23-يونيو-2020

مسرحية "تجنيد إجباري"

في توثيقهِ لحادثة مجزرة العيلفون، ورثائه لأرواح مجنّدي الخدمة الإلزاميّةِ، الذين قُتلوا في نيسان/أبريل من العام 1998، كتب الشاعر والمسرحي فضيلي جمّاع، قصيدةً سمّاها: (الوردُ ينبتُ في العيلفون)، أنشد فيها: "وكان المعسكرُ وصمةَ عارٍ على العيلفون/فقد كان ينسجُ ثوب المنيّةِ للقادمين إليه/ يُجهّزُ أكفانهم في الشمال/ ليدفنهم في الجنوب/ تنادوا إلى النهر/ والنّهرُ أرغى وأزبد/كشّر عن نابه واكفهر/ وفي الخلفِ دوّى الرصاص/وأحلى الخيارين مُر".

كان قد أعلن النائب العام تاج السر الحبر قبل أيام عثورهم على مقبرة جماعيةٍ لطُلاب الخدمة العسكرية الإلزامية

وقبل أيّام، أعلن النائب العام، تاج السر الحِبر، عُثورهم على مقبرةٍ جماعيةٍ لطُلاب الخدمة العسكرية الإلزامية، والتي عُرفتْ إعلاميًا وسياسيًا بإسم "مجزرة العيلفون". وأضاف النائب العام أنّهم قُتلوا برصاص الأجهزة الأمنية، وأنّ ملفهم تمّ وضعه أمام القضاء؛ تمهيدًا لتقديم الجُناة إلى محاكمة.

اقرأ/ي أيضًا: لماذا يفترض عثمان عجبين أنّنا لم نُغنِّ بعد؟

وقبل شهور، نظّم المخرج المسرحي ياسر عبد اللطيف، مسرحية أسماها (تجنيدٌ إجباري)، وثّق فيها حادثة مجزرة العيلفون، بجُرأة فنيةٍ، وصلت حد الإشارات بالأسماء للضالعين في ارتكاب هذه المجزرة.

بعدها بفترةٍ قصيرةٍ، تقدّم كمال حسن علي، سفير السودان السابق في الجامعة العربية، وأحد قيادات الإنقاذ الوسيطة، الذي كان وقتها مسؤولًا عن معسكر العيلفون ببلاغٍ إشانة سُمعة، اتهم فيه المخرج المسرحي ياسر عبد اللطيف، بالإشارة إليه بإسمه، في الضلوع في هذه المجزرة. وبرأي كمال حسن أنّ المسرحية ومُخرجها –ياسر عبد اللطيف- وجّها له اتهامًا مباشرًا، باعتبار مسؤوليته في معسكر العيلفون، وباعتبار أنّ التعليمات التي صدرتْ بقتل الطلاب، صدرتْ منه.

عمليات النبش في مقابر الصحافة
عمليات النبش للمقبرة الجماعية في مقابر الصحافة

ونفى كمال حسن علي، في الثالث عشر من حزيران/يونيو 2020، على صفحته الشخصية بفيسبوك، أية صلة له بالحادثة، ومؤكدًا إقدامه على فتح بلاغ ضد المخرج ياسر عبد الله "الذي افترى عليّ الكذب، والبلاغ الآن أمام القضاء، بعد أنْ تمّ القبض عليه، وخروجه بالضمان"، كتب كمال حسن علي.

فهل يُريدُ تلاحق الأحداث في هذه القضية، وبعد اثنين وعشرين عامًا على حدوثها، التأكيد على أنّ عنوان قصيدة فضيلي جماع: الورد ينبتُ في العيلفون؟.

ليس قصيدة الشاعر فضيلي جمّاع وحدها هي القاسية، ولكن ما هو أقسى منها، شهادات الناجين من هذه مجزرة العيلفون، التي تنضافُ إلى تاريخٍ طويلٍ من القتل المجّاني، الذي كان طرفًا فيه الأجهزة الأمنية لنظام الإنقاذ. ولا تنتهي سلسلة القسوة هنا، وإنّما استمرّتْ وتواصلت لتصل إلى الخُلاصة: أنّ الحادثة منذ وقوعها، وحتى قبل إعلان النائب العام الشروع في إعداد ملفات التقاضي فيها، مرّتْ بلا مساءلةٍ لمن قتلوا هذه الأرواح بالرُصاص، أو أغرقوها في النهر، مع إصرار وترصّدٍ بالقتل. حيث لم تظهر للعلن أيّة مضابط للتحقيق في الحادثة. وإنّما انكتبت على هذه الأرواح أنْ تموت "سمبلا"!!

اقرأ أيضًا: واجب دعم ورعاية المبدعين.. من قال ذلك؟

إنها شهاداتٌ تكشف القسوة شديدة البشاعة التي كان تتعامل بها القوات الأمنية مع مُجنّدي الخدمة الإلزامية، حيث كشف إبراهيم خليلي، وهو أحد الناجين لصحيفة البيان الإماراتية، الطريقة المجافية للإنسانية، التي يتم التعامل بها معهم، منذ لحظة القبض عليهم، وإيداعهم المعسكر، ثم القسوة في التعامل في المعسكر، وإجبارهم على السفر للمشاركة في حرب الجنوب.

في هروبهم من المعسكر القاسي ماتوا إما غرقًا، أو قتلهم الرُصاص العنيف المنهمر على رؤوسهم

هذه السلسلة من التعسّفات والقسوة، هي ما أجبرهم على التفكير في الهروب. وبعدها انطلقت أعيرة الرصاص تقتلُ بلا هوادة؛ من قرّر الفرار جريًا من المعسكر، ومن قرّر الفرار عبر النيل. وهؤلاء ماتوا إما غرقًا، أو قتلهم الرُصاص العنيف المنهمر على رؤوسهم، وما نجا منهم إلا قليل، منهم إبراهيم خليلي.

وأبلغ عضو اللجنة القانونية التي كوّنها النائب العام في قضية مجزرة العيلفون "ألترا سودان"، بأنّ هذه القضية تُعد البوابة الأساسية بالنسبة لهم في ملفات تحقيق العدالة الانتقالية في السودان. وقال عضو اللجنة القانونية، الذي فضّل حجب اسمه، بأنّ هذه القضية تكتسبُ أهميتها من كونها قضية تعرّضت لتعتيمٍ إعلامي، وتضليلٍ قانوني. وأنّ غالب الذين قُتلوا من أسرٍ بسيطة ومجهولة. ولو لم تطرق الصحافة الحُرّة وقتها على هذه القضية، لتمّتْ مواراتها النسيان، بنفس الطريقة البشعة التي قُتل بها الضحايا، وتمّ دفن جُثثهم وكأنهم لا شيء. 

ياسر عبد اللطيف
ياسر عبد اللطيف

وبالعودة إلى الذاكرة، فقد شهد النصف الأول من حقبة التسعينات، وحتى النصف الثاني، حملاتًا غايةً في التعسّف للتجنيد القسري. حيث يتم القبض على الشباب من الشوارع، أو إنزالهم من المركبات العامة، لينخرطوا في معسكراتٍ قاسية، يُشحنوا بعدها مباشرةً بالجبر والقسر، إلى جنوب السودان، للمشاركة في حرب الجنوب، التي حوّلها نظام الإنقاذ، من حربٍ أهلية، إلى حربٍ دينيةٍ مقدّسة.

يقول المخرج ياسر عبد اللطيف، لـ "ألترا سودان" بأنّ نص مسرحية "تجنيد إجباري"، اتجه إليه بصُحبة فريق المسرحية، من باب "فتح التاريخ السوداني، ومحاولة مسرحة الوثيقة التاريخية السياسية لها. وبالتالي انطرحتْ الأفكار لمسرحة عدد من الوقائع السياسية السودانية، مثل أحداث إعدام ضباط انقلاب رمضان 1990، بجانب أحداث مجزرة العيلفون، وصولًا إلى كل الأحداث التي حدثتْ في فترة حكم الإنقاذ. ولا يُستثنى من ذلك حادثة فض اعتصام القيادة العامة". 

اقرأ/ي أيضًا: كورونا على طاولة الأدب

ويُضيف ياسر بأنّ واحدة من مُحرّضات إنتاج المسرحية هو "العمل لأجل الوظيفة الاجتماعية الحقيقية للمسرح السوداني، في مقابل ما ظللنا نُشاهده من دراما تنتمي إلى سنوات الإنقاذ، التي تُقدّم التنكيت والتسطيح).

ياسر عبد اللطيف: "كان في البال أنّ الثورة حدثت والتغيير اكتمل، وينبغي التعامل مع الأحداث بذات الوضوح، لكن يبدو أنّ الأمر ليس كذلك، حيث تمّ فتح بلاغٍ في مواجهتنا"

مسرحية "تجنيد إجباري"، تمّ تقديمها في أيار/مايو 2018، ووقتها لم يكن هناك إشارةٌ للأسماء ولا الأماكن التي لها علاقة بأحداث مجزرة العيلفون، وذلك بسبب الظروف الأمنية التي كانت مرافقة للعمل الإبداعي من قمعٍ وتسلط. وحينها تمّ الاكتفاءُ فقط بالإشارات العامة للحادثة وأجواء المعسكر، وصولًا إلى مشاهد الهروب والقتل. لكن في شباط/فبراير الماضي، وبعد الثورة والتغيير، تمّ تقديمها ضمن فعاليات عرض الافتتاح لمهرجان المسرح الوطني. يعود ياسر عبد اللطيف ليقول: "كان في البال أنّ الثورة حدثت والتغيير اكتمل، وينبغي التعامل مع الأحداث بذات الوضوح، لكن يبدو أنّ الأمر ليس كذلك، حيث تمّ فتح بلاغٍ في مواجهتنا".

أغلب التحليل للواقع يقول بأنّ الأرض التي تحرّكتْ تحت حادثة مجزرة العيلفون، وكأنها تُريد القول بأنّ الورد سينبتُ في العيلفون، ولو بعد إثنين وعشرين عامًا.

اقرأ/ي أيضًا

الفنون في زمن كورونا

"فيكتور كيري واني".. ذاكرة الصحافة الوطنية في جنوب السودان وموسوعتها الحية