وأنا أشاهد الهجمة الصهيونية الغربية على الإخوة الفلسطينيين، دائمًا ما أحاول تحجيم ما يبدو لي في الوهلة الأولى كنظرية مؤامرة لربط ما يحدث في بلادي السودان من دمار واقتتال وما يحدث في البلد الشقيق المحتل فلسطين من إبادة بالمعنى الممتلئ للكلمة. ولربما لم يكن ما يتسلل إلى ذهني نظرية مؤامرة إن كان الربط جوهريًا بين الحربين؛ ففي السودان كان للكيان ووكلائه من المتصهينين العرب دورًا محوريًا في الأزمات التي صاحبت الفترة الانتقالية وأطاحت بها، فظهرت في شباط/فبراير من العام 2020 أزمة تطبيع السودان بلقاء رئيس مجلس السيادة برئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو في عنتيبي الأوغندية بتسهيل من عميلة الموساد في دهاليز القصر الجمهوري نجوى قدح الدم، والتي في عمالتها دلالة على مدى توغل هذا الجهاز في مفاصل الدولة السودانية التي تتهاوى الآن تحت مدافع أبنائها وذخائر ومعدات العدو. وبعد "ملاواة ومقالعة" رسمية وشعبية، انتهى الأمر بتوقيع وزير العدل نصرالدين عبدالباري على الاتفاقية الإبراهيمية، حيث اعتذرت الحكومة الانتقالية لشعبها -الرافض بطبيعة الحال لمثل هذا الخيانة- بمسألة رفع اسم السودان من قائمة الإرهاب الأمريكية، رغم إصرار الانتقالية قبل ذلك على عدم ارتباط المسألتين.
السودان والمقاومة
واهتم الاحتلال في علاقته السرية العلنية مع السودان بالجانب العسكري فقط، حيث كانت زيارات "ماعوز" ومرافقيه بمعية صبية الانتقالية الآملين في علاقة يتوسلون بها البقاء في مقاعد السلطة التي وصلوها في غفلة من الزمان - كانت زياراتهم لمؤسسات التصنيع الحربي في السودان، وهي المؤسسات التي قصفتها إسرائيل في السابق لما لها من دور في المقاومة العربية والإسلامية ضد الإمبريالية الغربية وطفلتها المدللة في المنطقة؛ دولة الاحتلال. ويذكر أنه عقب قصف مصنع اليرموك للتصنيع الحربي في الخرطوم في تشرين الأول/أكتوبر 2012، قال المسؤول حينها بوزارة دفاع الاحتلال عاموس جلعاد، إن السودان "دولة إرهابية خطيرة"، دون أن يؤكد تورط دولته بالحادثة. مشيرًا إلى أن الأراضي السودانية تستخدم كنقطة عبور لنقل أسلحة إلى "الإرهابيين في حماس والجهاد الإسلامي" عن طريق الأراضي المصرية.
على الرغم من الدعاوى الكاذبة عن واحة الديمقراطية في صحراء العرب، دعم الاحتلال الانقلاب العسكري في العام 2021 على الحكومة الانتقالية المتهافتة عليه لكن المضغوطة من قبل الجماهير ضد التطبيع
وعلى الرغم من الدعاوى الكاذبة عن واحة الديمقراطية في صحراء العرب، دعم الاحتلال الانقلاب العسكري في العام 2021 على الحكومة الانتقالية المتهافتة عليه لكن المضغوطة من قبل الجماهير ضد التطبيع، حيث كشفت صحف عبرية عن زيارة وفد إسرائيلي يتضمن مسؤولين بالموساد للخرطوم عقب أسبوع واحد فقط من الانقلاب، والتقى الوفد بقادة الانقلاب المتقاتلين على السلطة اليوم. هذه الزيارة والصمت الإسرائيلي على الانقلاب الذي أطاح بالحكومة التي وقعت معهم على وثائق التطبيع بأيدٍ مرتجفة، فُهمت حينها على أنها دليل على رضا الكيان عليه، كيف لا وقادة الانقلاب هم قادة التطبيع بلا وجل. ويؤكد ما ذهبت إليه هنا، دعوة الولايات المتحدة الأمريكية -شخصيًا- من "إسرائيل" وبشكل علني، عقب الانقلاب مباشرة، وعلى مرتين، التدخل لإعادة المسار الديمقراطي في السودان!
