كشفت جولة المباحثات الأخيرة بين شركاء اتفاقية السلام المُنشطة، التي اختتمت الأسبوع المنصرم في العاصمة جوبا، برعاية السيد ديفيد مابوزا نائب رئيس دولة جنوب أفريقيا، عن استفحال خلافات الطرفين بشأن القضايا الخلافية المتمثلة في عدد الولايات وحدودها الإدارية، وبنود الترتيبات الأمنية، وإشكالية التمويل. وهي القضايا الرئيسية التي تُعرقل تشكيل الحكومة الانتقالية قبيل انتهاء مهلة الـ 100 يوم المحددة. ولم ينجح الطرفان ولا الوساطة نفسها في مغادرة محطة البيانات الصحفية، كما جرت العادة في القمم السابقة بين كير ومشار، والتي عادة ما تختتم بيانات دون أي تقدم يُذكر في أي من القضايا.
لم يعد في جعبة الوساطة أي حلول لتطرحها، لذا يمكن القول إن الاتفاقية المُنشطة تواجه خطر الانهيار بعد فشل أطرافها في التوافق حول تشكيل الحكومة مرتين
واقع الأمر، فشلت هذه القمة، كما فشلت غيرها من القمم السابقة بين الرجلين، ولم يعد في جعبة الوساطة أي حلول، لذا يمكن القول إن الاتفاقية المُنشطة تواجه خطر الانهيار، جراء عجز أطرافها عن التوافق مرتين حول تشكيل الحكومة الانتقالية، أولًا في أيار/مايو 2019 ثم في تشرين الثاني/نوفمبر من العام نفسه، قبل أن يتقرر إرجاء تشكيلها لنحو ثلاثة أشهر أخرى، تبقي منها أقل من شهر. المعطيات الراهنة ترجح استمرار تباعد المواقف، وتمسك كل طرفٍ بموقفه، دون أي اعتبار لمصالح المواطن المغلوب على أمره. والفرصة الراهنة هي الثالثة، وربما الأخيرة قبل عودة الأطراف للمربع الأول وهو الحرب، التي لا تعدم من ينادي بها حاليًا. وإزاء هذا الواقع تلبدت الأجواء بالغيوم، وسيطرت حالة من اللايقين على الوساطة نفسها، بالرغم من عدم اعتراف القائمين عليها بانسداد الأفق.
اقرأ/ي أيضًا: كير ومشار يتفقان على تشكيل الحكومة الانتقالية قبل نهاية مهلة الـ100 يوم
المأزق الراهن يمكن تلخيصه في كون كل قادة القوى السياسية سواء الموقعة وغير الموقعة، لا ينطلقون من إرادة حقيقية لتجاوز فشلهم في ما مضى، كما أنهم لم يتعظوا كذلك من التجارب السابقة، فخلافاتهم هي ما قاد إلى الانهيار الماثل الآن في البلاد، وهو إخفاق عسير يشابه إخفاق الوساطة نفسها في اجتراح الحلول.
فقضية الولايات -على سبيل المثال- التي هي المعضلة الأساسية الآن يمكن حلها إذا تحلى القادة بالمسؤولية الوطنية واستشعار خطر انهيار الدولة، الذي تتحمل حكومة الرئيس كير المسؤولية الكبرى عنه، لأنها تتولى زمام شؤون البلاد، فبعض قادتها يتصرفون كما كان يتصرف ملوك البوربون في فرنسا الذين حكموها استبدادًا وفسادًا حتى أطاح بهم الشعب الفرنسي بثورته وتوج نضالاته بقيام الجمهورية على أسس "الحرية - الإخاء - والمساواة" كما هو معروف.
فنهج التلكؤ الذي تنتهجه الحكومة في مواقفها وقراراتها إزاء السلام والقضايا العالقة، وتبنيها إستراتيجية إضاعة الوقت والتعنت في قضايا محسومة سلفًا وفق بنود الاتفاقية نفسها، هو أمر يهدد مسار عملية السلام برمتها، ويعيد للأذهان ما حدث بعد توقيع اتفاق السلام السابق في آب/أغسطس 2015، والذي انتهى بكارثة جي 1 ومًقتل المئات من أبناء الوطن. فما أدلى به وزير مجلس الوزراء في وقت سابق عن أنه لا حل لقضية الولايات سوى بإقامة استفتاء عام يشارك فيه كل الشعب ما هو إلا عبث بعقول الناس، وسوء فهم للموقع الذي يجلس فيه. ومن ناحية أخرى، محاولة الحكومة إخراج المظاهرات تأييدًا لمواقفها في بعض الولايات هو الآخر مأساة جديدة تضاف لمآسي الحكومة. فقرار الرئيس 36/2015 بزيادة عدد الولايات لـ 28 ثم 32 لاحقًا هو معركة من غير معترك.
