مخاوف كثيرة تدور في الأوساط الثقافية إزاء اندثار لغات السودان المحلية، فعلى الرغم من التنوع اللغوي الكبير الذي تشهده البلاد ظلت اللغة العربية اللغة السائدة لعقود، مما أثر على استمرار نحو (120) لغة محلية في السودان. ويعود ذلك إلى الهجرات التي شهدتها البلاد من الأطراف إلى المركز بسبب الحروب وتردي الخدمات الأساسية في الأطراف. وبحسب باحثين تعد هذه اللغات امتدادًا لتاريخ السودان وثقافاته المتنوعة.
السودان بمساحته الشاسعة وثقافاته المتعددة الناتجة عن التنوع القبلي الكبير فيه، يحتوي على عدد كبير من اللغات المحلية
ويرى خبراء أن لغياب التدخلات الإعلامية دور كبير في انحسار هذه اللغات وتدهورها، فيما أثر غياب الندوات الاجتماعية التي تخاطب أهالي المنطقة عن ضرورة التوعية بأهمية التحدث باللغات المحلية وإتقانها إلى جانب اللغة العربية. وتعد معظم اللغات السودانية المحلية مهددةً بالانقراض حسب منظمة الأمم المتحدة للتربية والعلم والثقافة (اليونيسكو) التي تشترط أن يكون للغة (100) ألف متحدث حتى تصنف خارج دائرة الخطر.
أشهر اللغات المحلية
السودان بمساحته الشاسعة وثقافاته المتعددة الناتجة عن التنوع القبلي الكبير فيه، يحتوي على عدد كبير من اللغات المحلية، وأشهر هذه اللغات هي اللغة النوبية والتي يتحدث بها إنسان أقصى شمالي السودان في مناطق حلفا ودنقلا، ولغة البرقو التي اشتهر بها الفور والزغاوة والمساليت في دارفور. والجدير بالذكر أنها تنتشر انتشارًا واسعًا في غرب السودان عمومًا، وكذلك لغة الهوسا ولغات الأنقسنا في مناطق النيل الأزرق. وتعد معظم اللغات المحلية في السودان مهددة بالانقراض.
ويقف على دراسة اللغات في السودان باحثون أجانب بعضهم يعمل في مجال التبشير، وحسبما جاء في دراسة قدمها الأمين أبو منقة وهو أستاذ بجامعة الخرطوم، والأستاذ كمال محمد جاه الله، فإن أهم ملامح الخريطة اللغوية السودانية تتمثل في توزعها بين ثلاث من أصل أربع عوائل لغوية. وتضم هذه العوائل جميع اللغات الأفريقية، وهي العائلة الآفرو آسوية والنيجر كردفانية والنيلية الصحراوية، بينما تستثنى العائلة الرابعة وهي الكويسانية.
وذكرت الدراسة أن عدد اللغات المحلية الأشهر في السودان (14) لغة محلية، من بينها العربية التي دخلت إلى السودان من خلال هجرات العرب البدو في الفترة من القرن السابع إلى القرن السادس عشر عبر بلاد البجة والنوبة، مما أدى في نهاية المطاف إلى قيام الممالك الإسلامية التي ساهمت في توطين اللغة العربية في المنطقة واستخدامها لغة ثانية. والجدير بالذكر أن العربية اتصلت باللغات المحلية لتكون عددًا من اللهجات.
سياسات السودان اللغوية
جاء في الدراسة أن سياسات السودان اللغوية تبلورت في ثلاث مراحل رئيسة، المرحلة الأولى كانت في فترة الاستعمار التي حددت من فترة الحكم الثنائي وحتى انتهاء الحرب العالمية الثانية، وانتهجت فيها سياسات خاصة باللغات في السودان، واختيرت الإنجليزية لغةً رسمية في شمال البلاد وجنوبه على حد سواء. بينما جاءت المرحلة الثانية في العام 1945 أي بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية وحتى اتفاقية أديس أبابا من العام 1972، وسمحت بدخول العربية إلى جنوب السودان من خلال التعليم بعد سياسات حجبها عن الجنوب في المرحلة الأولى إلا أن الحرب الأهلية التي كانت دائرة هناك أعاقت من انتشارها انتشارًا واسعًا.
أما المرحلة الثالثة فقد كانت في الفترة من اتفاقية أديس أبابا وامتدت حتى انقلاب الإنقاذ في العام 1989، واتسمت هذه المرحلة باتخاذ الإنجليزية لغةً رسمية في جنوب السودان، بينما كانت اللغة العربية هي السائدة في بقية أجزاء البلاد. والجدير بالذكر أن الاتفاقية أعطت مجلس الشعب الإقليمي صلاحيات إنشاء المدارس وإدارتها وتطوير اللغات والثقافات المحلية، لكن حالت الحروب الأهلية التي نشبت آنذاك دون تنفيذ هذه السياسات.
وأشارت الدراسة إلى بعض السياسات اللغوية التي انتهجت في عصر الإنقاذ، وأولها في مؤتمر الحوار الوطني لقضايا السلام الذي عقد في أكتوبر من العام 1989 وأوصى بالاهتمام باللغتين العربية والإنجليزية في العملية التربوية، بالإضافة إلى ضرورة إدخال اللغات المحلية في العملية التربوية في المدارس المحلية، إلا أن الوضع الاقتصادي والسياسي في البلاد حال دون تنفيذ هذه البنود.
قربان للوحدة الوطنية
يقول المحاضر بقسم علم الاجتماع والأنثروبولوجيا الاجتماعي بجامعة الخرطوم الدكتور تامر محمد أحمد في حديث إلى "الترا سودان" إنه ليس هنالك اهتمام واضح من الدولة في سيبل المحافظة على اللغات المحلية من الانقراض، لافتًا إلى وجود أفكار لطمس هذه اللغات المحلية بما في ذلك إجبار الطلاب على الدراسة بالمناهج العربية فقط. ويضيف أن اللغات المحلية كانت ضحية مفهوم "الوحدة الوطنية" الذي أخذه بعض الناس بطريقة مغلوطة، مشيرًا إلى أن العربية من شأنها أن تخدم هذا الغرض بخلاف اللغات المحلية التي قال إنها قُدمت قربانًا لهذا المفهوم الخاطئ.
وأوضح الدكتور تامر أن النخب المثقفة وبعض المنظمات العالمية والمهتمين بالثقافات الأخرى هي الفئات المهتمة بمقاومة اندثار هذه اللغات. ووجدت بعض اللغات نشاطًا ملحوظًا من المجموعات المتحدثة بها، مثل لغات الفور التي كتبت، واللغات النوبية التي اشتغلت مجموعات على إحيائها وتدريسها في مركز الدراسات النوبية. وأشار إلى اهتمام جامعة الخرطوم بمجال البحوث في هذا السياق، ولكن اللغات تعتمد اعتمادًا أساسيًا في إحياءها على الفعاليات الحية، وهو ما لا وجود له في الساحة – حسب قوله.
ويقول الدكتور تامر إن عوامل الهجرة من الريف إلى الحضر منذ عشرات السنين أحد أبرز العوامل التي ساهمت في تشكيل خطر حقيقي على اللغات المحلية في السودان من الاندثار، مع أن المجموعات المهاجرة حاولت عمل محاكاة لمجتمعاتهم في مناطقهم الأصلية، إلا أن الاختلاط في الحياة عمومًا وفي الحقل التعليمي خصوصًا أثر تأثيرًا كبيرًا على احتفاظ هذه المجموعات بلغاتها المحلية – وفقًا للدكتور تامر، بالإضافة إلى عدم اهتمام التعليم بهذا الجانب وإهماله اللغات المحلية كليًا مع أنها تعد "ثروة قومية" – يضيف أستاذ علم الاجتماع والأنثروبولوجيا.
وأكد الدكتور تامر في حديثه إلى "الترا سودان" أن هذه اللغات ليست وسيلة للتخاطب فقط، وإنما تحمل أيضًا "البعد الحضاري الخاص بأبناء السودان"، كما تحمل هذه اللغات المحلية "المخزون المعرفي والرؤية القومية والفلسفة الثقافية للجماعات المعنية بها". ولفت الدكتور إلى أن الإنسان لا ينظر إلى نفسه نظرة صحية عندما لا يتكلم بلغته الأصلية، مما يخلق بداخله هشاشة شخصية وهو ما كان يرمي إليه الاستعمار – بزعمه.
والسودان من أكثر الدول التي عانت من آثار الاستعمار الباقية حتى الآن، إذ أصبحت لغات محلية عديدة في السودان مهدد بالانقراض، وهو أحد أبرز هذه الآثار التي يجب أن ينتبه إليها المختصون ويعملوا على معالجتها عاجلًا.