تعج ساحة المولد في السودان بأرتال من رايات الطرق الصوفية، تنبعث منها الألوان الخضراء المبهجة، والملاهي المصنوعة للأطفال، وحلقات الذِكر، بينما تغمر المكان أضواء السيرة النبوية، والتواشيح الدينية، وحالة من الوجد والحنين إلى زيارة الأماكن المُقدسة.
تعج ساحة المولد النبوي في السودان برايات الطرق الصوفية تنبعث منها الألوان الخضراء المبهجة، والملاهي المصنوعة للأطفال، وحلقات الذِكر
في جولة "ألترا صوت" داخل ساحة المولد بمدينة أم درمان، بدا المكان مزدحمًا بالناس والتفاصيل، والشوارع الجانبية اكتست بمتاجر البيع، التي تعرض الهدايا والحلويات محلية الصُنع، وبدائع الطقوس التي تميز السودانيين عن غيرهم في الاحتفال بمولد الرسول، حيث إنه مناسبة خاصة تنحر فيها الذبائح، ويقدم الطعام والملبس للفقراء، ويلتئم الشمل، بغية تدارس واستدعاء السيرة النبوية وكرامات الأولياء الصالحين.
اقرأ/ي أيضًا: المولد النبوي في الجزائر.. أعراس النار
خيمة الشيخ البرعي تعج بالمريدين من شتى أنحاء السودان، وهم يتوسلون البركة من حفيد أشهر رجال الطرق الصوفية في السودان، والذي جعل من منطقة الزريبة في غرب السودان مقامًا له؛ إنه الشيخ عبدالرحيم بن الشيخ محمد وقيع الله البرعي، الذي ينتهي نسبه إلى الصحابي الزبير بن العوام، وفقًا للمرويات المتداولة بين الأحفاد.
وكانت الخيمة في مساحة 200 متر تقريبًا، ومحاطة بالحيران والرايات الملونة، تعلوها صور الشيخ البرعي صاحب القصيدة الصوفية الشهيرة "مصر المُؤَمَّنة"، وهو رجل له مقام وتقدير لدى السوانيين، وتُستعاد سيرته على الدوام كنموذج للورع والتواضع وأعمال الخير.
أبناء الخلوات
لم تكن ساحة المولد حكرًا على طريقة واحدة، وإنما تشتعل بكل رايات الطرق الصوفية: التجانية، والقادرية، والسمانية، والبرهانية، والطريقة العزمية، وغيرها.
وتوحد بينهم أنماط من الأفكار والمعتقدات المتشابهة إلى حد سواء، ومظاهر التراحم والتكافل والتبسط، وتشييد المساجد والخلوات، التي تُخرّج آلافًا من أبناء هذه الطرق الذين لا يعتقدون غالبًا في الصراعات السياسية.
وفي المقابل فإن اعتقادهم الراسخ بأن رجال الطرق الصوفية هم الذين فتحوا للإسلام أبوابه في أفريقيا، وعليه تنتشر أعمالهم وجهودهم في جميع أرجاء البلاد.
كيف غرق الدرويش؟
الدائرة الأكبر هى التي تتسع للجميع، وتتوسط ساحة المولد، حيث يصطف عشرات الرجال بشكل دائري وهم يتمايلون على وقع ضربات الطار المصنوع من الجلد الناعم، ويرددون بين الحين والآخر "حيّ.. قيُّوم"، إلى حين صلاة الفجر. وتشتعل بينهم "نار التقابة" في رمزية للكرم وقيام الليل.
ويبدو المشهد تمامًا كما وصفه الشاعر محمد المهدي المجذوب في قصيدته الشهيرة "ليلة المولد": "وهنا حلقة شيخ يرجحن/ يضرب النوبة ضربًا فتئن.. وترن/ ثم ترقص هديرًا أو تجن/ وحواليها طبول صارخات في الغبار.. حولها الحلقة ماجت فى مدار".
بينما كان المنظر اللافت لرجل في الخمسين، رث الثياب، مرسل الشعر، تدمع عيناه بغزارة، وبعد قليل بدأ يتمرغ في التراب، كما لو أن به مسّ من صرع، فتقدم نحوه الشيخ، ورش على أنفه العطر، وعندما سألناه، قال لنا: "هذا الدرويش غرقان في الذكر". وبعدها بالفعل استفاق ولحق بالبقية.
مزار سياحي وديني
توغلنا إلى داخل الساحة، فبدت مكتظة بالحضور؛ كل أسرة تحرص على شراء الأزياء الجديدة، واصطحاب أطفالها، كما لو أنه يوم العيد. يطوفون على الصوالين المزدانة بالأنوار الملونة، ويبذلون الهدايا للشيوخ، مقابل الدعوات الصالحات، والاستماع للمدائح النبوية، والمحاضرات التي تدافع عن الاحتفال بالمولد، باعتباره "بدعة محببة" أو "سُنّة حسنة".
هذا إلى جانب المعارض التي تحتوي على كتب الأحاديث والسيرة النبوية. وكان لافتًا الاهتمام بالمولد من قبل سياح من آسيويين وأوروبيين، يلتقطون الصور في منتهى الدهشة. وتنتصب أيضًا شاشات عملاقة يتحلق حولها المارة، تعرض صور الآثار النبوية والأماكن المقدسة في أزمنة مختلفة، لتواكب بذلك مظاهر الاحتفال المتسمة كلها بنزعة حنين إلى أيام قدماء المسلمين، وبالأحرى حنين إلى جنة الفردوس.
الحكومة في منتصف الخلاف
لم يخلو هذا العام أيضًا من مشاحنات وتهاويش بين جماعة أنصار السنة المحمدية والطرق الصوفية، فمقابل كل ساحة في المدن السودانية، ضرب أنصار السنة أوتاد خيمهم، وعليها مكبرات الصوت، للتشويش على احتفالات المولد.
وترى أنصار السنة في الصوفية دعوى للشرك والبدع. كما ترى أن تواجدها حول الساحات إنما هو للقيام بواجبها الدعوي. ودائمًا ما تتفق جماعة أنصار السنة والصوفية على وجود طرف ثالث أجج العداء بينهما، في كل مرة أرادوا فيها الخروج من المشاحنة، ومع ذلك يندر ألا يحدث صدام، بسبب انتقاد أنصار السنة لرموز وشيوخ الصوفية بطريقة قاسية.
مع كل احتفال بالمولد النبوي تتجدد المشاحنات والتهاويش بين جماعة أنصار السنة المحمدية والطرق الصوفية في السودان
ووصل الخلاف خلال السنوات الماضية مرحلة العراك بالأيدي والأسلحة الخفيفة، ما استدعى تدخل السلطات، التي ظلت تتفرج على نُذر الصراع سنويًا، دون أن تضع حدًا لها. وغالبًا لأن الحكومة حريصة على علاقتها بالمملكة العربية السعودية التي ترعى أنصار السنة، وفي الوقت نفسه ترى الحكومة في جماعات الطرق الصوفية التي تشكل السواد الأعظم من السودانيين، داعمًا لها في مواسم الانتخابات، ولهذا تحرص على الجمع بين الطرفين دون أن تضع حدًا للعنف والخلاف المستعر بينهما.
اقرأ/ي أيضًا: