24-سبتمبر-2020

رحل عن دنيانا العندليب الأسمر في مثل هذا اليوم من العام 2011

لما علم خال الفتى محمد إبراهيم زيدان، بأن ابن أخته يُغنّي، قطع بعدم فائدته في الحياة، بل ويستحق الموت. ففي قرارة نفسه، أن الغناء أخو الصعلكة والصياعة. لم يستغرق زمنًا كثيرًا في التفكير، حمل بُندقيته، وانتظره حتى قدومه البيت متأخرًا في المساء، وبدأت المطاردة بين الخال حامل البندقية، وبين الفتى محمد إبراهيم. وانتهت المطاردة بقرار الفتى تركه المنزل، هروبًا من البندقية، وحتى تهدأ الأمور. 

عندما تم تخيير العندليب الراحل بين الغناء والدراسة؛ اختار الغناء وترك المدرسة

ولما اكتشف ناظر مدرسة أمدرمان الأهلية، أوائل الستينات، أنّ محمد إبراهيم زيدان، طالبه بالسنة الثانية يغني، خيّره بين أمرين: المدرسة، أو الغناء. فاختار الغناء، وترك المدرسة. وحين قرر الاشتراك في احتفالية العيد السنوي لمدرسة بخت الرضا، أُبعد بحجة عدم قبولها لصوته. لكن كل تلك المعوّقات، وغيرها، لم تقنعه بأمرٍ آخر، سوى قناعته هو الكبيرة بأنّ، يومًا ما سيأتي على الناس، وتملكهم عبقرية مغنٍ، يملأهم طربًا، اسمه: زيدان إبراهيم. وأطلقتْ عليه الصحافة السودانية لقب: العندليب الأسمر، تيمنًا بالفنان المصري عبد الحليم حافظ.

اقرأ/ي أيضًا: إعلان حالة الطوارئ الفنية.. وميثاق لحماية الفن والفنانين

وكعادة المغنين، بدأ زيدان إبراهيم -الذي تُظللنا سيرته هذه الأيام- مسيرته الفنية عازفًا لآلة المزمار، ومرددًا لأغنيات الذين سبقوه، إلا أنّه كان يضع في باله دومًا، أنْ تكون له شخصيته الفنية المستقلة التي تخصه، والتي يُعرف بها من بعد. وكعادة أبناء جيله من الفنانين، بدأ مفتونًا بتجربتي الفنانيْن: الذري، إبراهيم عوض، ومحمد وردي. والأخير بالذات عُرف بترديد أغنياته أكثر من الأول.

ليس ذلك فحسب، ولكن لمّا سمعه محمد وردي وهو يُغني أغنياته، أشار للذين معه بأنّ هذا الفتى سيكون له شأنٌ في دنيا الغناء في السودان، بل وتنبأ بأنّه سيكون خليفته. وصدق تنبؤ وردي.

هيأت الأقدار، ضمن ما هيأت لزيدان إبراهيم، في بدايات تجربته الفنية، أحمد زاهر، الملحن صاحب التجربة الجديدة وقتها، والذي قدّم للساحة الفنية عبر ألحانه أصواتًا جديدة، وبرع في تقديم المغنيات، أمثال فاطمة الحاج. كما هيّاتْ له ذات الأقدار شعراء جُدد، ومقتدرين، لهم كلماتهم الجديدة، والتي أدهشتْ المتلقين. شعراء في قامة التجاني حاج موسى، والذي سنكتشف مستقبلًا ثنائيتهم، بل قل ثلاثيتهم بصُحبة الشاعر عوض أحمد خليفة، والملحن عمر الشاعر.

المتابعون لمسيرة زيدان الفنية، التقوا على جماهيرية زيدان إبراهيم، حيث كانت الحفلات التي كان يُحييها الفنان الراحل زيدان إبراهيم هي الجماهيرية، فقد عُرف بجمهوره الغفير والكبير، ليس في العاصمة الخرطوم لوحدها، وإنّما في كل ولايات السودان. وأكثر دليل على جماهيريته الغفيرة والكبيرة، هي الجماهير المحتشدة على جانبي مطار الخرطوم، وحتى اتحاد الفنانين بأمدرمان، وأيضًا التي احتشدتْ في بداية طريق الردمية بالحاج يوسف وحتى منزله بالشقلة. ملقين النظرة الأخيرة على نعشه، بعد وفاته بالقاهرة.

يدين زيدان لتجربته الغنائية بعددٍ من الأشخاص، أولهم عوض أحمد خليفة، الذي قال عنه بأنّه أول من اكتشفه فنيًا، وجعله يشعر بكل كلمةٍ كتبها، وكأنها تُعبّر عن حالته العاطفية. أما الملحن عمر الشاعر، والشاعر التجاني الحاج موسى، فهما قد شكّلا ثلاثيًا فنيًا قلّ أنْ تجود به التجارب اللحنية السودانية.

