"الحرب في سياق أوسع كانت كامنة في الطريقة السيئة التي أديرت بها المرحلة الانتقالية منذ 2019".
"الإسلاميون تيار فكري وسياسي أكبر من المؤتمر الوطني.. والخلط بينهم والجيش هروب من استحقاق الحوار الفكري".
"الحرية والتغيير لعبت بالنار على رؤوس السودانيين فأشعلت الحرب".
"مشروع تفكيك الدولة السودانية جوهره استعماري بأذرع إقليمية".
"ربط الدعم السريع بتمثيل مصالح فئات في دارفور غير صحيح".
"فولكر بيرتس هو الأب الروحي للحرية والتغيير والاتفاق الإطاري الذي قاد إلى الحرب".
"شعار لا للحرب تضليل يعكس الواقع بطريقة خاطئة، ومن الضروري قيام حوار وطني وحكومة غير حزبية لتصريف أعمال الدولة".
"أزمة العقل السياسي السوداني كامنة في المعارضة والهتاف وعشق الضجيج".
"نواجه أكبر وأخطر معركة منذ 1821، ونحتاج إلى التضحية والصبر واليقظة الوطنية".
هشام الشواني في حوار مع "الترا سودان": "الحرب في سياق أوسع كانت كامنة في الطريقة السيئة التي أديرت بها المرحلة الانتقالية منذ 2019"
المهندس هشام عثمان الشواني فاعل سياسي إسلامي، نشط مبكرًا في معارضة "الإنقاذ"، واشتغل على أسئلة التحديث والتجديد والإصلاح، وبرز بوصفه كادرًا سياسيًا في الجامعات السودانية والوسط الثقافي والمعرفي. شارك الشواني في ثورة ديسمبر، وأصيب فيها بخمس رصاصات اخترقت أحشاءه، قبل أن ينخرط في نقدها ومجابهة ما يسميه "رهانًا خارجيًا" في مفاعيل مشهدها السلطوي. قاد الشواني مع قوى فاعلة حملة ضارية على بعثة "اليونيتامس" الأممية بقيادة فولكر بيرتس، وأعتلى منصة مبادرة أهل السودان التي قادها الزعيم الصوفي الطيب الجد. انضم الشواني مؤخرًا إلى حزب المستقبل للإصلاح والتنمية، ويشغل فيه منصب الأمين السياسي. أجرينا معه حوارًا بشأن حرب الخامس عشر من نيسان/أبريل المشتعلة: طبيعتها وأسئلتها ورهاناتها ومآلاتها.. فأتت إجاباته واضحة وجريئة في سياق اكتناه كثير من السرديات والروايات فإلى مضابط الحوار:
1- ضمن سياق أوسع لمعرفة أسباب "حرب 15 أبريل".. الانقلاب أم تجاوزه بالاتفاق الإطاري هو ما أشعلها؟ وما الذي يجعل مجرد اكتناه حقيقة ما جرى مسألة صعبة المنال؟
ضمن سياق أوسع، فإن أسباب الحرب عميقة، والبيئة المتصلة بالعنف تهيأت جميع ظروفها مع التدهور المريع في الثقافة السياسية وانتفاء أي فرص للحوار والفكر. تمددت هذه النزعة المدمرة اللاحوارية الإقصائية تدريجيًا، لكن الأمر لم يكن كذلك فحسب، بل كانت جزءًا من مشروع سياسي كامل تجاه السودان، مشروع عميق ويسعى إلى الهيمنة ولا يمتلك التواضع اللازم والضروري تجاه واقع سوداني معقد. في سياق أوسع، الحرب كانت نتيجة كامنة في الطريقة السيئة التي أديرت بها المرحلة الانتقالية منذ 2019، وقد كنا نرى قوة تيار هذه الحرب يتشكل تدريجيًا ويستهدف الدولة والجيش والخدمة العامة والأحزاب السياسية الوطنية والشخصيات والمثقفين، ويرفع شعارات كاذبة شعبوية يقتل بها الفكر ويحاصر بها مؤسسات الدولة. لقد دفعت الدولة نحو حافة الهاوية، والاتفاق الإطاري كان آخر هذه الهاوية، وبعده السقوط، وقد كان من المتوقع أن ينفجر الوضع. وحقيقةً، فإن الجميع يتحمل المسؤولية، لكن ومن باب الأمانة التاريخية فإن قوى الحرية والتغيير –بوصفها فصيلًا سياسيًا– ومليشيا الدعم السريع –بوصفها فصيلًا عسكريًا– كانا الفاعلين المحليين الأهم في الوصول إلى الحرب، إلى جانب تحفيز العامل الخارجي لهما. وما يجعل هذا التحليل حقيقيًا شواهد كثيرة في الثقافة السياسية، فالجميع يعلم من الذي حارب الناس وسمم السياسة وفي الممارسة على مستوى السلطة والجهاز التنفيذي، وهنا فإن ما حدث يوم 25 تشرين الأول/أكتوبر 2021 جزء من هذا التخبط ونتيجة صراعات داخل حلفاء السلطة، ثم بلغ الاستهتار بالأمن القومي حدوده القصوى مع العملية السياسية الأخيرة التي جاءت بالاتفاق الإطاري، واُعترف فيه بجيشين في البلاد، والنتيجة الحتمية كانت الصدام.
2- فور اندلاع المعارك عاد الإسلاميون إلى صدارة الأحداث بوصفهم فاعلًا خفيًا لم تقضِ عليه محاولات التفكيك خلال طور الانتقال.. هل يمكن لمكوّن تنظيمي في الجيش أن يقود مؤسسته إلى الحرب؟ وماذا تبقى من قادة الجيش إن فقدوا قدرتهم على اتخاذ قرار الحرب؟
هذا الحدث مضخم إلى حد كبير إن لم يكن مصطنعًا. العصبية داخل مؤسسة الجيش للجيش نفسه ولأدبياته وطريقته، وهي عصبية مفهومة في إطار مؤسسة ضاربة في القِدم منذ ما قبل الاستقلال الوطني. نعم هناك تداخل بين الجيش والسياسة في التاريخ، لكن دخول الجيش في السياسة هو امتداد للصراع السياسي وليس مصدر نشوئه. الإسلاميون تيار فكري وسياسي سوداني قديم، وأكبر من تنظيم المؤتمر الوطني، ووجودهم لا يمكن مساسه، بل من المهم أن يكونوا جزءًا من الحياة السياسية السودانية مثلما كانوا دائمًا، ويمكنهم تقديم الكثير لمصلحة البلد، خصوصًا والأيام أثبتت أن لديهم حسًا وطنيًا عميقًا متجذرًا فيهم، مع اعتدال وانفتاح يمكنهم من الحوار الطويل مع الآخرين. إن الخلط بين الإسلاميين والجيش هو خلط متعمد ومضلل من خصوم الدولة الوطنية، ومحاولة للهروب من استحقاق الحوار الفكري مع الإسلاميين بواجهاتهم المدنية المتنوعة، وكذلك هروب من الاعتراف بأن الحرب حدثت نتيجة للعملية السياسية التي سبقتها وتمسك مؤسسة الجيش بأن "الدعم السريع" لا يمكن أن تنال اعترافًا دستوريًا لتكون جيشًا موازيًا للقوات المسلحة، وتهاون قوى الحرية والتغيير في هذا الأمر وتقارب خطها السياسي مع الدعم السريع وفق نظرية صنع توازن ضعف داخل المكون العسكري.. لقد كانوا يلعبون بالنار فوق رؤوس الشعب السوداني حتى اشتعلت الحرب.
3- هل هي معركة على التناقض المؤسسي بين الجيش والدعم السريع أم حرب النخب السياسية على امتياز السلطة يديرها بالوكالة حلفاء في عمق التكوين العسكري؟
هي ليست حرب تناقض مؤسسي بين الجيش والدعم السريع. على الأقل فإن التعامل مع الدعم السريع بوصفه طرفًا يحمل إرادة ذاتية مستقلة غير صحيح، فهو يخوض حربًا بالوكالة. هذه الحرب ناتجة في عمقها عن التناقض بين المشروع الوطني والمشروع غير الوطني، والجيش بحكم طبيعته الجوهرية يمثل الجانب الوطني والمليشيا هي أداة مشروع غير وطني. لقد كنا نخوض الحرب منذ سنواتـ لكن بطريقة ناعمة، إذ كانت أذرع إقليمية ودولية تدعم فصيل قوى الحرية والتغيير وجزءًا من القوى المدنية وتدفع بها نحو السلطة من دون شرعية من أجل إحداث تغيير شامل في البنية الدستورية والقانونية للدولة وكذلك في المجتمع السوداني. واجه هذا المشروع مقاومة مدنية كبيرة أيضًا، وقد بدا أن النتائج غير ممكنة التحقق إلا من خلال الضغط على الجيش ثم تتويج الضغط بمناورة عسكرية انقلابية خاطفة تمنح السلطة والقوة لأدوات المشروع غير الوطني. لم يكن الوعي كاملًا بهذا المخطط عند قادة الجيش، لكن وعيهم الغريزي بمهددات مؤسستهم جعلهم يمانعون تكريس استقلالية قوات الدعم السريع، والنتيجة أن خطة المناورة الانقلابية العسكرية المخطط لها فشلت، فكانت الحرب.
4- برزت مقولات تفكيكية من شأنها أن تعمق واقع الصراع الدائر مثل ما يعرف بمشروع "البحر والنهر" والقضاء على "هيمنة الشريط النيلي".. هل من مفاعيل حقيقية تعزز واقع الانقسام والشروخ المجتمعية؟
نعم هذه مهددات، لكنها نتيجة لواقع محدد ولا يمكن وصفها بمشروع، هي جزء من مشروع أكبر منها لديه قدرة على احتواء كل نزعات التقسيم والتفكيك داخله، وقد رأينا كيف مثلًا وظف هذا المشروع الصراع في دارفور في الثمانينات لمصلحة طرف معين وقتها ثم عاد في 2003 واستفاد من تلك النتائج، ثم بعد الانفصال وظف قضايا الطرف الآخر – وهو المجموعات العربية في دارفور– لمصلحة أهدافه. اتجاهات التقسيم شمالاً أو شرقًا أيضًا نتيجة لهذا الواقع، ويقوم المشروع بتوظيفها، وإذا أردنا تسمية هذا المشروع الذي يوظف كل نزعات التقسيم ويعزز التناقضات فإنه مشروع حصار الدولة السودانية وتفكيكها، وهو مشروع استعماري بأذرع إقليمية.
5- ألا يعد تنميط الدعم السريع في قوة متمردة شذت عن الدولة وخرجت على سياق المؤسسة العسكرية وخالفت تعليماتها إغفالًا عما يمثله من مصالح جوهرية لفئات واسعة تمتد في بؤر التهميش المنتشرة عبر جغرافيا السودان؟
التمرد الحالي لمليشيا الدعم السريع أكبر من مجرد تمرد فصيل على الدولة من داخل مؤسساتها، مثلا هذا الأمر حدث في العام 1972 في أحداث تموز/يوليو بقيادة هاشم العطا. الوضع حاليًا مختلف، لكن ربط الدعم السريع بمصالح جوهرية لفئات اجتماعية في دارفور غير صحيح. التوصيف السليم للحرب هي أن تمرد المليشيا يأتي ضمن مشروع يستهدف الدولة ويسعى إلى إكمال تبعيتها لمحور إقليمي ودولي هو محور (صهيوني/إماراتي/غربي)، والمليشيا تؤدي دورًا عسكريًا في هذا المشروع إلى جانب قوى سياسية تؤدي دورها أيضًا فيما يسمى بتحالف قوى الحرية والتغيير. عليه ومن ضمن هذا المشروع التدميري للدولة جاء توظيف الخطاب العرقي الذي يصنع شعورًا لدى أبناء المجموعات العربية في دارفور بأن المليشيا تحمل مصالحهم، وهي في الحقيقة لا تحمل سوى مصالح جهات خارجية ومكاسب لطموح أسرة آل دقلو المتمردة. المليشيا إذن توظف هذا الخطاب بمعاونة آلة إعلامية ضخمة وشبكات تضليل معلوماتي تغذي هذه المشاعر وتصنع نقيضها الذي يساهم في تأجيج الوضع. وستكشف الأيام كيف تلاعبت بالعقول والعواطف وجيشت الشعور العرقي لإشعال هذه الحرب ضد الدولة.
