كانت حزمة ضوء، سحرية، مثل جراب الحاوي، كل شيء فيها، في رحمها الضوئي مسدسات، وكاوبوي، وحب، وقطارات مسرعة، تجري فوق قمراتها العصابات، ومن بين الغبار، والنيران، يظهر وجه البطل لنا، فتدوي القاعة كلها بالتصفيق، البطل لا يموت، وكأن النيران، نيران إبراهيم، سلام عليه، وعلينا في كراسي الحديد البسيطة.
كنت، في الفيلم، لا أكتفي بالفرجة فقط، تلصص عيني على حياتهم، أثاث البيت، الجدة التي تلبس جينز ضيق، وأرادفها التي تخجلني في مقعدي، وكأني متلبس بهفوة، أقارنها بـ"حبوبتي" زينب، المدهنة بزيت السمسم دوماً، وثوبها فوق رأسها كسقف البيت، لا يفارقها، أيفارق السقف عرش البيت؟ ولو فارقه، لما فارقتها طرحتها الحمراء، كما لم تكن تأكل مع زوجها، ونسابتها، أراقب الجد الذي يسكر، مع بناته، وحفيداته، في بار صغير "في البيت"، "على عينيك يا تاجر" تسكر الأم مع حفيدتها، أتعجب من أنماط العيش في الكوكب، كيف سارت؟ كيف ارتضى كل قوم طريقة معيشة، وتفكير واعتقاد؟ الملامح، الدور، الديكور، أحس كأنه ألف كون، من فيلم واحد، تشدني حكايته، وعوالمه، وتلكم الجدة السكيرة، التي لا يعرف جسمها زيت السمسم، وشعرها دوماً سافراً، كغصون الأشجار، تغذيه الشمس، والنسيم، والحرية.
اقرأ/ي أيضًا: السينما في شاشة طفولتي.. متعة على حائط الجامع!
أنسى تسلسل الحكاية، أحياناً، حين أشاهد في الفيلم "تربيزة" مليئة بالأقلام، (لكل امرئ شأن يغنيه)، أقلام ملونة، آآآآآه (أناملي تدمن الشخبطة، بقلم الرصاص، فأين أنا من تلكم التربيزة؟ ولكن الكاميرا، لا تأبه لها، ولي، وتمضي لشأن الأسرة، وحكاية الفيلم، فأشعر بأن صور الفيلم نفسها حكايات وحكايات، هناك غرفة لكل فرد، صالوننا الطيني ينام معنا فيه الجيران والضيوف، وتخرج أختي أكثر من عشرة "عناقريب" في العصر من بطنه، وكنت أخجل من (الجراءة في النقاش)، بين الأم وابنتها في الفيلم، مناقشة العلاقات العاطفية، بين بنت وأمها، أو بنت وأخيها، هكذا (وهل الشاشة تكذب)، فأشعر بهوان ما (كم متعدد هذا العالم، هذا الكوكب)، مع أخيها؟ وكشيء عادي، (أتصاغ مشاعرنا، وضمائرنا هي الأخرى؟ كما تشاد المدن؟ كل على طريقة معمارية مختلفة؟ كم عجيبة هي الشاشة، وكم أعجب الحياة، الفيلم الأكبر، المعروض في شاشة الآن، وأعظم مخرج، لا يعرف نهايته، هو فيلم الحياة.
كانت لنا طرائق، في جمع ثمن التذكرة، وكنا نتعجب كيف فات على الفقهاء ذكر سبب مهم من أسباب الصوم؟ وهو السبب الأهم، بالنسبة لنا، ليس في تعلم الصبر على عضة الجوع، وحالات الصفاء بعيد أذان الإفطار، والجزاء الأوفى بدخول جنة عرضها السموات والأرض، بل الصوم لأجل دخول السينما، جنة السينما، الحلم الواقعي المعاش، والملموس، ونحن نصفق صادقين، جادين، خدودنا مبلولة من الدموع، حين تتزوج البطلة الجميلة، الهندية، الثرية، النجار البسيط، الذكي، حين صدمها صدفة بدراجته المتهالكة، وعاتبته، ونهرته كالكلب، في بدء علاقتهم.
كان ذلك ونحن في الصف السادس بالمرحلة الابتدائية، والف الأول بالمرحلة الثانوية العامة، نصوم أنا وابن أختي "جماع"، عن الفطور "فقط"، ننوي الصيام منذ ليل الأمس (أليست النية خير من العمل؟ ولابد من النية في الصيام من وقت مبكراً، كنا نقول صادقين، وبنية سلمية: (اللهم نوينا أن نصوم لك غداً، حتى موعد الغداء، كي نوفر ثمن تذكرة السينما، ونسألك التوفيق والصبر على عضة الجوع في المدرسة، بقية الحصص التي تعقب الفطور، حتى الحصة السابعة، آمين، وأن يكون الفيلم جميلاً، بطلته ساحرة، وبطله مبارك، وأن نتناول حلوى "الباسطة" اللذيذة بعد الفيلم، آآآمين، يا واسع الكرم).
كنا نقول بنية سليمة: "اللهم نوينا أن نصوم لك غداً، حتى موعد الغداء، كي نوفر ثمن تذكرة السينما، ونسألك التوفيق والصبر على عضة الجوع في المدرسة"
حين نصل البيت، مُنهكين، بأرجلنا، مشياً على الاقدام، والجوع والعرق، وقرصة الجوع، تجعلنا هزالى، كالقنى، ثم نصبر حتى الغداء، شفاهنا جافة، ولكن جيوبنا بها "ثروة لا تعادل" تعزينا عن حالنا أيما عزاء، وهي ثمن التذكرة، ثمن الفطور البسيط المستقطع من "فتة الفول السوداني".
نأكل الغداء بلذة لا توصف، ونحمد الله، ونحن نتمدد على الأسرة، في قيلولة مباركة، على ابتلال العروق، وذهاب الظمأ، وثبات أجر التذكرة، ونحن في انتظار المساء، حين كان للمساء طعم الشعر، على أحر من الجمر، وقد أعان صبرنا، وجوعنا، بريق الإرادة فينا، والتحدي (مثل أبطال الفلم)، ألسنا أبطالاً؟ صدقنا طفولتنا، بأننا أبطال، لأننا وفرنا سعر التذكرة، من سعر "فتة الفول"، الزهيدة، وصبرنا، وصبرنا، وصبرنا، حتى أنزلت اختي صينية الغداء، على "تربيزة" خشبية خضراء، حيث "الكِسرة" تلف في دائرتها السمراء، صحن طبيخ البامية، وسلطة حديثة القطاف من الحقول، وكانت أحلى لقيمات في الفم، (أليس الجوع أطهى الطهاة؟).
اقرأ/ي أيضًا: