبائلي للطبقة السياسية المعادة في دولة 56 بطريقة تجعلهم يتحالفون مرحليًا مع عدو في مرحلة ضد عدو في مرحلة أخرى.. المرونة الذهنية لتعريف هذه المصالح المجردة غض النظر عمن يجسدها في لحظة ما والقدرة على التمييز بين الفاعل السياسي وفعله، أي التمييز بين السياسة الترميزية والسياسة الموقفية، وهذا دليل وعي عالٍ، إذ جعلوا مدار إشكاليتهم حول الفعل السياسي وليس الفاعلين الذين ينتجونه، وكانوا يصدرون في خلافهم مع البرهان حول فعله حيال الديمقراطية وما يزال أو فعل مؤسسة الجيش المتعلق بالديمقراطية وما يزال، لكن ليست لديهم مشكلة مع فاعلية الجيش، وهو في الراهن الذي نجتازه فاعل فاعلية صحيحة لصالح بقاء الدولة التي لا يمكن أن يصلوا إلى المدنية والديمقراطية بغير بقائها واستمراريتها وسيادتها.. وهذا ينم عن وعي تأسيسي لجماهير كتلة داخل ديسمبر حجبه الصراع السلطوي بين معارضي ديسمبر ومؤيديها من السياسيين ودُجن هذا الوعي الذي إن انتشر واستغلظ واستوى فهو فجر هذا السودان الذي طالما غاب.

انتقدت انخراط فصائل إسلامية في القتال في صف الجيش.. أليس من حق الإسلاميين بوصفهم قوى وطنية الدفاع عن الدولة وبقائها في ظل خطر يتهدد وجودها؟

كيف انتقد انخراط فصائل إسلامية في القتال إلى جانب الجيش؟ على العكس أرى أن المجموعات الإسلامية التي قاتلت إلى جانب الجيش وقفت الموقف الوطني الصحيح، أي شخص مهما كان انتماؤه السياسي وقاتل في معركة بقاء الدولة سأتفق معه لأن هذا ما يجمعنا يمكن أن نختلف على المستوى المدني والديمقراطي وغيره، لكن بالضرورة سنلتقي عند محطة الحفاظ على الدولة.

وجه انتقادي فيما يتعلق بالوعي السلطوي الذي حدا بالبعض عوض أن يحتسب أجر القتال إلى التكسب من المشاركة الفاعلة في القتال إلى جانب الجيش لصالح دور سلطوي في مرحلة ما بعد الحرب، وهذا على حساب الوضع السياسي للجيش ودعم السردية المقابلة بشأن العلاقة مع الإسلاميين، وإلا ليس من المعقول أن يسمح الجيش السوداني لكتيبة من فصائل الإسلاميين تظهر بصفحاتها ومقاطع الفيديو المصورة الخاصة على صفحاته الرسمية، وهذا ما يتناقض مع معنى الجهاد في الإسلام في أن مدار القتال احتساب الأجر عند الله.

جوهر اعتراضي على تطبع المؤسسة العسكرية مع الفساد باعتبارها الأزمة التي ساقتنا إلى هذا المستوى السحيق منذ اتفاقية مياه النيل والمساومة في السد العالي، مرورًا بالفلاشا والكيماويات في عهد نميري، مرورًا باتفاقية نيفاشا وهي اتفاقية قسمة سلطة أعيد فيها إرجاع الجيش، مرورًا بقانون الدعم السريع وإلغاء المادة (5) في عهد البرهان.. هذا الجيش السوداني مع الأسف عنده تماهٍ مع الخطوط الحمراء وهو لا يلام وحده على ذلك..  وما عمق ذلك هي عقيدة طاعة القائد العام أينما ذهب وأينما حل.. وهذه أزمة كبيرة من أهم المعتقدات التي قادت إلى ما نحن فيه من مأزق، ويمكن تلخيصها في التماهي مع الفساد، أن تقبل مثلًا صعود عبدالرحيم دقلو وشقيقه "حميدتي" قبله إلى رتبتي الفريق والفريق أول، وتقوم بإلقاء التحية العسكرية لهما، وبذات القدر قبول استفراد كتيبة مستنفرين بصفحة لوحدها وعندها خطابها السياسي منفرد وسياق إعلامي مشهود من خلال مقاطع الفيديو التي تبثها.. هذا نمط في التماهي مع الفساد مرتبط بالجذر الذي أنتج الدعم السريع. أنا هنا لا أقول أن البراء بن مالك سلوكها شبيه للدعم السريع هم قوى في هذه اللحظة تقف إلى جانبنا في معركة بقاء الدولة كما أسلفت.. وإنما أقول إن السماح لها بالانفراد عن المؤسسة العسكرية في خطها الإعلامي وخطابها نوعًا من التماهي مع الفساد المؤسسي.. وهذا أمر لا يتعلق بالجيش فقط، وإنما في كل مؤسسات الدولة لتآكلها.. بسبب هجوم تقليديتنا على الجهاز الحديث الذي أنتجه الاستعمار بدل أن تلحق به حداثتنا.

هذا التآكل في بنية حداثة الدولة ليس من مصلحتنا، فكلما كانت الإجراءات ونظم الدولة صارمة وليس بها أدنى تماهي مع الاختلالات التي تحدث بسبب الفساد كل ما كنا بمنطق الدولة الحديثة في البشرية التي أنتجتها في الاجتماع الصناعي الحديث، كما أنتجت القبيلة مع الاجتماع الزراعي ومجموعات الصيد في اجتماع إنسان ما قبل الحضارة كانت دائمة تنتج مكافئ يحقق المصالح المادية للمجموعات المنضوية تحت المنظومة الحاكمة لمجموعات بشرية محددة. الدولة الحديثة هي منطق تطور بشري استبدلت فيه العلاقات القائمة على القرابة بالعلاقات القائمة على الكفاءة في الأجهزة القضائية والعسكرية والمدنية من مصلحة أي فرد ألا يتماهى مع الفساد في أجهزة الدولة وأن تكون نظمها وقوانينها صارمة ولا يستطيع أن يعدل عليها إلا برلمان منتخب، بينما على العاملين داخل هذه الأنظمة البيروقراطية أن يلتزموا بها بذات القوة والصرامة، هذا هو الاجتماع الحديث الذي أنتجته البشرية لتتعامل مع مستوى معقد كالذي نعيش في غمرته في عصرنا الراهن، فأما أن نترك الدولة الحديثة ومنطقها ونرجع قبائل وطرائق قددًا أو نرتفع إلى مستوى منطقها لأن التماهي مع الفساد ينتج لنا حربًا كحرب الدعم السريع. ولو سمحت بوجود مثل هذه المجموعات فسوف تجد المطلوب أن تكون فاعلة في اقتصاد سياسي استخراجي سلطوي، وستجد مباشرة رافعة إقليمية ورافعة كذلك من الإمبريالية العالمية ورافعة من الرأسمالية حسب المصالح المتعارضة من تجار الأسلحة لأصحاب المشروعات المتعلقة بتقويض الدول والعبث بالخرائط وليس بالضرورة أن تنتهج ذات الفعل في تسوّر منازل الناس والاعتداء عليهم، بيد أنها ستفعل فعلها بجسد الدولة وفق نظامها المجهول لدينا، أما المعلوم فهو تنمية هذا الشر من بداياته بجذر واحد هو التماهي مع الفساد المؤسسي.  

كيف ترى شروط وأسس التسوية القادمة وما هي أبرز ملامحها برأيك؟

أرى أن تختلف عملية الانتقال إلى ما بعد الحرب عن مرحلة ما قبل الحرب على مستوى الموضوعات والأطراف، أي عملية سياسية صفرية لإنهاء الحرب مع الدعم السريع هي مع الدولة ممثلة في سلطة الأمر القائم ومجموعة الدعم السريع المتمردة ممثلة فيمن يقودها سياسيًا وميدانيًا حصرًا، على أن يكون موضوعها توفيق الأوضاع العسكرية للدعم السريع بما يفضي إلى نهاية كل امتيازاته السياسية والعسكرية والاقتصادية.

