في وقت نجحت فيه السُلطات السودانية في تحرّير 139 رهينة من أيدي عصابات الاتجار بالبشر، الأسبوع الماضي، تحتضن العاصمة الخرطوم هذه الأيام فعاليات المؤتمر الدولي لمكافحة الهجرة، والتي تقض مضجع القارة الأوروبية، ما أجبرها وعلى نحوٍ لافت إلى مد الجسور نحو حكومة الرئيس عمر البشير، مهما كان الثمن، وذلك من أجل وضع حد لتدفق اللاجئين.
يمثل السودان منطقة عبور للأفارقة الهاربين من جحيم بلدانهم إلى الشمال الأوروبي، رغم المخاطر التي تحدق بهم
يمثل السودان منطقة عبور للأفارقة الهاربين من جحيم بلدانهم إلى الشمال الأوروبي، رغم المخاطر التي تحدق بهم منذ عبورهم حدود بلدانهم إلى تجار البشر السودانيين في الغالب، ودفع أموال طائلة للمهربين، ومع ذلك فمن لم يفترسه البحر الهائج، تتلقفه سياط وبنادق خفر السواحل الأوروبية.
ترحيل القمع
ومع تلك المخاطر لم تتوقف قوافل الهجرة، وأدركت حكومات الاتحاد الأوروبي، أن محاولات منع المهاجرين من الوصول إلى الشواطئ الغربية غير فعالة، حيث أثار قمعهم عند الحدود الأوروبية استياءً واسعًا في أوساط الحقوقيين، ما جعل هناك حاجة ماسة لمنع وصولهم إليها أصلًا، إما من خلال اتفاقيات مع وسطاء مثل السودان وليبيا، وإما من خلال مبادرات لحل الأزمات التي تعاني منها دول المهاجرين، من حروب وأزمات سياسية واقتصادية طاحنة، فبرزت جهود المصالحة بين أرتريا وإثيوبيا مؤخرًا، وتبادل الزيارات" بين رئيسي البلدين آبي آحمد وأسياس أفورقي، ورفع الحصار الاقتصادي الأمريكي عن السودان، بالإضافة إلى توقيع اتفاقية سلام بين الفصائل المتناحرة في دولة جنوب السودان الوليدة.
اقرأ/ي أيضًا: التصالح الأوروبي السوداني على جثث اللاجئين.. ضوء أخضر للقتل والتنكيل
تبدأ عادة مغامرة المهاجرين الأفارقة من معسكر "الشجراب" جنوب مدينة "كسلا" الواقعة على حدود السودان الشرقية، ويتجهون إلى العاصمة الخرطوم إلى حين اكتمال ترتيبات سفرهم شمالاً، عبر طريق صحراوي شاق إلى الحدود الليبية، أو إلى مصر. وخلال تلك المسيرة المضنية تتسلم عصابات خبيرة بالطرق المهاجرين، وتتقاضى مقابل الفرد الواحد ما بين ثلاثة إلى خمسة ألاف دولار. وتتكون هذه الجماعات من زعماء عشائر وحركات مسلحة متمردة.
وعلى نحوٍ أكثر قسوة، يضطر المهاجرون بعد إنفاق كل ما يتملكونه من أموال، إلى بيع كلاهم، وأحيانًا الالتحاق بالجماعات المُتشددة، دون أن تتوفر لديهم خيارات أخرى.
وفي الأسبوع الماضي أنقذت السلطات السودانية رهائن من قبضة مهربي بشر بالقرب من مدينة كسلا على الحدوة السودانية الإرتيرية، وعدّ والي كسلا، آدم جماع، ممارسة الاتجار بالبشر في ولايته مبررًا لتمديد حالة الطوارئ، وأشار جماع إلى ما وصفهم بـ"عصابة خطيرة تعمل بالولاية في تهريب البشر لم يتم الوصول إليها"، مطالبًا عناصر شرطة المباحث بقطع "رأس الحية" في تجارة تهريب البشر. وأفاد الوالي أن ضحايا الاتجار بالبشر من الأطفال والنساء عرضة للابتزاز ممن أسماهم بـ"ضعاف النفوس وفاقدي الأخلاق والوازع الديني" دون أن يحدد هويتهم.
رفع العقوبات مقابل رفع الحرج
وقد أدركت الحكومة السودانية فيما يبدو قيمتها لدى الاتحاد الأوروبي في هذا الشأن، وهي فرصة مواتية للمساومة، ولذلك وبعد أن ضمنت تجيير مواقف الاتحاد الأوربي لصالحها، ها هي تتأهب للمرحلة الثانية من حوارها مع الولايات المتحدة الأمريكية، حيث أوضح وزير الخارجية السوداني، الدرديري محمد أحمد، أن السودان يحضّر الآن للمرحلة الثانية من الحوار مع الولايات المتحدة الأمريكية توطئة لتدشينها قريبًا، وأشار إلى دور البلاد في قضايا الأمن والسلام الإقليمي ومحاربة الإرهاب والهجرة ومكافحة الجرائم العابرة للحدود.
