02-نوفمبر-2019

من جداريات اعتصام القيادة العامة (فيسبوك)

أمام التحولات الكبرى التي تحدث في قيم مجتمعنا السوداني، والحرية التي باتت موضوع تدور حوله معظم شؤوننا ثقافية كانت أم سياسية، كان لابد من فتح نقاش يتناول المعيقات المحيطة بالإبداع، فقد خلفت الثورة حالة فنية مجتمعية جديدة يلعب الفنان دوره فيها كفاعل في الخطاب العام.

في الدولة القديمة حددت المؤسسات الرسمية دور الفنان على مقاس خطاب تعبوي يلتزم بأيديولوجيا عقائدية، تتوسل الخطاب الديني والهداية

في الدولة القديمة حددت المؤسسات الرسمية دور الفنان على مقاس خطاب تعبوي يلتزم بأيديولوجيا عقائدية، تتوسل الخطاب الديني والهداية، فاختُزل الفن كميكانيزم في خدمة الأخلاق والنظام العام، وأختل تمامًا عن قدرته الإبداعية، كان ذلك عائقًا كبيرًا أمام الخيال العام للنضوج والتقدم وملء الساحة الفنية، ومن ثم اكتشاف مساحات فنية جديدة.

اقرأ/ي أيضًا: السودانيون وعبء الحرية الثقيل

إذ في الجوهر يوجد نزاع بين ما يتطلبه الفن وما تتطلبه الأخلاق، فالأخلاق تصر على الارتباط بالخبرات والتجربة النافعة، يصر الفن على الاستقلال الذاتي لكل تجربة وعدم النفعية.

استقلالية الفن

في مجتمعنا التقليدي، هذا الذي لا نعرف فيه استقلال العناصر عن بعضها البعض، تسيطر قيم معينة على نسق المجتمع، كالدين والأخلاق التي تروج لها الأساطير الاجتماعية، لذلك تبدو القيم الجمالية مجرد تابع لما تروج له هذه القيم المسيطرة، حتى أن الفنان يستمد قوته منها، إذ لا تعد تجربة فنية ما. ناجحة ما لم تروج للأخلاق العامة.

اليوم وبعد مساحات الحرية التي وجدت أمامنا، وتلك التي من السهل اقتلاعها، لم يعد الفن مسقوفًا بحدود قيمية كما أراد له النظام العام

اليوم وبعد مساحات الحرية التي وجدت أمامنا، وتلك التي من السهل اقتلاعها، لم يعد الفن مسقوفًا بحدود قيمية كما أراد له النظام العام، كما أن العلاقة الجديدة بين الفنان والمجتمع التي فرضتها الأسئلة المصيرية للواقع، التي تطرح من الفنان والشارع معًا، والتي نشأت خلال فترة المخاض الثوري-ولا نقول عمر الثورة، فهي الآن فقط قد بلغت أشدها- فعٌلت النزعة الفردية للفنان واستفزتها. هذه النزعة هي أساس كل ابداع. مما حقق معالجة اشكاليات اجتماعية ثقافية سياسية ودينية وفق رؤية فنية مستقله داخل إطار العمل الثوري، هذا الدور التفاعلي للفنانين كان مركزيًا في إنتاج منظومة أخلاقية جديدة، تكونت وتلاءمت مع الأعمال الفنية بما تطلبته تلك اللحظة السياسية.

اقرأ/ي أيضًا: عن وجوه السودان الأخرى

من الصعب طبعًا اعتبار لحظة تحرر الفن داخل آتون الثورة، هي الشرارة التي ستقود إلى أعمال فنية خالدة تتحدى الزمن. ذلك لأن القيمة الفنية تُبنى على استقلال الابداع، بالإضافة إلى النظرة الخاصة الخارجة عن أي سياج ضوضاء أيديولوجية، لذلك فإن ضمان استمرار النضج الفني يتفتح مع (تحرك الفنان/تحريك الفن) في مجال فني متعطش للإنتاج  ومستقل بالكامل.

أخلاقية الفن

في إطار معطيات اجتماعية جديدة عنوانها البارز: "صراع الفن والأخلاق". الصراع الموازي لصراع الدين والسياسة بين القوى المحافظة والأخرى الحداثية، يفترض طرح تساؤل هام عن: ما إذا كانت استقلالية الفن تعني أن ينهض بالأخلاق العامة؟. أن يكون الفن كما في السابق تابعًا لخطاب مؤسسات عقائدية فإنه يتحول كأداة للهداية والإصلاح الأخلاقي فقط، ويقف عائقًا أمام حرية الخيال الفني، في الوقت ذاته أن يصارع الفن والقيم العامة دون حساسية تجاه الحدود المشتركة بين الأفراد، فإنه يصبح أداة لهتك الأخلاق بعيدًا عن أي جانب إبداعي.

للفن نسق جمالي قائم بذاته بعيدًا عن القوانين الاجتماعية، يتسم بالكلية والرمزية التي بموجبها تصبح استقلاليته، أداة للتفاعل مع باقي منظومة القيم الأخرى بما فيها الأخلاقية. العمل الفني يمثل تجربة رمزية تندرج في عالم المتخيل الذي يمنحنا قدرة على إنتاج وقائع وصور وأحداث قد تكون صادمة وغير مقبولة في واقع الحياة العادية الجارية، فللفن تعالي أخلاقي يعيد صياغة الواقع بحيث يجعلنا قادرين على قراءته بشكل خلاق.

انطلاقًا من هنا لا يمكن الحكم على أخلاقية العمل الفني اعتمادًا على تلائمه مع النسق القيمي الأخلاقي، بل على الانطباع الذي يثيره فينا والإحساس من مجمل العمل الفني.

اقرأ/ي أيضًا: قوى الحرية والتغيير.. أداء مخيب للآمال

العمل الفني الإبداعي وإن بدى ظاهريًا غير أخلاقي، فإنه في العمق أخلاقيًا، لأن بغيته تحريك الوعي وحثه على التغيير من خلال سلطة المتخيل، لا من خلال مصارعة الوعي الأخلاقي للمجتمع. والأعمال الفنية التي تسعى لهتك الأخلاق لمجرد الهتك، تصل بالفنان إلى هدم سلطة الخيال، وتحويل العمل الفني إلى أداة تسوق لخطاب ردئ، هذا الهتك بلا مبرر فني لا يثير أي إحساس جمالي. بل الإحساس بالرفض للعمل الفني ويعوق تلقيه.

حرية الإبداع

على الفن تجاوز الخطوط الحمراء داخل الخيال، الخطوط الحمراء في الواقع تضع الفرد في مواجهة مع السلطة، أما في الفن فإنها تضع المجتمع في مواجهة مع نفسه، حيث أن حرية الإبداع أوسع من حرية التعبير. حرية الإبداع بقدر ما هي واسعة فإنها لاعتبارات سياسية ودينية وقيمية حساسة أيضًا، قد يقع الفنان في فخ خطاب الكراهية أو تهمة الإساءة للأخلاق العامة، أو المعاداة والعنصرية، لذلك يجد نفسه مجبرًا على احترام الحد الأدنى من القيم الاجتماعية المتواضع حولها، والفن لأنه نظرة ذاتية للوجود، على الفنان أن يترجم رؤيته وحساسيته الذاتية ضمن إطار رقابة ذاتية، في البدء تمنعه من إتباع الذوق العام وترديده بصورة مجانية، تمنعه من أن يكون إنتاج أخلاقي.

 

اقرأ/ي أيضًا

السلام الشامل.. بوابة الخروج من الدائرة الجهنمية

شاشة طفولتي.. الصوم لدخول جنّة السينما!