انتقال ما بعد الحرب ينبغي أن يكون تأسيسيًا تعالج فيه كل الأخطاء التي لم نستفدها من الانتقالات التي مرت بها الدولة منذ منذ انتقال 1964.. ولأن أزمتنا هي عدم وعينا بالأزمة لا بد من أن ندخل في فترة ما قبل تأسيسية نتوافق فيها على اجماعات كبرى للدولة السودانية في حوار سوداني – سوداني لا يقصى فيه إلا من أبى، وهذا لا يقوم إلا بإعلان مبادئ يطرح لكل شخص، نجلس إلى كل الفاعلين بغرض الاستفهام عن مبادئه فوق التفاوضية.. سيكون بلا شك المبدأ الأساسي هو مبدأ العدالة، وطالما ضمنا تحقق هذا المبدأ فلن نقصي أحدًا.. هذا النقاش سيؤسس للانتقال المنشود لدولة سودانية مؤسسة تقوم على أنقاض دولة 1956م. هنا أرى ضرورة إنشاء حوار يفضي إلى الانتقال مثل الذي جرى في ميشاكوس، على ألا نشترط مثلًا توافق معين للنخبة وإنما اصطحاب رأي الجميع غض النظر عن الكيفية، المهم انعقاد الاجتماع، بحيث يكون منبر توافقي للخروج بوثيقة تأسيسية للدولة السودانية تشكل في جوهرها تسوية مدنية مدنية وتسوية مدنية عسكرية وتسوية سلام وتسوية عدالة انتقالية، على أن يكون نفس المنبر الذي تناقش فيه القضايا ولو استغرقت من تسعة أشهر إلى سنة لا بد من توفر حكومة هدفها الأساسي إدارة الحوار وتصريف الأعمال، ولا بد من أن نعتبر من حرب أبريل بضرورة إقصاء الأفكار وليس إقصاء مجموعات.. إذا تولد هذا الجو العام فلا بد للفاعلين من أن يمروا بواجب ما الأفكار التي لم يتنازلوا عنها وما الأفكار الشعاراتية المفرغة التي ينبغي أن يتنازلوا عنها.. هذا لن يحدث إلا إذا توافرت فاعلية مدنية لديها مصلحة في الشعارات المؤسسة لتحلق النخبة السياسية كلها تجاه مبادئ عامة يتم الإجماع عليها.

هناك دول كثيرة مرت بهذا المحاص ونجحت فيه وخرجت برؤية للعدالة الانتقالية ونظرية في الأمن القومي وإستراتيجية شاملة للتحول الصناعي وقضية صناعة الدستور وقضية الحكم اللامركزي، هذه هي القضايا الرئيسة التي ينبغي نقاشها لنكون فاعلين عبر جهاز الدولة في تسويتها، وما لم يحدث أن هذا النقاش لن يكون ما قبل انتقالي وجهاز الدولة فيه لن يكون محايدًا لأنه مسيطر عليه طرف من الأطراف ولن يكون وطنيًا لأنه سيكون برعاية واحدة من القوى الإقليمية.. لا بد إذن من توفير هذه الشروط: فترة انتقالية تأسيسية للذهاب إلى انتقال متوافق عليه بشرعية توافقية لنخرج من أفق الحكم عبر شرعية ثورية ونخرج أن نذهب إلى ديموقراطية غير دستورية فديموقراطيات 64 و85 كانتا خبالًا علينا لأنها لم تكن دستورية.. لابد من الاتفاق على الأساسيات

 ومن ثم نأتي إلى اتفاق قصير رشيق ينجز هذه التوافقات حتى وإن كانت هياكله منتخبة طالما الإطار انتقالي ليس مهمًا إن كان منتخبًا أو لا.. المهم الوصول إلى الأجندة والمسار.. شروط التسوية القادمة بحسب رأيي ألا تتجاوز العدالة لبث الطمأنينة لدى كل فاعل لديه مصلحة في الانتقال ويقبل أي فاعل دون إقصاء من أجل توافق وطني تأسيسي يجمع على القضايا الأساسية.

