24-فبراير-2020

رقصة شعبية سودانية (يوتيوب)

الرقص هو قبل كل شيء لحظة اقتناص السعادة من الزمن. أقصى درجات تعافي الروح، لا ترقص الروح وهي حزينة. عندما نرقص لا نؤدي حركات جسدية مدروسة فقط، إنه تسام فوق عالم الجسد نفسه، الرقص فن، وهوية لها جذورها وطقوسها.

في السودان ظل الرقص الشعبي هوية منسية لثلاثين عامًا هي عمر النظام البائد، لم ينل حظه من الدراسة والبحث والعرض على الجمهور. مثل كل الفنون المنسية عمدًا تآكل في الظلام واقتصر الحديث عنه في جلسات المثقفين والباحثين بشكل عارض دون تقصٍ.

اقرأ/ي أيضًا: فضيلي جمّاع.. المشي على حبل الكتابةِ المشدود

اليوم يفتح "الترا سودان" ملف الرقص الشعبي ويتناول جوانبه الفنية وجمالياته، ويسلط الضوء على هوية منسية. التقرير التالي يبحث في طقوس الرقص كفن جمالي ويستعرض جماليات الرقصات الشعبية عند الشعوب السودانية المختلفة.

إفريقيا وشعوب السودان لم تكتب الفكر قديمًا، لذلك طورت أساليب أخرى للتعبير عن الثقافة والهوية تمثلت في النحت والرقص في الحقول والمساحات الواسعة

أصل الرقص

لا يبتعد الحديث عن الموسيقى والرقص عن فلسفة الجمال، وتتميز الموسيقى عند الشعوب الإفريقية بأنها حركية وسمعية في آنٍ واحد. وهي قضية تعود بنا للبحث في أصل الرقص الشعبي في السودان كجزء من الحضارة الإفريقية.

الرقص في الأساس مبني على مفهوم أداء الطقوس، هو ثيمة متجذرة في حياة الناس وسبل كسب العيش.

هناك فرق بين رقصات العالم الشمالي والجنوبي. تتميز القارة الأوروبية بأنها ثقافة داخل بالنسبة للرقص، بمعنى أن الرقص فيها يكون داخل القاعات الواسعة والمغلقة. وهي حضارة كاتبة أي تكتب الفكر، لذلك نجد أن علم الجمال في الفلسفة الأوروبية لم يفرد مساحةً واسعة لدراسة الرقص كفن متخصص. ومؤخرًا ظهر فن الباليه المحترف والرقص الرياضي.

أما إفريقيا والسودان فيتميزان بأنهما ثقافة خارج، حيث تؤدى الرقصات في الحقول والمساحات الواسعة. وخلافًا للتطور الأوروبي لم تكتب إفريقيا الفكر قديمًا لذلك طورت وسائل أخرى للتعبير عن الثقافة تمثلت في النحت والرقص وممارسة الموسيقى كطقس.

اقرأ/ي أيضًا: الموسيقى التقليدية.. ترويح الرعاة وإعلام للسلاطين

 

دراسة فن الرقص

يقول الباحث في التراث والرقص الشعبي الدكتور "محمد عبد الرحمن أبو سبيب" هناك قصور أكاديمي في دراسة فن الرقص، وأنه لا توجد في كلية الفنون الجميلة شعبة متخصصة لدراسة جماليات وتاريخ الفنون بما فيها الرقص المحلي. وأن كلية الفنون يجب أن تبحث كل التطور والقيم القديمة والحديثة لترفد المشهد الثقافي بكثير من الدراسات حول فن الرقص الشعبي".

اتهم أبو سبيب الموسيقيين بالقصور في الاهتمام بالرقصات الشعبية ودراستها، وعزا الأسباب لحالة الاستحواذ الاستعماري الفكري التي أعاقت البحث في جذور الهويات المنسية على الرغم من توفر أدوات بحث جاهزة.

مهددات فن الرقص الشعبي

عدد أبو سبيب لـ"الترا سودان" أسبابًا مختلفة تهدد باندثار فن الرقص الشعبي منها تطاول أمد الأزمات السودانية مثل الحروب والاقتلاع من البيئة الأصلية وما يترتب عليها من أبعاد تنعكس سلبًا على الممارسة الثقافية. وقال: "لا يوجد توثيق كاف للرقص الشعبي. بجانب عدم استيعاب المحلي للعالمي وتطويعه ليتماشى مع مستجدات العصر. الانتقال من الريف إلى المدينة، في هذه النقطة الأخيرة يرى الباحث أن الكل كانوا بالريف يشاركون في أداء الرقصات إما في المدينة فتحولوا إلى جمهور متفرجين، تميز الأداء في المدينة بالاحتراف مما أدى لتعديل الرقص الأصلي التلقائي. ويضيف أبو سبيب "الكثير من الأداء داخل المدن يفتقر للجذب الجمالي ويصبح الأداء ميكانيكي وبعيد عن الأصل، نسمي هذا الحدث بمسرحة الرقص حيث نجد مدير الفرقة والحسابات والتدخل في فعل الرقص نفسه".

ما أطلق عليه النظام البائد "أسلمة الحياة العامة" ساهم بشكل كبير خلال (30) عامًا الماضية في انحسار الرقص الشعبي، وهو الأمر الذي يؤكده أبو سبيب بالقول: "غابت المرأة من حلبات الرقص العام في الساحات العامة، وغطت شعرها بجانب عدم إظهار العنق والصدر، واللذان يعتبران مكونات رئيسية في عملية أداء الرقص. تحولت المرأة لمتفرجة إلا عند بعض القبائل التي سكنت هوامش البلاد".

باحثون: 90% من الثقافات السودانية تعتمد الإيقاعات والموسيقى والرقص لتحكي قصتها وثقافتها

الرقص كشجرة نسب

الرقص ليس مجرد حركات لا رابط بينها، هو أبعد من ذلك وأكثر امتدادًا في ضروب الهوية والنفس البشرية. الرقص هم مشترك. يرتبط بالطقس اليومي للحياة مثل سبل كسب العيش وآليات الإنتاج. في إفريقيا ارتبط قديمًا بالمعتقدات والأرواح وتجسيد الحيوان كمفهوم شعبي.

من ناحية أخرى، أشار باحثون إلى أن 90% من الثقافات السودانية هي بلا نصوص مكتوبة عبارة عن إيقاعات موسيقية. هذه علامة تشير إلى أهمية المكانة التي يحتلها الرقص الشعبي في التكوين الثقافي للشعوب السودانية.

لا يزال الرقص هوية منسية وشجرة نسب تحتاج إلى عملية إحياء وتجديد عبر بث الرقصات في القنوات الرسمية والتعريف بها. يؤكد عاملون في هيئة الإذاعة والتلفزيون وجود ما يقارب (4) آلاف ساعة في السياق الطبيعي من الرقص الشعبي، نجت هذه الساعات من مجزرة النظام القديم، مع ذلك يبقى السؤال كيف نعيد بثها وتسجيل المزيد من الهويات المنسية وحفظها من الاندثار؟

الرقص أمتن المداخل بين الشعوب للتعارف والتمازج في وقت أصيبت فيه الشعوب بالاكتئاب العام، وأرهقت من الحروب وثورات العسكر وتقلباتهم. في حلبات الرقص المفتوح تناقش قضايا اليومي المعاش والأفكار الكبرى، وتطرح فيها أسئلة الوجود العصية.

 

اقرأ/ي أيضًا: 

قيمة "الكابلي" الفنية.. حين تعود الطيور لأوطانها فلا شيء أجمل من الغناء

فتحي باردوس.. براءة "الأبيض والأسود" تلوح بالوداع