إذا "لم تكن ريميديوس الجميلة تشبه هذا العالم" في رواية مائة عام من العزلة، للروائي الكولومبي غابرييل غارسيا ماركيز، فإن مرسيدس بارشا زوجة ماركيز من طين هذا العالم وترابه الحي والحقيقي، إذ حاكى العالم جمالها واستشفَّت هي بدورها من خلال هذا الجمال روح العالم وتقمَّصت ملامحه.
تعرف ماركيز على مرسيدس، حبيبة وزوجة المستقبل، عندما كان في الثانية عشرة من عمره وكانت هي في التاسعة من عمره
فبعد أن سحرتنا رواية "مائة عام من العزلة" بعوالمها السحرية وشخوصها الأسطوريين، حيث صرنا مأخوذين بشخصيات أوروسولا الحكيمة وريميديوس الجميلة وملكياديس المُنجِّم المُشعوِّذ، أسرتنا مرسيدس بارشا زوجة ماركيز أيضًا والتي رحلت قبل أيامٍ قليلة عن عمرٍ يناهز (87) عامًا في العاصمة مكسيكو. وبوداع العالم لرفيقة درب ماكيز، وهي التي شكَّلت حجر الزاوية لمشروعه الروائي بل كانت نصًا جماليًا واقعيًا ظل يتخلَّل نصوصه الروائية، سيخبو قليلًا بريق الإيهام بين ما كانت تُمثله مرسيدس في حياة ماركيز، من جهة، وما تُمثِّله أورسولا المُتخيَّلة في رواية مائة عام من العزلة، من جهة أخرى، فكلاهما من طين قيم التفاني والعطاء والتوازن والمكابدة والتشاوَّف وعمق البصيرة والدفء والحميميِّة والحنان.
اقرأ/ي أيضًا: "كجراي" أو "المحارب".. سيرة شاعر ومعلم وثائر
وتعَّرف الروائي الكولومبي غابريال غارسيا ماركيز على مرسيدس، حبيبة وزوجة المستقبل، عندما كان في الثانية عشرة من عمره وكانت هي في التاسعة من عمرها، فهما يتجاوران في ذات الحي كما تربط أسرتيهما حميمية المساكنة والقرب والتواصل الحياتي اليومي. وتزوَّج ماركيز بمرسيدس في العام 1958. وتنحدر مرسيدس من أسرة مهاجرين من أصول لبنانية-سورية، أقاما في مصر أولًا، في مسكنٍ في بورسعيد، ومن ثم قادتهما المصائر والمقادير إلى كولومبيا، حيث أقاما في ماجانغوي.
لم تكن مرسيدس تبادل ماركيز الحب من موقع المتلقي السلبي أو المحبوبة المتعالية الخاضعة التي تكون في العلاقة العشقية موضوعًا للحب وليس ذاتًا فاعلة وخلاَّقة، أي دون أن تتفاعل وتتبادل الأحاسيس حزو الروح رِدف الروح، ومن ثم تخلق حالات العشق وترسي قواعد العلاقة المتينة، بل برهنت مُبكرًا على رهافة علاقتها بالوجود وعلى روحيتها الرَّنانة، عندما أهدت ماركيز نصًا وصفيًا لنهر ماغدالينا الشهير في كولومبيا، ذات النهر الذي ظَّل مُحتفظًا بحضوره الأسطوري في الواقع كما في نصوص ماركيز الروائية. وتتخلَّل شخصية مرسيدس الموحيِّة معظم روايات ماركيز إن لم يكن كلها، وعلى وجه الخصوص "مائة عام من العزلة" و"الحب في زمن الكوليرا" و"خريف البطريق"، مُتخفيِّة بحضورها المستقل والغامض والمُغلَّف بالتداخل بين الواقع والخيال، وكأنها ساحرة أمازونية لا مرئية توحي ولا تتجسَّد.
وتُعد قصة ظروف وملابسات كتابة رواية "مائة عام من العُزلة" في حد ذاتها ملحمة أدبية تقمَّصت فيها مرسيدس دور البطلة بامتياز. ففي ضنكٍ وشُحٍ بالغين، أخذ ماركيز يكتب هذا العمل العظيم الذي استغرق قرابة عامين. وبعد الانتهاء منه لم يكن لدى ماركيز ومرسيدس ثمن إرسالة مخطوطة الرواية عبر البريد إلى الناشر، لدرجة أن ماركيز اقترح على الموظف المختص أن يقطع جزءً من مسودة الرواية ويرسلها نظير ما يملكونه من مال، الأمر الذي دفع مرسيدس في نهاية المطاف إلى رهن وبيع بعض الأدوات المنزلية. وكانت تكلفة الإرسال تبلغ (83) بيزو، بينما لم يكن بحوزة مرسيدس سوى (45) بيزو فقط.
اقرأ/ي أيضًا: مترجم| سيلفيا بلاث: لا تحاول أبدًا خداعي بقبلة
وكان ماركيز قد أشار إلى ملابسات هذه الحادثة السحرية، قائلًا في مذكراته: "عشتُ لأروي": "عُدنا إلى المنزل وراحت مرسيدس تجمع ما تبقى لرهنه من الأدوات المنزلية". ولقد شكَّلت قوة شخصية مرسيدس، وبالمثل رباطة الجأش وحُسن تدبير الأمور، مأثرة وسط أصدقائه من أمثال فيديل كاسترو وماريو بارغاس يوسا. وبقدر ما كانت عاشقة لماركيز ورفيقة دربه طوال (60) عامًا، كانت أيضًا قارئة نهمة وذات عين صافية مُتفحِّصة ونابشة لنصوص ماركيز الذي كان دومًا ما يولي اهتمامًا لملاحظاتها وآرائها، مُعتدًا وُمسترشدًا بها، وهي التي كانت تُراجع جميع مخطوطاته قبل أن تصل حتى إلى المقربين من أصدقائه.
لن نفقد أثر مرسيدس كليًا برحيلها، لأننا سننبُش أعماق روايات ماركيز بحثًا عن وجوهها المُتخفيِّة
وبرحيل مرسيدس إلى الأعالي، سنحنُّ إلى نصوص ماركيز ورواياته مشبوبين بإحساس الفقد ومتقمصين روحها، نظرًا لأن روحها الساحرة كانت قد عمَّدتنا باكرًا، عشقًا وافتتانًا بفن الرواية، ولأن مرسيدس شكَّلت أيضًا وجه من وجوه الواقعية السحرية التي خايَّلت لون الصراصير الصفراء المذكورة في مائة عام من العزلة، من لون مرسيدس نفسه المائل إلى شمس الجنوب واصفرارها البرتقالي الشابح، لن نفقد الأثر كليًا بهذا الرحيل، لأننا سننبُش أعماق روايات ماركيز بحثًا عن وجوه مرسيدس المُتخفيِّة والتي عبثًا سنظل نقص أثرها في كل حالةٍ متخيِّلة أو مشهدٍ ساحر، أو رغبةٍ محمومة تتمرجَّح على سريرٍ سابح بشكل مائل بين شجرتين، أو ابتسامةٍ محُلِّقة تتشمَّم عَبَق أشجار الكاكاو والمانجو في حقول ماكوندو.
اقرأ/ي أيضًا