الأزمة لم تعد محض صراع على السلطة، بل تهدد مكتسبات الدولة والوحدة الوطنية، ولن تخرج هذه القمم سوى ببيع الكلام
وفي حقيقة الأمر جاء قرار زيادة الولايات في سياق سعي الرئيس لضمان استمرار نفوذه في صراعه مع غريمه مشار، وسحب البساط منه. فكلا الرجلين ينطلق من الرؤية ذاتها في صراع النفوذ، بمعنى أنهما استخدما كل الآليات والوسائل للتغلب على الطرف الأخر، فقرار الرئيس جاء بعد أن دعا مشار للنظام الفدرالي القائم على نموذج الإدارة الاستعمارية البريطانية السابقة. توضح هذه الحقيقة فشل الرجلين في تقرير ما هو تكتيكي وما هو إستراتيجي لاستقرار الدولة.
فالأزمة لم تعد محض صراع على السلطة، بل صارت تهدد مكتسبات الدولة والوحدة الوطنية. ولذلك في تقديرنا، لن تخرج هذه القمم بجديد سوى بيع الكلام للناس، ومن هذا المنطلق، يجب على الوساطة اللجوء لخيارات أخرى أكثر فعالية، والتعاون مع الشركاء الدوليين. وبعبارة أخرى، على منظمة الإيقاد إيقاف منهجها القائم على عدم الشفافية وتمليك الحقائق لشعبنا.
اقرأ/ي أيضًا: أمريكا تعرض قضية جنوب السودان أمام مجلس الأمن
وقد فشلت الإيقاد في كسب ثقة الأطر نتيجة للعامل السابق ذكره، وأصبحت حكمًا أكثر من كونها وسيطًا مهمته الأساسية تقريب وجهات النظر وتقديم الاقتراحات، وصارت هي الحاكم الفعلي للبلاد، وذلك لا لقوتها، انما لضعف دولتنا ونخبنا السياسية والعسكرية.
ومن ناحية أخرى، تعاني الإيقاد من افتقارها لمنهجية واضحة لإدارة المفاوضات مقارنة بالمبادرات الرامية لحل الأزمة التي تطرح من أوساط دولية أخرى، وتقوم على إشراك التنظيمات غير الموقعة على اتفاقية السلام المُنشطة، كما في المبادرة التي انطلقت في روما أواخر كانون الثاني/يناير وبرعاية بابا الفاتيكان، حيث وقع الأطراف ما أطلق عليه إعلان المبادئ، كإطار عام لتحديد أطر مشاركة القوى، تمهيدًا لانخراطها في الحكومة الانتقالية، المزمع تشكيلها في الفترة القادمة.
بات من الصعب على الإيقاد إحداث اختراق في أي من القضايا العالقة، في الوقت الذي يتصاعد فيه شك وقلق عموم الشعب بشأن مصير اتفاقية السلام، مع استمرار تباعد المواقف بين أطرافه الموقعة، خاصة بعد إعلان الرئيس سلفاكير وحلفائه عدم الرجوع عن عدد الولايات الحالي، وتأكيدات المعارضة بقيادة مشار امتناعها عن المشاركة في أي حكومة انتقالية إن أصر الجانب الحكومي على المضي قدمًا في التمسك بموقفه المتعنت.
إذًا تكمن العلة الرئيسية في هذه االطبيعة الصفرية للصراع، وفي عدم وضوح الرؤية السياسية لهذه الأطراف حول إدارة الدولة، أو حصرهم للصراع حول تقاسم السلطة والثروة فقط، دون النظر في القضايا الملحة للمواطن العادي وتوفير الخدمات العامة الأساسية له، وبسط الأمن وإعمال القانون بالعدالة بين جميع المواطنين دونما تمييز على أساس الانتماء القبلي أوالعشائري أو المناطقي.
اقرأ أيضًا:
مشار في جوبا للمباحثات والمعارضة ترهن مشاركتها في الحكم بحل القضايا العالقة
جنوب السودان.. جدل الولايات وإشكالية نظام الحكم