ساهم في ذلك التقاء هؤلاء الفرسان الثلاثة في حي العباسية الأمدرماني العريق، وهو حي ظلّ يحفظ له زيدان الوفاء بالوفاء، بالرغم من أنّ خروجه منه لم يُرضه، وظلّ قريبًا إلى نفسه وقلبه كما قال: "وأنا أدين لها بالفضل في تقوية أواصر الفن بداخلي. وإن بعدت عنها بجسمي فأنا قريب منها جدًا بقلبي وروحي".

لكن بالرغم من ذلك، تركت الطريقة التي أُخرج بها من الحي في نفسه حرجًا كبيرًا، لم يتمن بعدها أنْ يعود إليه. فقد ترك مسلسل إخراجه عبر الشرطة من الحي في نفسه أثرًا. ولم يشفع له بقاؤه في الشارع هو وأمه لثلاثة أيامٍ متواصلة من تدخل العقلاء لاحتواء المشكلة. وهكذا غادر زيدان العباسية آسفًا إلى الحاج يوسف، شرق الخرطوم، التي وجد فيها الحضن والملاذ.

سؤالٌ مهم سئل عنه زيدان لأكثر من مرةٍ، وإنْ بصيغٍ مختلفةٍ: ما هو سر الصمود الكبير لأغنيات زيدان إلى الآن؟ أو كيف استطاع زيدان أنْ يستمر في تجربةٍ ممتدةٍ منذ الستينات، وحتى رحيله عن الدنيا؟ متنقلًا بين أزهار الغناء السوداني، وعيون ما كتب شعراء الفصحى، في السودان: محمد جعفر عثمان، مهدي محمد سعيد. وفي مصر: إبراهيم ناجي، ومحمود العقّاد.

الإجابة بكل بساطة في الصدق والدقة في الاختيار، والتجويد في العمل. لا أكثر من ذلك، ولا أقل. فكل لحنٍ قدّمه زيدان للناس عاشه أولًا وبصدق، ثم أخرجه من بعد للناس. وكما ظل يُردد هو أكثر من مرةٍ: "ما يخرج من القلب يصل مباشرةً إلى القلب". وهو أداء سحر في مرةٍ القنصل اليوناني السيد "بافلو بنيوتى كريازيس"، الذي قال مداعبًا خليل إسماعيل وإبراهيم حسين، بعد أنْ استمع لزيدان وهو يُغني: حقو الغناء الفي السودان ده كلو يجيبوه يدوه لزيدان إبراهيم يعزل وينقي العاجبو والباقي يديكم ليهو".

وكما ردد زيدان في حداثة تجربته أغنيات الفنانين الذين سبقوه، أيضًا تناول الكثير من الفنانين الشباب عددًا من أغنياته، رضي لأداء بعضهم، واستنكر أداء البعض. وحدثتْ مشكلات كثيرة بينه وبين شباب رددوا أغنياته، منهم شكرالله عزالدين، ومصطفى حمزة. كان في رأيه مبدأ ألا يحجر على أحد الفنانين من تأدية أغنياته، فهو يعترف بأنّه بدأ مرددًا لأغنيات الغير، لكن شرطه أنْ يتم الاستئذان، ومن بعد يُعطى الطريقة المثلى للأداء اللحني، وللكلمات.

اقرأ/ي أيضًا: تيريزا نيانكول مثيانغ.. أيقونة الغناء الثوري في جنوب السودان

كل من كان قريبًا من الفنان زيدان إبراهيم، وسمع برحيل والدته، بدا مشفقًا على زيدان. ويرجع هذا الإشفاق الى العلاقة الأثيرة والقوية التي كانت تجمع بينهما، فهي من كانت له السند والحائط منذ رحيل والده عن الدنيا، وهو بعد صغير، مرورًا بمراحل حياته المختلفة، وصولًا إلى كونه أحد أساطين الطرب في السودان.

مصادفات الأقدار اتفقتْ مع المشفقين على زيدان بعد رحيل والدته، إذْ لم يُعمّر كثيرًا بعد رحيلها

في آخر حواراته الإذاعية، بإذاعة البيت السوداني، لما سأله الإذاعي الشفيع عبدالعزيز عن الأثر الذي تركته والدته فيه بعد رحيلها، جرّ زيدان وقتها نفسًا طويلا، وأجاب بأنّه وبعد عامين من رحيلها ما يزال يتداوى. لكن مصادفات الأقدار اتفقتْ مع المشفقين على زيدان بعد رحيل والدته، إذْ لم يُعمّر كثيرًا بعد رحيلها، ففاجأه المرض، ولم يتركه إلا جسدًا بلا روح، في واحدة من مشافي العاصمة المصرية القاهرة.

اقرأ/ي أيضًا

سنوية ابن البادية

تاريخ وجغرافيا عماد عبدالله