كما أنه ولأول مرة تقريبًا تعلن الخرطوم بصورة رسمية غرق سودانيين في قارب بالبحر الأبيض المتوسط، حيث أعربت وزارة الخارجية السودانية الأسبوع الماضي، عن أسفها البالغ لنبأ غرق أحد القوارب بالبحر الأبيض المتوسط، شرقي العاصمة الليبية طرابلس، وعلى متنه أكثر من مئة من مواطني عدة دول بينهم سودانيون. وأضافت الخارجية: "انطلاقًا من مسؤوليات الدولة وحرصها على سلامة مواطنيها، فإن الوزارة تجدد مناشدتها للراغبين في السفر إلى دولة ليبيا الشقيقة، ضرورة الحرص على الحصول على الأوراق الهجرية الصحيحة، والدخول والخروج والعبور منها عبر المنافذ الرسمية المعروفة، وذلك حفاظًا على أرواحهم، وتجنبًا للوقوع في براثن عصابات الاتجار بالبشر".
وقبل عامين تقريبًا، اعتقلت السلطات السودانية أحد أكبر وأخطر مهربي البشر في العالم، وسلمته إلى السُلطات الإيطالية، يدعى مريد يهديغو مدهين، وهو إريتري عمره 35 عامًا، واتضح فيما بعد أن الشخص المقبوض عليه هو مدهاني تسفاماريام برهي، وهو لاجئ إريتري يحمل نفس الاسم الأول للمهرب الحقيقي. أما ميريد فلا يزال طليقًا.
ورغم أن الاتحاد الأوروبي لم يعلن طبيعة وحجم الدعم الذي قدمه للحكومة السودانية مقابل المساعدة في إيقاف تدفق المهاجرين إليه، ولكن السودان أوكل المهمة لقوات الدعم السريع شبه الحكومية، والتي يقودها اللواء محمد حمدان حميدتي، أشهر قادة الحرب في دارفور. وتقوم قوات الدعم السريع المسلحة وذات التكوين القبلي بمهام قتالية في اليمن، وبعض المناطق المتأزمة في السودان.
أدركت الحكومة السودانية قيمتها لدى الاتحاد الأوروبي بشأن منع الهجرة، واعتبرت ذلك فرصة مواتية للمساومة
وفي نيسان/أبريل 2018 الجاري طالب قائد قوات "الدعم السريع"، الفريق محمد حمدان (حميدتي)، المجتمع الدولي والاتحاد الأوروبي بالاعتراف بمجهودات قواته في محاربة جرائم الإرهاب والاتجار بالبشر مضيفًا بلهجة تهديد صارمة "وإلا سيكون لنا رأي آخر"، يريد من ورائها حميدتي ،على الأرجح، تأمين الأموال اللازمة لقواته للقيام بالمهمة وحمايته من أي ملاحقة جنائية في المستقبل، مشيرًا إلى انتشار 23 ألف جندي من قواته على امتداد حدود السودان الجغرافية، "دعمًا لمكافحة الجرائم العابرة للحدود بكافة أشكالها والهجرة غير الشرعية"، على حد وصف حميدتي.
اقرأ/ي أيضًا: ما هي الصفقة وراء رفع العقوبات الأمريكية عن السودان؟
وفي محاولة لترجمة خطوات التعاون بين السودان والمجتمع الدولي، انعقدت يومي الإثنين والثلاثاء من هذا الأسبوع فعاليات مؤتمر اللجان الوطنية لمكافحة الاتجار بالبشر في القرن الأفريقي. ويهدف المؤتمر لإيجاد آلية إقليمية لتوفير الحماية اللازمة لضحايا الهجرة غير الشرعية والاتجار بالبشر، ويتم تنظيم المؤتمر بالتعاون مع المنظمات المعنية عبر برنامج تحسين إدارة الهجرة، بتمويل من الحكومة الألمانية، ومشاركة الاتحاد الأوروبي، وممثلين عن دول القرن الأفريقي (أوغندا، كينيا، إثيوبيا، جنوب السودان، جيبوتي والصومال).
ووفقاً لسفير الاتحاد الأوروبي في السودان، جان ميشيل ديموند، فإن المؤتمر "يناقش العقبات التي تواجه مجموعات المهاجرين غير الشرعيين"، حيث طالب بتطبيق المعايير المتعلقة بحماية حقوق الإنسان، خاصة المرأة والطفل، وتوفير الحماية والوقاية للمهاجرين من عصابات الاتجار بالبشر".
ومع ذلك لم يوف الاتحاد الأوروبي بالالتزامات التي قطعها في مؤتمر فاليتا بمالطا لدعم السودان لمكافحة الهجرة والاتجار بالبشر، عبر السيطرة على حدوده الممتدة مع دول الجوار، كما أنه من المتوقع أن ينتهي المؤتمر الحالي إلى اعتماد مركز تنسيق مكافحة الاتجار بالبشر في الخرطوم، كخطوة للعمل المشترك في حماية ضحايا الاتجار بالبشر ورفع الحرج عن القارة الأوروبية، بجانب ما تسعى له الحكومة السودانية، وهو شطب اسم السودان من قائمة الدول الراعية للإرهاب، وحماية قادة النظام من ملاحقة المحكمة الجنائية الدولية.
اقرأ/ي أيضًا: