قبل أن تمد "حرب أبريل" يدها لتعبث بالبلاد؛ ظل جسد اقتصاد السودان يعاني جراء عدد من الأمراض المزمنة التي ألمت به. ولم تقتصر معاناته تلك على حقبة زمنية معينة، بل توالت عليه الخيبات منذ استقلال البلاد، ولم تفلح أي من الحكومات في إدارة موارد السودان بالشكل الفعال الذي من شأنه أن يخرجها من تصنيفها كإحدى البلدان الفقيرة، وحتى تلك الطفرات التي حظي بها الاقتصاد السوداني من حين إلى آخر والتي لم تكن تتناسب مع إمكانيات البلاد سحقتها الحرب بلا رحمة غير آبهة للمواطن السوداني والذي سيحمل لأجيال تركة هذه الحرب التي وصفها قادتها بالعبيثة.
بدأت الأزمة الاقتصادية في السودان تطفو إلى السطح في العام 2011 تزامنًا مع استقلال جنوب السودان عن شماله
وقد بدأت الأزمة الاقتصادية في السودان تطفو إلى السطح في العام 2011 تزامنًا مع استقلال جنوب السودان عن شماله، ليصبح دولة منفصلة بمواردها البترولية التي كان يعتمد عليها السودان بشكل أساسي.
انفصال الجنوب
تزامنًا مع تداعيات انفصال جنوب السودان والذي تم في العام 2011 كثر الحديث عن آبار النفط في الجنوب و التي تغذي اقتصاد السودان، ولكن الأمر لم يقتصر الأمر على النفط فقط، فقد أوضحت دراسة قدمها الدكتور أيمن عبد الغني أن انفصال الجنوب أثر على القطاعات الاقتصادية الرئيسية الثلاث والمتمثلة في القطاع الزراعي والقطاع الصناعي وقطاع الخدمات أيضًا، وإن كان تأثير الانفصال على القطاعات الأخرى طفيفًا مقارنة بالنفط.
في قطاع الزراعة تؤكد الدراسة أن بانفصال الجنوب فقدت البلاد (25)% من الأراضي الصالحة للزراعة، وبفقد هذه المساحة يجد السودان نفسه تلقائيًا فقد جزءًا من الغابات والثروة الحيوانية والمراعي والحياة البرية وجزءًا من المنتجات الاستوائية. وبلغ معدل النمو في الأراضي الزراعية قبل انفصال الجنوب (17)% فيما وصل بعد الانفصال إلى (28.24)%، وتوضح هذه المعدلات أن السودان لم يتأثر بشكل كبير نسبة لأنه لا يستغل كافة الأراضي الصالحة للزراعة، وذلك بجانب تركز المحاصيل النقدية في الشمال بما فيها السمسم والقطن والصمغ، إضافة إلى الخضروات والفواكه.
وفيما يخص الغابات يساهم القطاع بمعدل (12)% من عائد العملات الحرة في البلاد، ولم يتأثر بشكل كبير بانفصال الجنوب، ويعود ذلك لعدم اعتماد الشمال على غابات جنوب السودان، وذلك نسبة لبعد مسافتها عن ميناء التصدير. ولدولة جنوب السودان الحق في التفاوض على مياه النيل لكونها إحدى دول حوض النيل والذي من شأنه أن يؤثر على حصة السودان ومصر في مياه النيل. وذلك استنادًا على اتفاقية السودان الموحد ومصر حول مياه النيل والتي أبرمت في العام 1959.
وشهد العام 1999 تصدير أول شحنة بترول في السودان، وبحلول العام 2002 ارتفع إنتاج البترول إلى (300) ألف برميل يوميًا، وخلال هذه الفترة اعتمد الاقتصاد السوداني بشكل كبير على صادرات النفط حيث وصلت بحلول العام 2008 إلى (95.1)%، وأدى ذلك إلى تقليص العجز في ميزان المدفوعات، وتكاملت المنشآت النفطية مع إنشاء خط "بشائر" الناقل إلى موانئ التصدير. وقد وصلت نسبة البترول المستخرج من جنوب السودان إلى (70)% من مجمل البترول المستخرج من السودان الموحد والذي يمثل عائدًا يقدر من (40)% إلى (45)% من قيمة الإيرادات بالموازنة العامة للحكومة الاتحادية، وتراجع نصيب السودان من العائدات النفطية بعد أن وصل إلى (4.4) مليار دولار إلى (1.9) مليار دولار في العام.
