تسعة وثلاثون عامًا مرت على اللحظة التاريخية الفاصلة، والتي غادر فيها العقيد جون قرنق ديمبيور الخرطوم إلى جوبا، ومن ثم إلى بور لحسم الخلاف الناشئ بين قائد الكتيبة 105 المقدم كاربينو كوانين، لتتشكل في 16 أيار/مايو 1983، الحركة الشعبية لتحرير السودان، أكبر الحركات السياسية المسلّحة التي تركت أثرًا سياسيًا وعسكريًا في السودان، وشكّلت الرؤية التي طرحتها لحل الأزمة السياسية في البلاد، منطلقًا لكثير من الحركات السياسية والعسكرية، وأثارت جدلًا واسعًا منذ ذلك الوقت، وما تزال.
كانت فكرة السودان الجديد هي المنارة العبقرية التي جذبت الكثير من الشماليين للحركة الشعبية، فقد عهِدوا منذ "أنانيا" الأولى، دعاة استقلال الجنوب، ولكن أن تأتي الدعوة لسودان موحد، ولكن جديد، من قائد جنوبي، هذه علامة لا يمكن تخطيها للمتطلعين لسودان تقدمي ديمقراطي. هكذا يصف الكاتب والمفكر السوداني الأستاذ المحبوب عبدالسلام المشروع الذي طرحته الحركة الشعبية، ويضيف المحبوب في حديث لـ"الترا سودان": "لكن دائمًا النظرية مهما اشتد بريقها تبقى نظرية، وتظل التجربة خضراء. فقد اعتمدت الحركة الشعبية في نضالها على العمل العسكرى عبر الجيش الشعبي، فكل عضو في الحركة الشعبية هو مقاتل في الجيش الشعبي، فى أعظم تجلٍ لاعتماد نظرية العنف كما فصّلها فرانز فانون؛ أنه السبيل الوحيد لمقاومة الاستعمار، لتبقى المفارقة؛ أن حركة المعارضة كأنها جيش التحرير، والحكم الوطني وكأنه الاستعمار".
كانت فكرة السودان الجديد هي المنارة العبقرية التي جذبت الكثير من الشماليين للحركة الشعبية، لكن ما هي مآلات هذا المشروع اليوم؟
وبالإضافة إلى ذلك، يرى رئيس الحركة الشعبية لتحرير السودان-شمال في مناطق سيطرة الحكومة، الدكتور محمد يوسف المصطفى، بأن الحركة حققت في (39) سنة نجاحات كثيرة وكذلك إخفاقات كثيرة، إلا أن النجاحات أكبر كما يقول المصطفى. ويستطرد في حديثه لـ"الترا سودان"، أن الدليل على ذلك، تجذر رؤية الحركة التي طرحتها في العام 1983 والتي كانت غريبة على أسماع الناس؛ فكرة أن مشاكل السودان، من تهميش وسيطرة واستبداد نخب المركز على حساب كل الأقاليم خارج الخرطوم، والتي كانت تعاني من التهميش السياسي والثقافي أو الاقتصادي، وحتى العرقي أو الإثني وكل أشكال التهميش. قالت الحركة بأن المشكلة ليست في الأقاليم، وجاء في المنفستو الذي أعلن في 16 آيار/مايو 1983، بأن المشكلة هي مشكلة السودان، لكنها تتبدى وتتمظهر في الجنوب، وليست مشكلة الجنوب. مثل مشكلة السودان الآن في الشرق، وفي دارفور أو النيل الأزرق إلى آخره.
ويرى المصطفى بأن هذا الطرح يقول بأن الحل هو إقامة "سودان جديد"، في إطاره تحل مشاكل الأقاليم كلها. وتابع: "لم يكن مستساغًا من النخب، كانوا يعتبرونه طموحًا للحركة في حكم وتغيير السودان. والحركة فعلًا تريد تغيير السودان، لأن السودان بالشكل القديم لا ينتج إلا الحروب والمشاكل، ونحن نريد توقيف الحروب، وهذا يقتضي تغيير السودان إلى السودان الجديد".
يقول المصطفى بأن السودان القديم لا بد أن يتغير ويعاد النظر في تركيبته، ويضيف: "السودان لازم يتجدد وتتغير فيه تركيبات وتكوينات هيكلية وأساسية، والرافضون لتجديد السودان لا يستطيعون أن يجهروا برفضهم، لكنهم يعرقلون عملية خلق السودان الجديد، لأنه يهدد مصالحهم. كل الشرائح المستفيدة من بنية التمايز والتمييز التي يتصف بها السودان القديم، من الطبيعي والمتوقع أن تقاوم التغيير".
لكن الكاتب والناشط السياسي الإسلامي هشام عثمان الشواني، يختلف مع المصطفى، ويقول بأن مشروع الحركة الشعبية؛ السودان الجديد، هو مشروع يقوم على تصور خاطئ للمشكلة السودانية. ويضيف الشواني في حديث لـ"الترا سودان"، بأن مشروع السودان الجديد يفسر الصراع في السودان تفسيرًا عرقيًا عنصريًا، ويعزله عن تركة المستعمر وسياسات المناطق المقفولة، ويتابع: "هذا التصور الخاطئ ليس مجرد خطأ فكري، بل هو تحالف مع رؤية قديمة غربية حول السودان، تسعى لعزل السودان عن المحيط العربي الإسلامي، وبالتالي خلق مشروع السودان الجديد تصورًا لهوامش مصنوعة عرقيًا وسماها بالاسم بشكل عنصري، وبالتالي نحن أمام مشروع تطهيري عنصري مكتمل الأركان".
يتهم الشواني رؤية الحركة الشعبية بأنها وافقت مصالح صهيونية وغربية دعمت كل مشاريع حصار السودان وتفكيكه، ويرى بأن لحظة 16 آيار/مايو 1983 كان مخطط لها جيدًا لبداية هذا المشروع، وكذلك شهدت تلك الفترة تحالفًا بين قرنق ومنغستو الإثيوبي المعادي لنظام الحكم السوداني، ويضيف: "هذه الظروف الجيوسياسية منحت قرنق دعمًا كبيرًا، ماليًا ولوجستيًا، وتعاطفًا غربيًا، لأن مشروعه يوافق مخططات غربية".
لكن محمد يوسف المصطفى يقول بأن كروت الرافضين لمشروع السودان الجديد تحترق واحدة تلو الأخرى، وأن مصيرهم الانهزام، وأن مصير البلاد الوصول لسودان جديد، به ترتيبات جديدة، تنتفي فيه نهائيًا كل منابع التمييز بين مواطنيه، ويتولى مواطنوه بصورة حقيقة أمورهم بأنفسهم، وأن لا يكون هناك وصاية من أي جهة تحت أي مبرر، تحدد لهم الصحيح من الخطأ. ويضيف: "كل إقليم يمسك أمره ويعالج مشاكله، ويكون له كامل السلطات الدستورية ويسيطر على موارده وثرواته ويوظفها لحل مشاكله، ونغادر محطة الأقاليم التي تطالب الخرطوم بحل مشاكلها، والتجربة أثبتت أن هذا طريق فاشل ومعطوب، والطريق الذي نتبناه هو "ما حكّ جلدُك مثلَ ظُفرك"، أن يعطوا الناس كلهم؛ في كردفان ودارفور والنيل الأزرق والشرق والشمال، يعطوهم السلطة "يعملوا الحاجة العايزنها هم"، لا يطالبون، يقررون وينفذون، يعملون الشوارع والمستشفيات والمصانع. هذا هو الطريق الوحيد لحل الأزمة في السودان"، بحسب تعبير المصطفى، معتبرًا بأن القبول بهذه الرؤية واسع، وبهذه المعايير استطاعت الحركة الشعبية أن تتقدم في الساحة السياسية والفكرية.
هشام الشواني: المشروع ارتكب جرائم عديدة في الحرب في جنوب السودان وجبال النوبة والشرق خصوصًا جنوب طوكر
ويحكُم الناشط السياسي الشاب هشام الشواني على مشروع الحركة بـ"الفشل الحتمي"، ويقول بأن هذا ما تحكي عنه تجربة دولة جنوب السودان، فالدولة التي صنعها مشروع السودان الجديد، لم تعرف التنمية ولا الديمقراطية، بل شهدت صراعات عنيفة ذات طابع قبلي، ويتابع: "المشروع ارتكب جرائم عديدة في الحرب في بجنوب السودان وجبال النوبة والشرق خصوصًا جنوب طوكر. مشروع السودان الجديد يرفع شعار العلمانية بطريقة متطرفة، الغرض منها صناعة قضية دائمة للحرب والحصار، وفضائح الحركة الشعبية في دعمها من الغرب والمنظمات الكنسية موثقة، وجميعنا يتذكر تقرير صحيفة "Irish Times" حول التعاون الوثيق مع البارونة كوكس ومنظمتها، وتقارير الرق الذي كان يمارسه بعض قادة الحركة الشعبية من أجل الأموال".
ويستدل المصطفى على صحة مشروع الحركة بأن هناك قناعة واسعة بضرورة مراجعة علاقة الدين بالدولة، وكذلك قبولًا واسعًا لمنع السماح للاعتبارات الدينية بالتدخل في السياسة، معتبرًا أن ذلك سيوقف النزاعات ويجفف الكثير من منابع المشاكل ويوقف الحروب. ويؤكد المصطفى "أن الذين يؤيدون الدولة الدينية موقفهم تراجع في مقابل دعوة الحركة لتأسيس سودان جديد بلا تمييز، وأن الطريق أصبح ممهدًا حتى ينصرف الناس للقضايا الحقيقية، بدلًا عن تبديد الجهود بالصراعات حول الدين. ويرى المصطفى بأن الدين عندما ينحصر في المجتمع يستمر الحوار بين الناس، ويضرب مثلًا بأنه في جبال النوبة، هناك منزل به مسيحي وآخر مسلم، يتناقشون ويتحاورون في أمور دينهم بطريقة سلمية، دون أن يقتل أحدهم الآخر أو يكفره".
وحول المستقبل، يؤكد هشام الشواني بأن مشروع الحركة الشعبية لا مستقبل له إلا على أنقاض الدولة السودانية، وأن كل اتجاه قومي وطني هو في عداء مطلق مع هذا المشروع، ويتابع: "نحن أمام مشروع غريب منبت حتى عن أفريقيا التي يتحدث عنها، وهو ظاهرة مغايرة تمامًا عن حركات التحرر الأفريقي التي قاومت المستعمر، لأن الحركة الشعبية هي أساسًا بنت المشروع الغربي الصهيوني".
أخفقت الحركة الشعبية في بناء جسم متماسك ليمضي برؤيتها، ويرجع المصطفى ذلك إلى أنها سمحت في وقت الصراع بدخول مجموعات لا تؤمن بمشروع السودان الجديد، ووصلت لمواقع قيادية، وترتب على ذلك انفصال جنوب السودان. ويضيف المصطفى: "عدم مواجهة هذا الأمر جعل الحركة تقفز على المخاطر التي ترتبت على دخول هذه العناصر، وهددت المشروع، هؤلاء استغلوا غياب الدكتور قرنق ومضوا نحو مشروعهم، إذ يرون أن حل مشكلة الجنوب في قيام دولة منفصلة ومستقلة، وهذا لن يحل مشكلة الفقر ولا التمييز ولا الاضطهاد، والتجربة أثبتت ذلك، فالصراعات الإثنية والتخلف والجهل والأمراض والتمييز القبلي والعرقي، كله موجود في الجنوب، وهذا لا علاقة له برؤية الحركة. الآن نحن منتبهون لهذه السلبيات، وليس في نيتنا أن نعيد هذه الأخطاء في شمال السودان".
ويؤكد المصطفى بأن الحركة الشعبية مصرة على أن تقنع الناس بالحوار والتفاوض والمنطق، ليتجدد السودان، و"إلا استمرت الحروب وتفكك السودان"، ويضيف: "نحن لم نطرح قضية أي إقليم، ولا نريد أي أموال، ولا نريد للطلاب أن يدرسوا مجانًا، القضية كيف نعمل وطنًا يسعنا جميعًا نتفق عليه عبر التفاوض بطريقة منطقية وليس بالغلبة والإكراه. أنا على قناعة بأن المستقبل باهر أمام الحركة لأن السودان القديم مستحيل أن يستمر، والناس سيختارون تجديد السودان".
انضم إلى الحركة الشعبية كثير من نخب الشمال، الدكتور منصور خالد والدكتور الواثق كمير والأستاذ ياسر سعيد عرمان، وغيرهم
انضم إلى الحركة الشعبية كثير من نخب الشمال، الدكتور منصور خالد والدكتور الواثق كمير والأستاذ ياسر سعيد عرمان، وغيرهم، ويرى المحبوب عبدالسلام بأن شخصية الدكتور جون قرنق توفرت على كاريزما عالية استرعت انتباه وإعجاب كثير من السودانيين، وتابع المحبوب: "في تاريخ السودان يظل الدكتور جون قرنق معلمًا شق طريقًا جديدًا مختلفًا عما طرحته السياسة التقليدية فى الشمال وفي الجنوب، ولكنه طريق وعر طويل يمتد من نمولي إلى حلفا، يصحب النيل ويحمل في جوفه إرثه التاريخي المهول، وتناقضاته المذهلة، في عمل ومغامرة لا يقدم عليها إلا أولو العزم الفريد من السياسيين والمناضلين"، على حد قوله.
ويختم المحبوب حديثه لـ"الترا سودان" بتساؤلات مهمة، إذ يقول: "بين الحرب والسلام وبين المعارك والمفاوضات تبلورت قصة مهمة كان ختامها اتفاقية السلام الشامل ثم الاستفتاء ثم الاستقلال، وبين الميلاد والاستقلال كانت الحركة والجيش والشمال والجنوب والشرق والغرب، وتبقت قصص وعبر عظيمة، أهمهما في تقديري، لماذا نقض الذين وقعوا اتفاقية السلام غزلها؟ وخاصة مسألة جعل الوحدة جاذبة، والتسوية السياسية الشاملة، ثم الدرس الثاني الأهم؛ لماذا لم يفضِ الانفصال السلمى إلى دولتين قابلتين للحياة؟".