عانت كثير من المجتمعات في السودان من الحرب الأهلية الطويلة، وتعيش مناطق دارفور والنيل الأزرق وجنوب كردفان آثار ما بعد الحرب، ويقبع كثير من مواطنيها في مخيمات النزوح واللجوء، ويعاني أفرادها من تبعات ومخلفات الحروب. فهل ينجح الفن في علاج مجتمعات ما بعد الحرب؟ هذا ما تجيب عنه المساحة التالية.
سمات مجتمع ما بعد الحرب
لاتزال مجتمعات ما بعد الحرب تعيش حالة صدمة جراء طول أمد الحروب الطويلة، وتشتت شعوب تلك المناطق في مخيمات النزوح واللجوء، وهجرة أبنائها إلى خارج البلاد بحثًا عن أوضاع معيشية أفضل.
يعاني أفراد مجتمعات ما بعد الحرب من مرارة الفقد وقلة الخدمات الأساسية
وبالرغم من توقف الحرب وصمت السلاح عن القتل، إلا أن عملية عودة المواطنين لقراهم الأصلية لم تكتمل بعد. وبحسب مهتمين، فإن مجتمعات ما بعد الحرب يعاني أفرادها من مرارة الفقد نتيجة الموت في الصراعات، وقلة الخدمات الأساسية مثل التعليم والصحة لصعوبة وصول أجهزة الدولة ومنظمات المجتمع المدني لتلك المناطق، بالإضافة لتواجد مخلفات الحرب مثل الألغام وانتشار الأسلحة بأيدي المواطنين والقبائل. وفي المساحة التالية يناقش المهتم بقضايا السلام حيدر أبوقيد، أبرز سمات وملامح مجتمعات ما بعد الحرب في السودان.
للمزيد من المواضيع المشابهة:
سينما السودان تحت الأنقاض.. اصطراع الدولة والفن على المساحة الشخصية
حوار| أيمن بك: الرواية السياسية تصنع تاريخًا يمجّد الثورة وينبذ القتلة
يصف أبوقيد مجتمعات الحرب بالتفكك، ويشرح قوله بأن المكونات القبلية والمجتمعية بعد الحرب تعاني من انحياز للأطراف المتنازعة، ما يقود للنزاعات القبلية مع انتشار الأسلحة بيد الأفراد. ويضيف بالقول، إن مناطق ما بعد الحرب غائبة عن حماية الدولة وقضايا فض النزاعات نتيجة ضعف الدولة، ما يدفع الأفراد للجوء للحماية الذاتية. بجانب غياب منظمات المجتمع المدني، لتحل مكانها أقرب جماعة منظمة وهي الإدارة الأهلية. بحسب ما يرى حيدر أبوقيد.
ويمضي أبوقيد بقوله، إن مجتمعات ما بعد الحرب تعاني اقتصاديًا من حيث ضعف الإنتاج وفرص حصول أفرادها على عمل. ويتابع في حديثه لـ"الترا سودان"، إن قضايا النزوح واللجوء وصعوبة التداخل مع مجتمعات أخرى، من أبرز سمات المجتمع بعد الحرب. وأكمل قائلًا "يعيش أفراد هذه المجتمعات على هوامش وأطراف المدن، وتكون التربية عملية شاقة الشيء الذي ينعكس في ظهور إصابة الأفراد بالأمراض النفسية، وتظهر تبعات هذه القضايا في السلوك المجتمعي، مثل الإدمان وغيره".
الفن والمجتمع
وبحسب أقوال مهتمين بقضايا السلام فإن الفن يلعب دورًا هامًا في التخفيف من آثار الحرب، وغالبًا ما تكون لغة الفن هي الوسيلة الأكثر سهولة وأمانًا لمخاطبة شعوب مجتمعات ما بعد الحرب، وتلعب الفنون بمظاهرها المختلفة أدوارًا رئيسية في التخفيف من حدة آثار الحرب، وتخاطب قضايا السلام والمحبة بقوالبها الفنية المتعددة.
غالبًا ما تكون لغة الفن هي الوسيلة الأكثر سهولة وأماناً لمخاطبة شعوب مجتمعات ما بعد الحرب
ويشير المهتم بالشأن الاجتماعي والسياسي عبدالإله موسى، لوقوع الذاكرة الفنية أسيرة لوعي الحرب الذي تشكلت من خلاله، ويرى إن الرسالة الفنية تساهم في بعض الأحيان في تأزيم الصراع، لأن المضمون يعبر عن الواقع الحي بمتطلباته من حيث حشد الجيوش والاعتزاز بالقبيلة، خاصة في المجتمع التقليدي والبسيط. على حد تعبيره.
اقرأ/ي أيضًا: حوار| الروائي عاطف الحاج سعيد: أنا أستمتع بالكتابة وبعملية التخييل
وأبان موسى بأن الغناء في تلك المجتمعات لم يصل لوعي متطور للتعبير عن قومية البلاد، وقال: "لم يبلغ الفنان مرحلة فهم جذور مشاكل مجتمعات ما بعد الحرب، مثل الاقتصاد وغياب فرص التعليم وأثره على تشرد الشباب ليكونوا مستقبلًا وقودًا للحرب"، وبحسب ما يرى موسى فإن الفنان يناقش القضايا من حيث ما يظهر على السطح، دون الغوص في أعماق المشكلة.
ويمضي موسى بالقول، إن الفن يخاطب المجتمع في حدوده الفنية، مشيرًا لرسالة الفن غير المقصودة والمتحكم بها، لذلك -والحديث لعبدالإله موسى- يجب تغذية الرسالة الفنية بمبادئ الوطنية ومفاهيم السلام لتشكيل وجدان سوداني واحد ومشترك في قضاياه.
وختم موسى حديثه متسائلًا عن إصلاح الفنون لتعكس تصورات جديدة، وإشراك الفن في الإجابة على الأسئلة الكبرى من قبيل من هو الآخر؟ ومن نحن؟ إلى جانب سؤال الهوية.
رسائل الفن
دائماً ما تكون الفنون حاضرة في زمن الحرب، وعند قبائل النوبة بمنطقة جنوب كردفان يلعب غناء الحكامات دوراً في تشجيع الشباب لخوض الحرب والانتصار على الأعداء، وفي أوقات السلم تغني الحكامات لرسائل السلام والاستقرار.
وفي هذا الصدد يقول الكاتب متوكل دقاش، إن الفنون وسائل للتعبير عن التطلعات والرغبات وإحدى طرق تصوير الواقع، مع إضافة خيال ومشاهد مأمولة مستقبلًا.
اقرأ/ي أيضًا: جماعة عمل تطلق جائزة الشهيد الفاتح النمير للثقافة والإبداع
ويستدرك "الفن آلية تساهم في حل المشاكل من خلال حشد القيم الإيجابية وتوظيفها لخدمة أجندة السلام والإخاء والمساواة" وضرب دقاش مثلاً بموسيقى "الهيب هوب" التي بدأت كأداة مقاومة على يد الأمريكان السود، يقول: "تستخدم الموسيقى في ترسيخ مفاهيم المقاومة والعدالة والمناداة بالحقوق".
الفن هو الأداة الأمثل لعلاج جراح شعوب تلك المجتمعات وشفائها من آثار الحرب والدمار
ويذهب دقاش للإشارة إلى فن الجداريات الذي ظهر مع الثورة السودانية 2018 بعد حصار في عهد النظام القديم، ويشير إلى جداريات تحمل صورة القائد الراحل "جون قرنق" في وسط الخرطوم، ويعلق بقوله "أنظر إليها كدعوة مباشرة للمحبة بين شعوب البلدين" ويكمل حديثه "الجداريات نموذج للفن الصامت، يغذي المشاعر بدون أصوات فرح عالية، ونجح في إيصال رسائله واحترام حزن الآخرين دون صوت".
تحتاج مجتمعات ما بعد الحرب لكثير من المعالجات في نواحي الاقتصاد والبنى التحتية وغيرها من المجالات، ويبقى الفن هو الأداة الأمثل لعلاج جراح شعوب تلك المجتمعات وشفائها من آثار الحرب والدمار.
اقرأ/ي أيضًا