إن دور الجيش السوداني والسودان في المقاومة الفلسطينية لا يقتصر في كونه معبرًا لسلاح المقاومة فقط، بل هو موطنٌ لها، ويمكن الاسترسال في ذلك بالعديد من الدلائل والبراهين الغنية عن الذكر، ولكن بما أن الحديث هنا بمناسبة عملية "طوفان الأقصى" الظافرة، فإنه يجدر الإشارة إلى أن صاحب المسيرات التي دخلت التاريخ من أوسع أبوابه الأيام الماضية، المهندس التونسي محمد الزواري، كان قد عاش في البلاد لستة أعوام وعمل بالتصنيع الحربي السوداني لفترة من الزمان بحسب الدبلوماسي السوداني المتقاعد السفير عبدالله الأزرق في حديث سابق لـ"الترا سودان"، وتقول مصادر إنه حاصل على الجنسية السودانية، وهو بذلك فخر للسودان وتونس معًا.
النضال السوداني والحرب على الشعب
عقب ثورة ديسمبر المجيدة التي مهرها الشعب السوداني بالدم والدموع، تسابق جنرالات الحرب والمتصهينون من المدنيين على خطب ود الكيان لتثبيت أقدام أي منهم في السلطة. لم تكن دموع السفير علي الصادق كافية لترق له القلوب القاسية في تل أبيب، فقد كان كل الهم هناك هو السيطرة على السودان بالكامل، أو على الأقل تحييده في حربها ضد تطلعات الجماهير في المنطقة، والتي تتعارض بالضرورة مع مشاريع الاحتلال الإمبريالية التي تستهدف مقدرات هذه الشعوب. ولكن "إسرائيل" وجدت في كيان الدعم السريع ذو الطبيعة الميليشياوية الارتزاقية ضالتها، وبالتأكيد تم ذلك بترتيب من دولة الإمارات العربية المتحدة قائدة قطار التطبيع في المنطقة، وهي الحليف الصريح لهذه القوة شبه النظامية التي تطمح في ابتلاع الدولة السودانية حتى ولو كان ذلك عبر القوة العسكرية البحتة.
هذا الطموح للدعم السريع في السلطة لم يكن يخفى على الشباب السوداني الثائر، والذي لم ينس لقوات الدعم السريع مذابحها في دارفور وجرائمها في "هبة سبتمبر" 2013، وذلك على الرغم من محاولاتها لغسيل جرائمها بدماء الثورة عبر إعلانها الانحياز للمحتجين المعتصمين أمام القيادة العامة للقوات المسلحة في نيسان/أبريل 2019. إصرار الشباب على الحكم المدني والديمقراطية التي تقود "العسكر للثكنات والجنجويد ينحل" هو ما أفشل هذه المحاولات، ففضت هذه القوى الاعتصام التاريخي في مجزرة فادحة خيمت على مستقبل البلاد ومهدت للحرب.
الدعم السريع الأداة المثالية
إن لمؤسسة الدعم السريع خصائص عديدة تجعلها الأداة المثالية لمشروع الاحتلال في السودان، فهي عبارة عن ميليشيا قبلية تدور عقيدتها في فلك رابطة الدم، وحوّلها الجنرالات الفاسدون لقوة "نظامية" لها كيان منفصل عن الدولة السودانية باقتصاد خاص جمعت عبره ثروة مهولة صنعت بها تأثيرًا سياسيًا في الداخل وكذلك علاقات عابرة للحدود والقارات. في الجانب الآخر، الجيش السوداني المترهل لم يكن ليثير اهتمام الاحتلال، كما أن أدواره السابقة في دعم المقاومة لم تكن لتثير طمأنينته. وقد يحاجج البعض بأن هيكله وعقيدته وطبيعته كجيش نظامي لا تسمح بتجييره بالكامل لصالح مثل هكذا مشاريع تتعارض مع وظيفة الجيوش الوطنية.