6- تصدرون عن موقف عدائي إزاء "بعثة فولكر".. كيف تقيم دور البعثة الأممية في السودان؟ ولماذا عجزت عن إنجاح مسار الانتقال؟
البعثة الأممية كانت موقفًا كارثيًا من عبدالله حمدوك، وأثبت بهذا الموقف أنه جاء لتنفيذ مهمة معينة تكمل تبعية السودان للخارج وتربطه بوجود بعثة بمهمة سياسية واسعة تحت الفصل السادس، لم يكن السودان بحاجة إليها أصلًا، وكل المطلوب وقتها كان أن تنتهي بعثة "اليوناميد" المشتركة بين الاتحاد الأفريقي والأمم المتحدة والتي جاءت تحت البند السابع بمهمة واضحة هي المساعدة في حماية المدنيين في دارفور فقط. تفاجأ العالم بقرار جديد بتعيين بعثة جديدة شاملة ومتكاملة تحت الفصل السادس وبمهام سياسية مرتبطة بالمرحلة الانتقالية. وقد كانت من أهم آثار هذه البعثة ذلك التخريب الشامل الذي حدث في السياسة والتدهور المريع في ثقافة الحوار والنقاش، وقد شهدنا انحيازًا سافرًا من البعثة ومن رئيسها السابق فولكر بيرتس الذي تجاوز كل حدود المهنية والأدب والاحتراف ليتدخل في كل شيء. كان فولكر بيرتس الأب الروحي لقوى الحرية والتغيير والاتفاق الإطاري الذي قاد إلى الحرب.
7- ألا تعد الدعوة إلى إنهاء الحرب التي تبنتها قوى الحرية والتغيير موقفًا أخلاقيًا يسعى للمحافظة على الدولة حسبما صرح بابكر فيصل في ندوة الدوحة؟ لماذا كل هذا الهجوم على مواقفها وهي تتشارك مع قطاعات كثيرة من الفاعلين السياسيين المواقف نسفها إزاء ضرورة إيقاف الاقتتال وإنهاء معاناة السودانيين؟ وفوق هذا وذاك استئناف مسار الانتقال نحو الديمقراطية كما نادت بذلك ثورة ديسمبر؟
إن شعار لا للحرب تضليل يعرض الواقع بطريقة خاطئة وكأننا كنا أمام خياران: الحرب أو السلام واخترنا الحرب. هذه الحرب في الواقع لم تكن خيارًا بل كانت نتيجة الإدارة السيئة للمرحلة الانتقالية ولذلك التلاعب الخطير الذي فعلته قوى الحرية والتغيير بالبلاد وأمنها القومي. الحرب نتيجة منطقية متوقعة حذرناهم منها منذ توقيع الاتفاق الإطاري، ولذلك فإن هذه القوى رفعت شعار "نعم للحرب" قبل وقوعها، ثم حين وقعت وكان من الواجب أن نقاوم وندعم الجيش الوطني للبلاد، رفعوا شعارات كاذبة من أجل إخفاء العار التاريخي الذي لحقهم. المطلوب حاليًا ليس اللوم بل التوافق على أسس وشروط أهمها إنهاء التمرد وأن توقف المليشيا انتهاكاتها واحتلالها للبيوت وأن تفهم جيدًا أن وجود جيش وطني واحد في البلاد هو القوات المسلحة السودانية لم يعد محل نقاش. الحوار السياسي الشامل ضروري لاستئناف المرحلة الانتقالية، وفي تصورنا نحن دعونا إلى حوار وطني سوداني – سوداني إلى جانب تشكيل حكومة غير حزبية عاجلة تضطلع بمهام تصريف أعمال الدولة.
8- كيف تقيّم مواقف الأنتلجنسيا والفاعلين الثوريين ومنظومات العمل المدني والسياسي في خضم الحرب المشتعلة؟
هناك نقاط مضيئة لكثير من المثقفين والفاعلين المدنيين ممن أدركوا طبيعة الحرب ووقفوا في الجانب الصحيح من التاريخ وهو دعم القوات المسلحة، لكن مع الأسف هناك مجموعات من منظمات المجتمع المدني وبعض المثقفين ممن وقف موقفًا متخاذلًا، وأقل ما يوصف به هو الخيانة والجبن. أعتقد أن هناك أزمة فكرية للعقل السياسي السوداني، فقد نشأ على المعارضة والهتاف بأكثر من المنطق، هو عقل شعبوي مستعجل يعشق الضجيج. وأعتقد أن جزءًا من هذه الأزمة الفكرية هو عجزه عن النظر الكلي إلى السودان في سياق الصراع الجيوسياسي الدولي والإقليمي. العقل السياسي السوداني عقل محلي منغلق مهيأ لخدمة أجندة خارجية ويتصف بالانحياز إلى قضايا شخصية محدودة دون ترتيب للأولويات الوطنية، والنتيجة عجز عميق عن التمييز بين معارضة نظام سياسي وبين معارضة الدولة نفسها. هذا الداء أفقد السودان الكثير، وعلى الصفوة أن تراجع نفسها. أعتقد أن هناك حاجة ملحة إلى مراجعات فكرية شديدة عند قوى الحرية والتغيير.
9- تنبعث مخاوف جمة من انحدار الصراع إلى حرب أهلية شاملة لا تبقي ولا تذر.. كيف السبيل إلى إبطال هذا المنزع لا سيما أن الملمح العام للتعبئة والتحشيد يقومان على اعتبارات قبلية ويستدعيان سيلًا بشريًا دفاقًا من مناطق غرب السودان وما وراء الحدود؟ وفي المقابل تقوم التعبئة المضادة في مناطق توصف بجغرافيا الامتياز في نهر النيل.. ألن يستدعي ذلك ذاكرة التاريخ ويفجر الحاضر ويقضي على المستقبل بصراع عميق وعقيم في آن معًا؟
كل الاحتمالات واردة، لكني لا أعتقد أن هذا الوصف دقيق؛ التعبئة مع الجيش شاملة وأكثر قومية، نعم لأسباب كثيرة مم ضمنها الشعور بالتهديد تتحرك مجتمعات السودانيين في الوسط وحول الخرطوم شمالًا للاستنفار، لكن الجيش السوداني يحمل نواة القومية السودانية وبذورها، وتجده في الغرب وجبال النوبة والأنقسنا والشرق والشمال والوسط. المسألة هنا هي أي رواية يجب أن تسود بشأن الحرب: رواية أن هذا الجيش السوداني بكل ما فيه من عيوب يمثل السودان ومستقبله ويخوض حربًا ضد مليشيا أم رواية التمرد وقوى الحرية والتغيير الملتبسة بين خطاب تضليلي عن الفلول وخطاب عنصري ضد مجموعات الشمال والوسط وخطاب تفكيكي ضد الدولة نفسها بما يعرف بدولة 56؟ المليشيا عنصرية تمامًا وعقيدتها قبلية وعرقية، ونحن نتعامل مع واقع معقد يحتاج منا إلى معالجة تكاملية تبدأ بضرورة هزيمة هذه المليشيا ثم العمل على معالجة الآثار، لكن وفي كل الحالات لا يمكن التراجع عن خيار المقاومة.
10- نادى مالك عقار مجموعات الإسلاميين إلى إعمال النقد في تجربتهم الممتدة ثلاثين عامًا والتي انتهت بكثير من المآزق ليس أقلها السماح بفصل الجنوب واشتعال الأطراف وغليان المركز بالثورات الاحتجاجية.. أو ليس في كل ذلك ما يدعو إلى المراجعة أفقًا للحوار والإصلاح؟
أفهم حديث مالك عقار في إطار تكتيك يسعى لدفع تهمة الإسلاميين عن الجيش، لكن المراجعات مطلوبة من الجميع. شخص مثل مالك عقار مثلًا ومع موقفه الوطني حاليًا إلا أن جزءًا كبيرًا من مسيرته كان فيه حراك مسلح مدعوم من الخارج خاصةً من الصهيونية والغرب. ألا يحتاج هذا الموقف إلى مراجعة؟ هل قام بذلك؟ هل كتب شيئًا عن اتفاق جوبا وحاجته الملحة إلى المراجعة؟ كما قلت سابقًا: المراجعات ضرورية لكل الطبقة السياسية السودانية، والإسلاميون مثيل غيرهم في حاجة إلى المراجعة، لكن العقل السياسي المعارض الذي حمل شعارات الليبرالية والديمقراطية هو الأكثر حاجة إلى المراجعات الفكرية.
11- متى نقول إن الجيش انتصر في معركته الراهنة؟ وهل توازي التضحيات المقدمة ثمنًا معقولًا للقضاء على فصيل "خرج عن رحم المؤسسة العسكرية وحارب تحت لوائها زمنًا طويلًا"؟
هذه المعركة التي نواجهها هي أعظم معركة في تاريخ السودان والأكثر خطورة منذ العام 1821 تاريخ دخول السودان للعهد الحديث. أقول ذلك لأني أعلم جيدًا خطورة هذه المرحلة والضعف الكبير الذي ضرب مؤسسات الدولة والمجتمع، والحصار الخارجي، والشروط الثقافية التي فككت المجتمع، والهيكل الاقتصادي السائد الذي أفقر الناس وجوعهم.. تخيل في ظل كل ذلك تواجه حربًا بالوكالة تقوم بها مليشيا خلفها جهات كبيرة تدعمها. هذه المعركة لم تحدث في تاريخ السودان من قبل وهي الأهم لمستقبل السودان بأكثر حتى من معركة "كرري". ولذلك فإن التضحية والصبر والعمل واليقظة الوطنية الشاملة أمور واجبة على الجميع.
12- كيف ترى سبل الحل؟ هل من تأسيس جديد يمكن أن يتداعى إليه كل الناس؟ أم أن الميدان سيفرض شروطه في مختتم الأمر ويعيد تشكيل الواقع من جديد؟
الحرب الحالية سياسية وعسكرية، ربما الجانب العسكري فيها جزء من السياسي أصلًا، وقد بدأت لإكمال مخطط هزيمة السودان وإكمال تبعيته وتفكيك الدولة وإعادة صياغتها من جديد وفق حكم مليشيا ونخبة سياسية عميلة. وبذلك فإن الحل يقوم على الاعتراف بأن هذا المخطط مرفوض وقد هزم أصلًا، وترجمة هذا الاعتراف تكون بقبول سيادة الجيش واحتكاره لدور الجيش الوطني للبلاد وفق القانون والدستور ثم البدء في تأسيس سياسي سليم على روح الحوار والتفاهم ومبادئ الأمن الوطني السوداني والسيادة الوطنية. وبالطبع فإن طرق إنهاء الحرب تتعدد وتتنوع، لكن هناك ثوابت لا يمكن تجاوزها، أهمها: عدم وجود مستقبل سياسي أو عسكري للمليشيا من جديد. نحتاج إلى حلول مبدعة وتشبه المرحلة، ويجب أن نكون منفتحين على كثير من الطرق التي تحقق الحل، لكن الثوابت لا حياد عنها لأن أي تراجع عنها يعني نهاية الدولة السودانية.