بجوار المدرسة الصناعية في شرق القاش بمدينة كسلا، منظر غير مألوف بالنسبة للأحياء التي كانت في السابق تخلو من الحركة في هذه الأوقات من الظهيرة. ولكن الآن، تجد العديد من الأسر موزعة في الشوارع تحت الأشجار في حي الترعة ومنطقة أب خمسة وحتى قسم الشرطة. وعلى الرغم من الهزال البادي على ملامح هؤلاء الناس، إلا أنهم لا يولون المارة أي اهتمام، كأنهم قد تعودوا على الوضع الجديد الذي وجدوا أنفسهم فيه.
عندما وصل النازحون من سنار كانت مراكز الإيواء ممتلئة مسبقًا في كسلا التي استقبلت مئات الآلاف منذ اندلاع الحرب
هذه الأسر بعض سكان مدن سنار والمناطق المتاخمة الذين فروا إلى ولايات شرق السودان عقب أن وسعت قوات الدعم السريع نطاق الحرب إلى شوارع مدنهم الآمنة. إنهم الآن ضمن إحصائيات النازحين الذين تجاوزت أعدادهم عشرة ملايين في السودان، معهم أطفالهم وكبار السن وأصحاب الأمراض المزمنة، في أوضاع لم تكن لتكون معقولة لولا أنها تحققت، فمن كان سيصدق الحاصل في السودان لولا أنه حدث بالفعل؟
النزوح إلى كسلا
في أواخر حزيران/يونيو الماضي، وصلت جحافل قوات الدعم السريع ومنسوبيها من المليشيات و"الشفشافة" إلى تخوم مدينة سنجة. مع أصوات الاشتباكات والانفجارات، قامت في المدينة حركة نزوح كبرى فرارًا من هجمات الدعم السريع. نزح أكثر من (200) ألف مواطن من سنار في أيام قليلة، بعضهم مات في الطرقات بالجوع والعطش والمرض والألغام، فضلًا عن الدعم السريع. استقر بمن نجا المقام في ولاية القضارف التي تحد سنار من الشرق، وواصل آخرون طريقهم إلى ولاية كسلا، حيث كان في استقبالهم هناك متطوعو غرف الطوارئ وشباب اللجان والجمعيات النسوية الذين سارعوا لتقديم المساعدة.
عندما وصل النازحون من سنار، كانت مراكز الإيواء ممتلئة مسبقًا في كسلا التي استقبلت مئات الآلاف منذ اندلاع الحرب، ولكن نصب المتطوعون الخيام في مدرسة كسلا الصناعية وشرعوا في إعداد الطعام للنازحين من الجهود الذاتية وتبرعات الخيرين.
النزوح إلى كسلا من سنار لم يكن أول نزوح إلى المدينة الصغيرة، فقد نزح من قبل سكان الخرطوم الذين بدأوا التدفق شرقًا وفي كل الاتجاهات منذ اندلاع الحرب في نيسان/أبريل 2023، وبعدهم أهل الجزيرة الذين احتلت قوات الدعم السريع قراهم الزراعية ومدنهم الكبرى في كانون الأول/ديسمبر 2023.
قبل أن تصل الموجات الأخيرة من النازحين إلى كسلا، كانت سلطات الولاية قد شرعت في إفراغ المدارس، التي تحولت إلى مراكز إيواء، بغرض استئناف الدراسة، ودقت الجرس الأول منذ عام الحرب قبل أسابيع قليلة من أحداث سنار، ولكن عطلتها حركة النزوح، كما عطلتها الكوارث البيئية اللاحقة.
كوارث بيئية وأزمات صحية
الكادر الصحي تيسير صالح تقول لـ"الترا سودان" إن فصل الخريف في كسلا هذا العام كان فوق العادة؛ فقد انهمرت أمطار غزيرة في المدينة المزدحمة، و"كسر" القاش في عدة مواقع بالولاية جراء معدلات المياه الكبيرة التي هطلت في الهضاب الإريترية التي يتدفق منها هذا النهر الموسمي ليشق مدينة كسلا إلى نصفين شرقًا وغربًا. في ظل الازدحام الكبير بالمدينة، التي لم تكن مرافقها تكفي السكان القدامى ناهيك عن الضيوف الذين وصلوا مع ظروف الحرب التي تثقل الميزانية المتعبة للدولة السودانية، فإن الكوارث البيئية تناسلت عنها أزمات صحية.
تشهد تيسير، التي تعمل في المجال الصحي، على امتلاء المستشفى التعليمي بالمرضى على موجات، حيث يستقر معظم هؤلاء المرضى على الأرصفة والبلاط البارد ليتلقوا العلاج على عجالة قبل الفرار من المناظر المرعبة في المستشفى الممتلئ بالأمراض الوبائية.
كان الخريف الجحيمي في كسلا هو السبب في تناثر النازحين من المدرسة الصناعية للطرقات وتحت الأشجار في حي الترعة وأب خمسة بعد أن غمرت المياه الغزيرة فسحات المدرسة والخيم التي نصبها المتطوعون في الصناعية.
إن مدينة كسلا ضمن أكثر المدن تأثرًا بوباء الكوليرا الذي انتشر في تسع ولايات سودانية
إن مدينة كسلا ضمن أكثر المدن تأثرًا بوباء الكوليرا الذي انتشر في تسع ولايات سودانية، وأعلنت عنه السلطات بعد تلكؤ منتصف الشهر الماضي. آخر تقرير لغرفة الطوارئ الصحية قال إن عدد حالات الإصابة بالكوليرا في السودان بلغ (11,079) حالة، وذلك بعد أن سجلت (399) إصابة جديدة؛ (204) إصابات منها في ولاية كسلا.
