تمر على سماوات ذكرى السودانيين (19) سنة على رحيل السيد علي محمد الخليفة الأمين، المشهور بين الناس بإسم سيد خليفة. أحد الذين قدموا السودان في مجال الأغنية السودانية. وهيأوا لها أمكنة عديدةً للانتشار، وآذانًا متنوعةً للسمع، ومواطئ مختلفة للهبوط والتحليق. ولم يلتقِ السودانيين ويجمعوا قدر إجماعهم على سيد خليفة. وهو من صنف القليليين الذين تكاثر عليهم القبول.
لم يفرط سيد خليفة، في طريقٍ يوصله إلى الغناء. وكان حريصًا على ذلك. ولاقى في طريق الغناء صنوفًا وأفانين من العنتِ والمشقة
حياة سيد خليفة، الذي رحل عن دنيانا في الثالث من تموز/يوليو 2001م، فصولٌ ممتدةٌ من الرغبة في الوصول إلى الهدف، الذي كان سيد خليفة في تمام الحرص عليه، منذ انطلاق أولى نغمات مزماره القصبي، وهو بين المزارع، لينتقي منها قصبةً، يحولها إلى مزمارٍ، يوقع عليه ألحان أناشيد مدرسته بالعيلفون. وانتقل معه هذا الحرص حتى وهو يتنقل في وظائف متفرقةِ بين: صبي خياط، صبي ميكانيكي، صبي جرسون، وحتى جامع أعقاب سجائر "سبارس". ظل سيد خليفة طوال هذه المراحل المختلفة المتقلبة، يبحث عن نفاج يوصله إلى موهبة الغناء، التي قرر أنه له، وهي له.
لم يفرط سيد خليفة، في طريقٍ يوصله إلى الغناء. وكان حريصًا على ذلك. ولاقى في طريق الغناء صنوفًا وأفانين من العنتِ والمشقة. حتى لعلع صوته للناس فيما بعد، بأولى الأغنيات: يا بانة/ متى مزاري/ونظرة يا السمحة أم عجن.
ليس من باب المجانية في الإطراء، أنْ نشير إلى أن لسيد خليفة نصيبٌ متوفرٌ في نقل الأغنية السودانية إلى دول الجوار العربي، في حالة مصر. وكذا الإفريقي في حالة الصومال، إثيوبيا، إرتريا وتشاد. يشاركه هذا النصيب المتوفر في نقل الأغنية السودانية عديدون أتوا بعده، مثل: محمد وردي، عثمان حسين، عبد القادر سالم، وعبد الكريم الكابلي، وأخيرًا: خوجلي عثمان ونادر خضر.
ومن المعتاد أنْ تقع على أذنيك، وأنت تطوف في أزقة ونوادي أديس أبابا الليلة؛ صوتًا بلكنةٍ إثيوبيةٍ مميزةٍ، وهو يردد: إزيكم، كيفنكم، أنا لي زمان ما شفتكم. أو المامبو السوداني، أو غيرها من أغنيات سيد خليفة الخفيفة الراقصة. يؤدي الأحباش هذه الأغاني بذات لحونها العذبة، وأدائيتها المحمومة، حتى يتدفق ذات العرق على أجسادهم، كما كان يتدفق على سيد خليفة، وهو في حفلاته الجماهيرية.
اقرأ/ي أيضًا: فوز الكاتبة الجنوب-سودانية ستيلا غايتانو بجائزة مؤسسة "قلم" الإنجليزية
أكثر ما يميز تجربة خليفة، الأداء المسرحي والحركي وهو يؤدي أغنياته. أو امتلاء وجهه بتعابير أغنياته، التي في غالبها تغرق في الشجن، والفقد، والفراق. وبرأي سيد خليفة نفسه، فإن الأداء الحركي له، وهو يؤدي أغنياته، واحدة من مفاتيح علاقته مع جمهوره، ومحبته له. وعاديًا أنْ ترى الحفل الغنائي الذي يؤدي فيه سيد خليفة أغنياته ضاجًا بالحركة والانفعال مع الجمهور.
انتقى سيد خليفة من عيون الشعر الفصيح السوداني والعربي؛ قصائدًا غاية في النصاعة
ينتمي سيد خليفة، إلى جيل المغنيين والملحنيين، والذين اتجهوا إلى تقديم عيون الشعر العربي الفصيح منذ باكر تجربته، فانتقى من عيون الشعر الفصيح السوداني والعربي؛ قصائدًا غاية في النصاعة. فأدى قصائد لشعراء عديدين، أبرزهم: إدريس جماع غيرة، حسن أبو العلا ولى المساء، وأسراب الحسان، والمصريان أحمد رامي خاصمتني وصلاح عبد الصبور مقرن النيلين، وحسين عثمان منصور ليلٌ وخمر وشفاه.
تنوعت تجربة سيد خليفة، وأنتج خلال تجربته التي امتدتْ لخمسة عقود، أكثر من مئة وخمسين أغنية، تعاون فيها مع ما يزيد عن خمسين شاعرًا، أبرزهم: عبد المنعم عبد الحي، الذي بدأتْ معه تجربته بالمامبو السوداني الشهيرة. وكذلك: علي شبيكة، إدريس جماع، التجاني يوسف بشير، صاوي عبد الكافي، إسماعيل حسن، حسين عثمان منصور، وغيرهم.
وبالذكر للشاعر والصحفي حسين عثمان منصور، الذي تغنى له الفنان سيد خليفة بأغنية "ليل وخمر وشفاه"، يجدر الإشارة إلى معاناة سيد خليفة، كغيره من المغنيين السودانيين، مع فترة حكم الإسلاميين السودانيين، بعد انقلاب الإنقاذ في حزيرن/يونيو 1989. حيث شهدتْ تلك الفترة تضييقًا ومحاربةً للغناء، الذي صنفوه ضمن الخمريات. وبالتالي صدرتْ قوانين متعسفة في منع بثه عبر الإذاعة والتلفزيون.
وحتى التجربة الوحيدة في إعادة تسجيل هذه الأغنية، كانت عبر قناة أم درمان، لصاحبها حسين خوجلي. حيث تم تشويه هذه الأغنية، وذلك عبر التغيير في كلماتها، حيث تم تبديل عنوان الأغنية إلى "ليل وفجر وضياء"، بدلًا عن: "ليل وخمر وشفاه". ولم يقف عند هذا الحد، بل غير أيضًا المقطع "يا سقاة الكأس من عهد الرشيد"، إلى "يا رواة الشعر من عهد الرشيد".
اقرأ/ي أيضًا: الأمين علي مدني.. الشاعر الحر ونصير تعليم المرأة
ويروي سيد خليفة، أحد قيادات الإسلاميين الذي زاره يومًا، مقدمًا له النصح بالتوقف عن الغناء، والاتجاه إلى المديح، مبررًا ذلك بأنه تقدم في العمر.
من أغاني الراحل الخالدة: "ولى المساء، ربيع الحب، وطني، إزيكم، يا بانة، صوت السماء، مقرن النيلين، خاصمتني"
صحيح أن "المامبو السوداني"، واحدة من أبرز أغنيات سيد خليفة، وبها صار يعرف في العديد من الدول العربية والإفريقية المجاور، لكنه أنتج العديد من الأغنيات التي ما تزال تتردد بذات طزاجتها الأولى، وكأنها أنتجتْ الآن. أبرز هذه الأغنيات: "ولى المساء، ربيع الحب، وطني، إزيكم، يا بانة، صوت السماء، مقرن النيلين، خاصمتني"، وغيرها من الأغاني التي خلدها التاريخ في مكتبة الأغنية السودانية.
اقرأ/ي أيضًا