منذ أيام والكاتب السوداني عبد الغني كرم الله قابع في زنزانة ما، لا أحد بالضبط يعلم أين هو معتقل ولماذا لم يُطلق سراحه، بينما خلّف الحجب القسري لحريته حالة أشبه بالحداد الثقافي، لم يقتصر مداها على غياب قاص وكاتب مؤثر في المشهد الإبداعي، وإنما تجاوز السخط على الحكومة إلى اتحاد الكتاب السودانيين نفسه بسبب تأخر تضامنه، وتناسلت نتيجة لذلك عديد من الاستقالات، وصلت مرحلة وصم الاتحاد بشبهة التواطؤ بالصمت، وبأشد مما كان قد لازمهم من خلافات في السابق.
منذ أيام والكاتب السوداني عبد الغني كرم الله قابع في زنزانة ما، لا أحد بالضبط يعلم أين هو معتقل ولماذا لم يُطلق سراحه!
لعلها مفارقة أن تكون أشهر قصة لعبد الغني كرم الله بطلها حذاء يطلق فيها العنان لموهبته الفذة، بينما يقوده ذات الحذاء، منتصف كانون الثاني/ يناير الجاري للمشاركة في احتجاجات الخبز والحرية، حقيقة لا مجازًا هذه المرة، أو بالأحرى قاده ضميره المتعب للتعبير عن رفضه السياسات الاقتصادية التي أقرتها الحكومة السودانية مؤخرًا، وتسببت في موجة غلاء طاحن، وهنا تم اعتقاله ضمن أخرين، واطلق سراحهم الكثير منهم دون عبد الغني كرم الله، ليعتقل هو الأضواء من محبسه، فما الذي جرى بعد ذلك؟
اقرأ/ي أيضًا: الرجل الخراب.. أسئلة الهوية
في الجواب المشهود، على السؤال النافل تنفجر الأزمة داخل اتحاد الكتاب السودانيين لجهة تأخر بيانه، وبالخارج أيضًا كان الجدال محتدمًا، ماذا يمكن أن نفعل أكثر من التضامن؟ لا سيما وأن عبد الغني كرم الله لم يكن مجرد كاتب وإنما سارد بارع وصاحب رؤيا فكرية وفلسفية مختلفة، ومشروع ثقافي موسوم بـ"الربيع الكوني" عوضًا عن اهتمامه بتنمية المهارات الابداعية للأطفال، وأقرب إلى كون عبد الغني كرم الله معلم جيد للرسم والكتابة، إذ يعتبر من أكثر الأصوات المعاصرة تميزًا، وينتمي إلى جيل التسعينات، له العديد من الأعمال المنشورة، أشهرها "القلب الخشبي" و"آلام ظهر حادة"، ومجموعة من القصص والكتابات الصحفية.
في الحال، وبعد أن غاب صوت الكاتب داخل السجن، ولم يتم تقديمه إلى محاكمة، خرجت بعض الأصوات تنادي بإطلاق سراح عبد الغني كرم الله وسراح اتحاد الكتاب، فيما تقدم الكاتب والروائي يس حبيب نورة باستقالته، وقال في متنها: "يؤسفني أن أقدم استقالتي بهذه الطريقة، ولكن طال الصمت ولم يصدر اتحاد الكتاب بيانًا يجرّم اعتقال الزميل عبد الغني، وحتى لا تطالني سهام الاتهام والتواطؤ الكريه إلى نفسي وإيمانًا مني بمبدأ الحرية أقدم استقالتي".
فيما مضى على ذات المنوال الروائي مهند رجب الدابي، واعتبر اتحاد الكتاب السودانيين "لا يعبر عن منسوبيه الذين يدفعون الاشتراكات ويحضرون لياليه الباهتة، قيمة جميع الاتحادات تكمن في مواقفها" على حد وصفه. وبالرغم من أن الصراع داخل الاتحاد لم يكن طارئًا بسبب اعتقال عبد الغني، إلا أن جهود موراته فشلت بالمرة لتفض مغاليقها الأحداث الأخيرة.
لم يكن ثمة من يتوقع أن يخوض اتحاد الكتاب السودانيين تلك الأوقات العصيبة من التنازع مع السلطة وخصومها معًا، فهو محسوب على الأصوات المعارضة، وقد حصل على جائز الاتحاد الأوربي لحقوق الانسان في كانون الأول/ ديسمبر 2017، فيما كانت السلطات السودانية ألغت تسجيله قبل عامين بحجة ممارسته أنشطة مخالفة لقانون الجمعيات الثقافية، وأصدرت لاحقًا محكمة سودانية قرارًا بعودته، لكنه لم يهنأ كثيرًا بالاستقرار.
كان صمت اتحاد الكتاب السودانيين عن اعتقال عبد الغني كرم الله، وبيانه المتأخر، أملًا بإطلاق سراحه دون مواجهة السلطة
بعد أسبوع من اعتقال عبد الغني كرم الله، تزامن بيان اتحاد الكتاب السودانيين مع استقالة الأمين العام للاتحاد عثمان شنقر، حيث فاجأ الأوساط الثقافية بتقديم استقالته مكتوبة مع احتفاظه بعضويته داخل الاتحاد. وأوضح في مؤتمر صحفي بالعاصمة السودانية أن أعضاء اللجنة التنفذية لا يحضرون الاجتماعات ولا المناشط، وأشار إلى أنه "بعد انسحاب شركة زين أصبح الاتحاد بدون موارد، وكانت اللجنة التنفيذية بين خيارين، أما تعمل بالعمل الطوعي، أو تنتظر الدعم من جهة ما"، ما دفعه إلى تقديم استقالته مرتين وتم ثنيه عنها، لافتًا إلى أن بعض المناشط التي لا تروق لبعض الاعضاء تقرأ في سياق سياسي، كما أنه أرسل مقترح لاصدار الاتحاد بيان يدين الزيادات في الأسعار وتم تجاهله، وأضاف شنقر "كذلك أعددت بياناً لإدانة اعتقال الكاتب عبد الغني كرم الله أيضًا تم تجاهله". وخلص إلى أن هنالك تمييعًا للمواقف، وعدم اتخاذ قرارات هامة لما يحدث من قضايا تمس المجتمع.