هذا التحالف الإسرائيلي الإماراتي مع الدعم السريع لم يكن مخفيًا عن الأعين، وتزور وفود قوات الدعم السريع تل أبيب والإمارات بشكل دوري، وفي أواخر العام 2022 نقلت وسائل إعلام محلية وعالمية عن صحيفة "هآرتس" العبرية، أن قوات الدعم السريع تلقت تقنيات إلكترونية متطورة من شركات إسرائيلية تصدر معدات تكنولوجية تستخدم في التجسس، سرًا من أوروبا إلى أفريقيا.
وفي الحرب الحالية تقدم الإمارات -والتي صارت ذراع إسرائيل في المنطقة- وبشكل مستمر الأسلحة والذخائر والمعدات لقوات الدعم السريع، وحتى العلاج لمصابيها في الاشتباكات. وقالت "وول ستريت جورنال" إن دولة الإمارات العربية المتحدة ترسل الأسلحة للسودان بدلًا عن المساعدات الإنسانية، كاشفة عن تورط هذه الدولة الخليجية في الصراع الدائر بالبلاد. ورصدت الصحيفة طائرات شحن إماراتية حطت في مطار عنتيبي الأوغندية تشير السجلات الرسمية لها إلى أن الإمارات أرسلتها وهي تحمل مساعدات للاجئين الذين فروا من الصراع في السودان، ولكن بدلًا من المساعدات الإنسانية، قال مسؤولون أوغنديون للصحيفة الأمريكية إنهم اكتشفوا عشرات الصناديق في طائرة إماراتية تحتوي على أسلحة متنوعة وذخائر في طريقها إلى الدعم السريع.
كما قالت صحيفة "نيويورك تايمز" الأمريكية، إن الإمارات تتحدث عن السلام في السودان لكنها في الواقع "تقدم الأسلحة والتشوين لقوات الدعم السريع عبر قاعدة طيران في تشاد المحاذية للسودان غربي البلاد". وحسب الصحيفة الأمريكية: "يقول مسؤولون إن الإمارات تقدم من قاعدة جوية نائية في تشاد الأسلحة والعلاج الطبي للمقاتلين على أحد جانبي الحرب المتصاعدة في السودان". ويقول تقرير "نيويورك تايمز" إن دولة الإمارات تدير تحت ستار إنقاذ اللاجئين، عملية سرية متقنة لدعم قوات الدعم السريع في الحرب المتصاعدة في السودان، حيث تقوم بتزويدها بأسلحة قوية وطائرات بدون طيار، وتعمل على علاج المقاتلين المصابين، ونقل الحالات الأكثر خطورة جوًا إلى أحد مستشفياتها العسكرية.
في السودان وفلسطين العدو واحد
بالتأكيد الحرب في السودان والأحداث السابقة واللاحقة لا تدور كلها حول فلك المصالح الإسرائيلية والإماراتية في هذا البلد المنكوب، ولكن الدور الإسرائيلي - الإماراتي في دعم الطرف الذي يضمن مصالحهما في الوضع السوداني ليس سرًا ولا حتى مؤامرة إذا كانت هناك أدلة جوهرية ومنطق عقلاني يدعم هذا الادعاء.
العدو في السودان وفلسطين واحد: الإمبريالية والاستعمار الجديد الذي يسعى بآلته الحربية لسرقة موارد وأراضي البلدين فوق بحر من الدم، وحقًا في عصرنا هذا الحدود تراب
إن وقوف إسرائيل وذراعها الإمارات خلف قوات الدعم السريع بهذه القوة لا يمكن فهمه إلا في إطار المحاولات الإمبريالية المستمرة للاحتلال لابتلاع الدول العربية في المنطقة وسلب مواردها وأراضيها، أو على الأقل تحجيم دورها وتركها منشغلة بأزماتها الداخلية. فالعدو في السودان وفلسطين واحد: الإمبريالية والاستعمار الجديد الذي يسعى بآلته الحربية لسرقة موارد وأراضي البلدين فوق بحر من الدم، وحقًا في عصرنا هذا الحدود تراب.