ألن يفضي انتصار الجيش في هذه المعركة كأفق محتمل وراجح لدى الكثيرين إلى عسكرة المجال السياسي؟

أرى أن العسكرة كأفق محتمل فرصها ضعيفة لأسباب عديدة، أولًا: لأن انتصار الجيش في المعركة الحالية حسب ما قال تشرشل في الحرب العالمية الثانية انتصار بطعم الهزيمة، فالجيش (المؤسسة) ممثلة في قادته هو المسؤول الأول والأخير عن حلول هذه الكارثة، ومهما فرح الناس بانتصاره فلن يساقوا إلى تفويض سياسي، ولو حدث سيكون لأمد قصير، لن يتعدى أشهرًا معدودة، حالما يكتشف الناس أنه سبب الأزمة المتفاقمة التي يعيشون في غمرتها، فالذي لا تنتطح عليه عنزتان أن كل كوارث الأمن القومي التي حدثت في السودان جرت بسبب عسكرة الحياة السياسية ورهن الدولة لبقاء فرد واحد. نحن لدينا مشكلة أساسية مع عسكرة الحياة السياسية لهذا السبب تحديدًا: أنها ترهن الأمن القومي لفرد واحد، فإذا أصبحت مؤسسة الجيش بيروقراطية ضمن سياق مدني تأخذ قراراتها من البرلمان المجسد لتطلعات الجماهير، لن يكون لدينا مشكلة مع عسكرة الحياة السياسية. مشكلتنا أن الفرد المتحكم في المؤسسة هو من يصنع القرار فيها وهو ما يتنافى مع محركات المصالح الحقيقية في سياق دولة حديثة، فالدولة الحديثة ليست مصممة على العسكرة لأن المجموعات السكانية التي ينبغي المحافظة على أمنها القومي ومصالحها المادية متعذر التعبير عنها عن طريق فرد واحد يرهن الدولة كلها بآلة عنفها لبقائه في السلطة.. الجيش ليس لديه اقتصاد سياسي يسمح له بالعسكرة وسرعان ما سيعي هذا الأمر.

أمر آخر أن هذه الحرب قائمة في ثنايا ثورة لم ينغلق منعطفها الحرج بعد، فالجماهير الثائرة في ديسمبر ومع أن قيادتها السياسية سيحدث ضدها تعريف سياسي فهذا لا يعني انتفاء المصالح الاقتصادية المعبر عنها في الثورة.. السؤال هل تستطيع عسكرة الحياة السياسية أن تستوعب هذه المصالح.. لو كانت الإجابة بلى فستكون هناك فرصة لعسكرة الحياة السياسية وإن كانت بلا فإذن لن تكون هناك فرصة وفق التحليل المادي التأسيسي. ثم أنظر إلى مصالح مادية في تجاوز دولة ما بعد الاستعمار بلغ الحد.. السؤال هنا هل تستطيع المؤسسة العسكرية أن تستوعب هذا الأمر؟ الإجابة لا ببساطة شديدة، لأن المؤسسة العسكرية ليستقيم لها الحكم لا بد من أن تراعي هذه المصالح ولتستجيب لا بد لها من فصيل مدني يكون لديه خطاب سياسي ويستطيع أن يملأ لها فراغ أجهزة الدولة النظامية الأخرى ويستطيع أن يتمدد بين الريف والمدينة ويتوسع عبر نطاق الدولة الجغرافي، وهذه المسألة لم يستطع أن يوفرها تاريخيًا للجيش السوداني غير الإسلاميين لأنهم يعبرون عن أعرض خط تقسيم اجتماعي عمودي في السودان ويعبرون في الآن ذاته عن بنية الثقافة العربية الإسلامية في السودان وتحالفها مع القبائل العربية (هؤلاء هم الدولة العميقة التي يجب أن تفكك لصالح دولة لكل السودانيين).. ببساطة تحالف الجيش مع أقوى فاعل في الملعب بإمكانه أن يوفر له شروط الاستبداد ولم يستطع.