اقرأ/ي أيضًا: الثقافة في السودان.. حكم البيروقراطية والمناورات
على غِرار أن تأتي متأخرًا خيرُ من ألا تأتي، أصدر الاتحاد بيانًا أدان فيه اعتقال عبد الغني كرم الله وطالب بإطلاق سراح جميع المعتقلين، وقال إن ذلك يأتي انسجامًا مع مواقفه الثابتة تجاه الحريات العامة وحرية التعبير والاعتقاد والضمير وهي تمثل صلب أهداف الاتحاد. وأشار بالقول "ما حدث يوجب علينا الوقوف بحزم وقوة ضد أي اعتداء على هذه الحقوق ومع حق كل المواطنين والمواطنات، في ممارسة حقوقهم في التعبير والكتابة والاعتقاد وتسييير المواكب وتنظيم الوقفات الاحتجاية السلمية وتقديم المذكرات، وكافة أشكال الحقوق".
الروائي السوداني حمور زيادة كان ضمن المتسائلين عن صمت الاتحاد، وكتب أكثر من منشور على جدار صفحته بالفيسبوك في محاولة لاستكناه الحقيقة ، وقال لـ"ألترا صوت" بأنه ليس لديه معرفة بسبب تأخر الاتحاد في إعلان موقف يفترض أن يكون تلقائيًا وسريعًا من اللحظة الأولى للمطالبة باطلاق سراح روائي مهم بقامة كرم الله. وأضاف حمور: "لكن ربما من السهل التكهن أن الاتحاد تردد على أمل إطلاق سراح عبد الغني كرم الله دون أن يحتاج لمواجهة السلطة، وهو العائد من الحجب قبل أشهر قليلة"، ورفض زيادة تسمية التردد بأنه تماهيًا مع السلطة، لكنه مزعج، على ما وصفه، لافتًا إلى أن كتّاب العالم الثالث لا خيار لهم إلا الانحياز للحرية والديموقراطية. وهذا الانحياز "ليس ترفًا بل هو مسألة حياة أو موت بالنسبة لنا في أوطان تفتقر للحريات"، واعتبر زيادة أن اعتقال عبد الغني كرم الله أو أي كاتب آخر، أو مواطن، لممارسة حقوقه السياسية هو أمر غير مقبول.
بالنسبة لحمور زيادة فإن عبد الغني كرم الله ومن معه، حينما خرجوا متظاهرين كانوا يمارسون حقهم الطبيعي، بينما ليس لمن اعتقلهم أي حق في احتجازهم، ونبه إلى أن عبد الغني واحد من أهم الكتّاب في المشهد الثقافي السوداني في الداخل، وله مشروعه الإنساني الجمالي المميز، وقال "هو فاعل ثقافي نشط جدًّا في بلاد تحارب الثقافة، لا يكتفي بالكتابة فقط لكنه يساهم ويشارك في الفعاليات الثقافية، ومنها فعاليات موجهة للصغار".
لا يحبذ السر السيد رميهم بالحجارة على ذلك النحو. السر السيد هو كاتب وناقد درامي، ورئيس لجنة المناشط في اتحاد الكتاب السودانيين، فقد أصابته سهام الأمين العام المستقيل عثمان شنقر، الذي اتهمه بـ"القيام بنشاطات واجتماعات بآخرين لتكوين لجنة تنفيذية جديدة على نسق خلفيته الفكرية الإسلامية التي ينتمي فيها للإخوان المسلمين"، لكن السر السيد اكتفى بالرد على الاتهمات بأن بعضها لا يستحق، ونفى أن تكون استقالة الأمين العام لها علاقة بموضوع الكاتب عبد الغني كرم الله، وقال لـ"ألترا صوت": "شنقر تقدم بها قبل ما يقارب الشهر"، وأرجع تأخر البيان إلى الارتباط بسياسات الاتحاد وظروفه، وأكد أن الاتحاد ليس بعيدًا عما يجرى بل إن الكثير من منسوبيه مشاركين فى هذا الحراك كما أنه لا ينشغل فقط بمنسوبيه، فالاتحاد وفقًا لدستوره يدافع عن الحرية بمفهومها الأشمل.
حمور زيادة: الانحياز للحرية والديموقراطية، ليس ترفًا بل هو مسألة حياة أو موت
اقرأ/ي أيضًا: عزّوز عبد القادر.. أن تسحب أفريقيا إلى المسرح
السر السيد من جانبه ينفي الاتهامات المساقة لهم بالتقصير، ويرى أن عملية إصدار البيان تخضع لتقديرات اللجنة ولا علاقة للتقدير بالتواطؤ أو التخاذل، ويرمي إلى أن الكاتب أي كاتب له خياراته السياسية ومواقفه التي لا دخل للاتحاد فيها، وهو بذلك يعني أن الكًتاب لا ميزة لهم عن غيرهم فيما يخص الشان العام، لهذا جاء بيان الاتحاد مطالبًا بإطلاق سراح الجميع بمن فيهم عبد الغني الذي اعتقل في 16 كانون الثاني/يناير، ويخلص السر السيد إلى أن "الاتحاد يسعى مع آخرين لإطلاق سراح جميع المعتقلين والمعتقلات ولن ينشغل بمحاولات الابتزاز هنا وهناك".
اقرأ/ي أيضًا: