22-أكتوبر-2023
امرأة بالتوب السوداني - آثار دنقلا العجوز

(Getty)

لم تشهد مدينة دنقلا العجوز الواقعة في شمال السودان حضارة واحدة فقط، إنما تعاقبت عليها الحضارات باختلافها، فجاءت الحضارة النوبية أولًا وتلتها المسيحية ومن ثم الإسلام، لتصبح المدينة أحد أهم مكونات التراث القومي في السودان في الوقت الراهن لما تحتويه من آثار ومعمار. أما في القرون الوسطى فقد كانت المدينة لها أهمية دينية وسياسية خاصة لما لعبته من دور كبير في النقلة الحضارية التي شهدتها المنطقة في تلك الفترة، وذلك لكونها حلقة الوصل بين مدن بلاد النوبة المختلفة، فقد كانت المدينة عاصمة للمملكة المتحدة آنذاك، ونتجت هذه المملكة عن اتحاد مملكتي نوباتيا والمقرة و أخذت أيضًا اسم مملكة دنقلا. 

تبعد دنقلا العجوز نحو (360) كيلومترًا عن العاصمة الخرطوم، وتقع على ضفاف النيل الشرقية، وتحتوي على أقدم مسجد في السودان

تبعد دنقلا العجوز نحو (360) كيلومترًا عن العاصمة الخرطوم، وتقع على ضفاف النيل الشرقية، وتحتوي على أقدم مسجد في السودان والذي بناه عبدالله بن أبي السرح وسمي باسمه، وبها أيضًا عدد من الكنائس والجداريات القديمة والآثار.

وفي أعقاب مملكة مروي بدأت البعثات المسيحية تتدفق إلى الممالك النوبية عبر مصر لتصبح الديانة المسيحية هي الديانة الرسمية في بلاد النوبة وقتها، وخلفت هذه الفترة مجموعة من الكنوز الأثرية القيمة التي اكتشفتها بعثة هولندية جاءت إلى السودان للتنقيب عن الآثار. 

كنوز تحت الرمال

للبعثات الهولندية تاريخ كبير في التنقيب عن الآثار في السودان، وتعود بداياتها إلى العام 1964 من قبل المركز البولندي لآثار البحر المتوسط التابع لجامعة وارسو، وكانت قد عثرت البعثة في دنقلا العجوز في وقت سابق على عدد من اللوحات التي رسمت للسيد المسيح عليه السلام والسيدة مريم البتول وكبير الملائكة "ميخائيل"، وهي الآثار التي وجدتها البعثة مدفونة تحت الرمال داخل جزء من كنيسة أو قبو. وأشارت الأبحاث الأولية إلى أن الرسومات تعود إلى أحد الملوك الذي يدعى ديفيد، وتظهره وهو يستمع إلى نداء سماوي لحفظ وحماية المدينة، وبحسب تقارير من المرجح أن يكون الملك المشار إليه في الرسومات هو الملك داؤود آخر ملوك المدينة، ونتيجة لذلك فالمدينة التي صورتها النقوش هي مدينة دنقلا العجوز نفسها.

دنقلا العجوز من أغنى مناطق السودان بالآثار التي تعود إلى فترات عديدة من تاريخ السودان (Getty)
تحتوي دنقلا العجوز على عدد من الكنائس والجداريات القديمة والآثار

وأشارت التقارير إلى أن الجداريات رسمت على يد فنان سوداني نوبي بألوان طبيعية، وصورت الجداريات مشاهد تمثيلية للمسيح عليه السلام وهي تحمله السيدة مريم البتول بينما يحميهما كبير الملائكة ميخائيل، وكتب على اللوحة نصوص بالإغريقية نسبت إلى الملك داؤود يتوسل فيها الحماية السماوية لمدينة دنقلا العجوز، مما يقود إلى استنتاج وجود خطر ما أو حصار فرض على المدينة وقتها. والجدير بالذكر أن هذه الاكتشافات ما زالت تحتاج إلى المزيد من الدراسة والتفسير.

وفي تصريح للمركز البولندي لآثار البحر الأبيض المتوسط، أكد أنه تم العثور على مجمع غامض من الغرف الذي استخدم في بنائه الطوب الأخضر، في دنقلا العجوز على يد العالمين لورنزو دي ليليس وماسيج ويوجو. واحتوت هذه الغرف على مشاهد تصويرية فريدة من نوعها للفن المسيحي، ويعود تاريخها إلى مملكة الفونج تحديدًا في الفترة ما بين القرنين السادس عشر والتاسع عشر، واحتوت هذه اللوحات على مشاهد غريبة ليس لها شبيه في الرسومات النوبية التي رصدت من قبل.

أساطير في المدينة

الكثير من الروايات المحلية التي نقلتها دراسة بعنوان دنقلا العجوز قدمها المركز البولندي لآثار البحر الأبيض المتوسط، كانت من ضمنها رواية "فقير الموية" الذي يقع بجوار أطلال لمبنى قديم بالقرب من مدينة دنقلا العجوز، فكلمة فقير باللغة المحلية البحتة تعني الشيخ الذي يقصده الناس لحلحلة مشكلاتهم ويذكرونه طمعًا في أن تحل عليهم البركة، لذلك كان الأهالي يقصدون هذه الرقعة لجلب الماء من هذا النبع الذي يعتقدون أن له خصائص روحانية يمكنها أن تلعب دورًا كبيرًا في حلحلة المشكلات الصحية التي يعانون منها.

قاعة العرش في دنقلا العجوز
قاعة العرش في دنقلا العجوز

يُروى أيضًا أن هذا المكان مرتبط ارتباطًا وثيقًا بقصة سيدنا موسى، حيث تقول الروايات المحلية أن منطقة فقير الموية هي المنطقة التي وصل إليها نبي الله موسى عليه السلام بعد أن شق النيل ليعبر من خلاله هربًا من فرعون، حيث وصل إلى هذه المنطقة وضرب على الصخرة التي أخرجت بدورها نبعًا من المياه. والجدير بالذكر بأن هذه الأسطورة المحلية تكاد أن تكون مطابقة لما جاء في التوراة، بينما تتحدث قصص محلية أخرى عن والدة موسى عليه السلام والتي كانت من بلاد النوبة.

تعتبر دنقلا العجوز مدينة ذات إرث ثقافي وإنساني كبير صنعه إنسان السودان القديم بإبداعه اللامتناهي

وتعتبر دنقلا العجوز مدينة ذات إرث ثقافي وإنساني كبير صنعه إنسان السودان القديم بإبداعه اللامتناهي، إضافة إلى القدسية التي تتمتع بها المدينة لما حملته بداخلها من أديان سماوية ودور عبادة على مر العصور، خاصة مسجد عبدالله بن أبي السرح بمنطقة ناوا شمال، والذي يعود بناؤه للعام 28 هجرية، كأول مسجد في السودان.

بانر الترا سودان