الإسلاميون أنفسهم إعادة مماسكتهم كقوى سياسية قادرة على تأدية دورها صعبة جدًا لأنهم تفرقوا كما أسلفت بما لا يستطيعوا أن يجتمعوا على مائدة عشاء واحدة سلطويًا أو بيروقراطيًا مع الأسف لأن دولة محمد علي باشا عبر مسعاها للتركيز تفتت الفاعل المسيطر عليها نفسه، وهذا ما حدث للإسلاميين خلال الثلاثين عامًا وما حدث للحرية والتغيير في زمن وجيز.

السبب الأخير الذي يصعب العسكرة هو أن الجيش لا بد له أن ينحي البرهان ليس لأنه مستبد كما فعل مع عبود ونميري والبشير بل لأنه جلب المشكلة إلى داخل المؤسسة، وهو –أي الجيش السوداني– أكبر المتضررين من هذه الحرب. المؤسسة العسكرية لا بد لها من أن تنحي البرهان ولا بد من أن تدرك كذلك أن السودان لن يحكم بغير نظام ديمقراطي مستند إلى لا مركزية. نحن لسنا مصر ولسنا دولة مشيخية. طبيعة الاجتماع السياسي في السودان يصعب استمرار حكمه استبداديًا ومركزيًا. هذا خط محمد علي باشا وخط كتشنر وخط أنظمة ما بعد الاستعمار. والنهاية شوهدت في التاريخ. ينبغي عند هذه المحطة الاعتراف بهزيمة السيرورة السلطوية لصالح المصالح في انتقال تأسيسي.

يمكن للجيش أن يساهم بفاعلية في تأسيس الدولة السودانية وإبعادها من كل ضروب الحكم غير الشرعية سواء كانت ديمقراطيات غير دستورية أو حكمًا استبداديًا أو حكمًا عبر شرعية ثورية كما حدث في 2019، يمكن للجيش باعتباره سلطة الأمر الواقع أن يسلم الحكم إلى رئيس القضاء مثلًا، وينادي الفاعلين إلى سلطة مدنية تنجز خلالها توافقات تأسيسية للدولة على أن يكون هو حارس هذه التوافقات الدستورية. لقد ذكر الجنرال مارك ميلي في خطابه الأخير فيما يعكس مفارقة التأسيسي والسلطوي المجتزأ التالي: "لم نقسم لحراسة مستبد أو مشروع مستبد لكننا نقسم لحماية الدستور". مع الأسف الجيش السوداني منذ 1956 مندرجٌ في صراع صفري لمجموعات سياسية ليست حريصة على الوصول إلى الوثيقة التي هو في عرف الدولة الحديثة وتعريفها ينبغي أن يكون حاميها وحارسها.. مشكلة الجيش أن تعريفه بوصفه مؤسسة عسكرية لم ينبن أصلًا على واقع الصراع السياسي لأنه لم تنتج الوثيقة التي ينطلق تعريفه الأساسي من وظيفة حمايتها. وإذا كانت لديه قوة فليستخدمها في طرح جند للوصول إلى هذه الوثيقة بدل حكم الشعب بالقوة.. ليعرف من يحمي! بدلًا عن انفاقه عمرًا طويلًا في حماية عبود ونميري والبشير والبرهان كان من الأنسب إيجاد تعريف وطني وسياق لتسليم السلطة إلى حكم مدني بشرعية دستورية متوافق عليها من جميع الفاعلين.