وأطلقت وزارة الصحة الأسبوع الماضي حملة ثانية للتطعيم ضد الكوليرا تستهدف أكثر من (400) ألف مواطن في محليتي كسلا وود الحليو. اختتمت الوزارة برنامج التحصين الموسع اليوم السبت بنسبة تغطية تجاوزت (90%) من المستهدفين.
شاهد| حملة لمحاربة الكوليرا في #السودان 🇸🇩 pic.twitter.com/plCSfiH2ZQ
— Ultra Sudan | ألترا سودان (@UltraSudan) September 19, 2024
لم تكن الكوليرا الوباء الوحيد الذي انتشر مع الخريف، فقد انتشرت حالات حمى الضنك التي ما تزال ترصدها الفرق المتخصصة والجهات الإحصائية لوزارة الصحة، التي تحذر من حالات متزايدة بالمرض في خمس ولايات، ثلاث منها في شرق السودان، وعلى رأسها ولاية كسلا التي تنتشر فيها أنواع البعوض الناقل جراء أزمة الإمداد المائي التي تجبر الناس على الاحتفاظ بالمياه في أوعية وخزانات تسمح بتوالد أنواع الزاعجة المصرية التي تنقل هذه الحميات النزفية.
أزمة مياه
كسلا تعودت على أزمة المياه منذ ما قبل توافد النازحين. في المدينة العديد من الأحياء السكنية التي لم تذق طعم الماء من الحنفية منذ عقود، وتعتمد على التانكرات وعربات الكارو التي تزود المنازل بالمياه مقابل مبلغ مالي يثقل كاهل المواطن المغلوب على أمره.
في هذا الصدد، يقول الناشط في المجال الطوعي عبدالله لـ"الترا سودان" إن أزمة المياه مفتعلة للتكسب من بيعها، حيث تعمل شريحة كبيرة من المستفيدين في نقل المياه إلى المنازل مقابل مبالغ تصل إلى (60) ألف جنيه على الأقل شهريًا. احتفظ عبدالله باسم عائلته خوفًا من ملاحقة الاستخبارات التي تنشط في اعتقال وتعذيب شباب اللجان في كسلا، وكانت قد أودت بحياة شاب تعذيبًا في مكاتبها الشهر الماضي بعد أن اتهمته بالتعاون مع الدعم السريع، الأمر الذي كاد أن يفجر أزمة احتجاجات كبرى في المدينة التي لم تكن لتحتمل أي انفلات في الأمن بأزماتها المتشعبة.
طرقات قديمة
لعل الملاحظة الأكبر في كسلا هي ازدحام طرقاتها بالسيارات، حيث يقول الشاب محمد الطيب لـ"الترا سودان" إنه يترك سيارته في المنزل أغلب الأحيان بسبب الازدحام غير المسبوق في طرقات المدينة المتهالكة. يتفادى هذا الشاب الطرقات التي تمر بالسوق والجسر القديم الذي يربط شرق المدينة بغربها نسبة للاختناقات المرورية التي صارت ظاهرة يومية في مدينة كانت تخلو طرقاتها من المركبات إلا في ساعات الذروة في سنوات سابقة. أما الآن، فقد امتلأت بسيارات الوافدين من الخرطوم والجزيرة وسنار وغيرها من المناطق التي وصلتها الحرب.
مواطن: الخريف خرب مئات الكيلومترات من الأسفلت الذي لم تصنه السلطات منذ تاريخ إنشائه
يقول الطيب إن الخريف خرب مئات الكيلومترات من الأسفلت الذي لم تصنه السلطات منذ تاريخ إنشائه. ثمة طرق كانت معبدة صارت تتفاداها السيارات لكثرة الحفر فيها، ما يجعلها غير صالحة لمرور المركبات. "عندما أذهب إلى السوق أوقف سيارتي في الأحياء المجاورة لأن مواقف السيارات أصبحت حلمًا بعيد المنال في المناطق المركزية في كسلا"، يضيف.
جبال توتيل ونهر القاش
لعل الحرب والنزوح ألقوا أعباءً ضخمة على مدينة كسلا الصغيرة، ولكن في آخر الأمر يبدو أن لهذه الأزمة جانبًا مشرقًا أيضًا، ففي كسلا مناطق سياحية تشهد ازدحامًا بعد أن جفاها سكان المدينة الذين تعودوا عليها. تمتلئ ضفاف القاش بالزوار الذين يحلو لهم تناول القهوة بعد الظهيرة وهم يتأملون المناظر الطبيعية للنهر الموسمي التي تكللها أشجار المانجو والبرتقال في بساتين كسلا الشهيرة التي تغنى بها الشعراء.
جبال توتيل كذلك صارت مزارًا للوافدين المنبهرين بالطبيعة الخلابة لسلسلة جبال التاكا المهيبة بنبعها الشهير في منطقة الختمية القديمة. يظهر الكسلاويون في مواقع التواصل اعتزازهم بالإطراءات التي يسبغها ضيوفهم على المدينة التي كانت تتآكل بصمت في السنوات السابقة، ويهجرها أبناؤها بشكل مطرد للاغتراب في الخرطوم أو خارج السودان بحثًا عن الرزق.