استغلال المساحات الزراعية
يعتبر السودان من أكبر الدول التي تحتوي على مساحات زراعية مروية في قارة أفريقيا، وأكدت دراسات أن السودان لا يستغل نسبة لا تتجاوز ربع هذه المساحات فقط، وفي الخطة الوطنية للاستثمار في الزراعة في السودان والتي قدمت للفترة من العام 2016 إلى العام 2020، قدم تحليل يوضح نقاط القوة ونقاط الضعف والفرص والمهددات التي يواجهها قطاع الزراعة في السودان، وبين التحليل أن القطاع يعاني من مشاكل هيكلية، وتمثلت هذه المشاكل في تدني الإنتاجية إضافة إلى ارتفاع تكلفة العملية التسويقية، وأكدت الخطة أن هذه العوامل أدت إلى ضعف القدرة التنافسية للمنتجات الزراعية، وذلك بجانب تدني الأسعار بالنسية للمنتجين. والسبب الرئيسي وراء المشاكل الهيكلية التي يعاني منها القطاع هي عدم استقرار السياسات الكلية والقدرات المؤسسية. وشددت الخطة على ضرورة معالجة هذه القضايا حتى يتمكن القطاع الزراعي من جذب المستثمرين.
والجدير بالذكر أن التطورات السياسية في البلاد حالت دون الالتزام بخطط التنمية المقترحة من أجل تحسين القطاع، كما أن هنالك عدد من العوامل البيئية التي تشكل تحديًا كبيرًا، أهمها ارتفاع درجات الحرارة والجفاف، وكانت قد أوضحت دراسة أن مساهمة القطاع في الناتج المحلي في الفترة من العام 1990 وحتى العام 1999 كانت أفضل من العقدين الأخيرين.
حرب الخرطوم
ومع استطالة أمد الحرب الدائرة في الخرطوم من منتصف نيسان/أبريل الماضي، يدخل اقتصاد السودان جولة أخرى ربما تجهز عليه كليًا، فقد أدى الاقتتال إلى تدمير للبنى التحتية للقطاع الصناعي بشكل كبير، يأتي ذلك بجنب شلل في حركة التجارة. وكان صندوق النقد الدولي قد توقع انكماش الاقتصاد في السودان لنسبة تصل إلى (18.3)% خلال العام، وأكدت تقارير أن هذه النسبة تعتبر نسبة غير مسبوقة في تاريخه.
والجدير بالذكر أن الجنيه السوداني قد فقد أكثر من (70)% من قيمته، حيث تجاوز سعر الصرف الـ(720) جنيهًا في البنوك، ووصل إلى (1000) جنيه في السوق الموازي. وبحسب مختصين سيؤدي الانخفاض في سعر الصرف إلى فقدان رؤوس الأموال قيمتها الحقيقة مما سيتسبب في ضرر بالغ على القطاع المصرفي وعلى المستثمرين.
فيما أشارت تقارير إلى تراجع صادر الذهب السوداني من (18) طنًا في العام الماضي، إلى طنين فقط في العام الحالي. وبحسب تصريحات يعود ذلك إلى شح الوقود والنقص في مادة الزئبق التي تستخدم في استخراج الذهب، إضافة إلى غياب قنوات الاستلام الرسمية للذهب والذي تجعله أكثر عرضة لعمليات التهريب.
يصعب الحديث عن عمليات إصلاح شاملة للاقتصاد في ظل عدم الاستقرار الأمني والسياسي في البلاد
ويصعب الحديث عن عمليات إصلاح شاملة للاقتصاد في ظل عدم الاستقرار الأمني والسياسي في البلاد، فلا بد من إيقاف الحرب الدائرة في العاصمة وبعض ولايات غرب السودان حتى يتسنى للاقتصاد الدخول في رحلة استشفاء ربما تكون طويلة الأمد.