"لم أُعلن مُعتقدي على أوساط مفتوحة، لكنني لا أتخوف مطلقًا من الخوض في النقاشات الدينية، عبرت عن رأيي في النقاشات التي دارت وسط زملاء العمل، بعدها بدأ بعض الزملاء بالتحرش بي، فَفي اعتبارهم أن معتقداتي تُحتم أن أكون مُتاحة جنسيًا لهم". هكذا تبدأ رونق (اسم مُستعار) الحديث حول ما يواجهها به المجتمع على خلفية أفكارها وقناعتها. وتتابع رونق: "المؤسسة التي أعمل بها لا تمتلك سياسة واضحة تجاه التحرش، لذا اضطررت للتعامل مع الأمر وحدي".
ظل السودان لعقودٍ طويلة، دولة لا تتيح أو تضمن حرية التدين واختيار المعتقد
وظل السودان لعقودٍ طويلة، دولة لا تتيح أو تضمن حرية التدين واختيار المعتقد، ولا تكفل حقوق الأفراد الذين يشرعون في تغيير دياناتهم أو معتقداتهم رغم ورود ذلك في دساتيرها المُصادقة على العهدين الدوليين لحقوق الإنسان، حيث نص العهد الدولي الخاص بالحقوق السياسية والمدنية في المادة (18) على "حرية الفكر والوجدان والدين".
خالد (اسم مستعار) لشاب سوداني يقيم حاليًا خارج البلاد، يحكي تجربته بعد تحوله إلى الإلحاد:"أعلنت إلحادي بشكل عام قبل حوالي سبعة أشهر، ما زالت أسرتي لا تعلم بصورة قاطعة، لكننا خضنا نقاشات دينية مستمرة لسنوات، طرحت خلالها عدد من التساؤلات العصية مثل مسألة الرق وحقوق المرأة وغيرها".
ويشير خالد إلى المحيط الأوسع خارج نطاق الأسرة، إذ "عندما كنت طالبًا في الجامعة وقبل أن أُصرح بمعتقدي فقدت عددًا كبيرًا من الأصدقاء المقربين عندما اكتشفوا إلحادي عبر النقاشات التي كنت أخوضها". ويضيف: "معاناتي مع هذا الأمر قادتني للتصوف اضطرارًا حتى لا أفقد أعزاء لي، ولكنني وبعد فترة لم أستطع الإكمال. توجهي للتصوف عقّد الأمر أكثر، وعلى الصعيد النفسي تحطمت ووصلت للنهاية. الربكة التي أحدثها التصوف بداخلي، لا زلت أعاني من آثارها حتى الآن". ويرى الشاب العشريني أن شكل النقاش كان مؤثرًا كذلك، وأنه عندما يثار نقاش ويشرع أحدهم في سؤاله أو طلب وجهة نظره يقول البقية: "ده مُلحد ساي خلوهو".
وسط آمن
توضّح رونق أنها أعلنت إلحادها في محيط ضيق وآمن، وتشرح أنه من حسن حظها أن أسرتها "غير متشددة"، وتردف "أشقائي بالتحديد لا يمانعون تصرفاتي وأفكاري، عانيت قليلًا مع والدتي، حيث أضطر للتمثيل عليها في أداء الفروض والتكاليف الدينية، وبالتحديد في شهر رمضان حيث تكون "الحساسية" بيننا عالية جدًا".
وتلفت الشابة السودانية إلى أن وضعها يبقى أفضل حالًا من وضع صديقتها لمياء (اسم مستعار)، والأخيرة ترى أن ما تعيشه رونق يعتبر "امتيازًا"، مقارنة بما تعيشه هي، لأن أسرتها متشددة للغاية، وهي على عكس صديقتها تضطر لتزييف كل شيء خوفًا منهم.
تستذكر رونق أنها ولمياء بدأتا بالتساؤل حول حقيقة الدين والتفكير خارج المسموح به في العشرين من عمرهن، لكن لمياء لم تمتلك الجرأة للحديث عن أفكارها مع الآخرين.
ويلفت رئيس الجمعية الوطنية للحريات الدينية محمد الدسوقي أن الملحدين يظلون مختبئين في دوائر ضيقة وآمنة صنعوها بأنفسهم في المجتمع، وأنه متى ما تم التعرف عليهم من قبل ذويهم قد يتعرضون للضرب والسحل واقتيادهم للشيوخ والمصحات النفسية وغيرها، مضيفًا أن أغلب الذين أعلنوا إلحادهم قاموا بإعلانه خارج السودان "لكن ما تزال الإساءات عبر مواقع التواصل الاجتماعي تلاحقهم".
أسبوع على ذمة التعذيب
خالد الذي كان يعمل مؤذنًا في مسجد لفترة تقارب ثلاث سنوات على خلفية تنشئته الدينية، يسرد تعامل السلطات الرسمية معه: "بعد تغيير مُعتقدي تعرضت لعدد من المضايقات، أولها عدم تمكني من استخراج هوية وطنية لرفضي إدراج ديانتي واسم القبيلة فيها، وعندما أشاروا إلى أن المرجعية هي شهادة الميلاد أوضحت لهم بأن هذه الشهادة استخرجها أبي أو أمي، وهما لا يحددان هويتي أو ديني، وأن هنالك خانات مفترض أن تُترك شاغرة حتى يكبر الطفل ليختارها ويملأها وفق إرادته الحرة".
ويضيف خالد أن النقاش الذي جرى بينه وبين العاملين في سجل المواليد، تسبب في وصفه بـ"المجنون"، وفُتحت على إثره عدة بلاغات في مواجهته، منها بلاغ شغب، بقي بسببه في السجن لمدة أسبوع، ويتابع: "تعرضت خلال الأسبوع لوابل من التعذيب والإهانة، وعندما خرجت من القسم أبلغتهم أنني سأفتح بلاغات في مواجهتهم وكان ردهم كالتالي: "ماذا ستقول؟ رفض عاملو سجل المواليد تغيير ديانتي؟ أو رفضوا تغيير تفاصيل الأحوال الشخصية الخاصة بي؟ عندما تتم مساءلتنا سوف ننفي ذلك، وسيتم تصديقنا".
ويشير خالد إلى أن نشاطه السياسي السابق، زاد من تعقيدات الأمر. "فهو معروف في السجلات على خلفية اعتقاله وبقائه في مباني جهاز الأمن والمخابرات مُسبقًا".
ويؤكد الخبير القانوني والمحامي مُشعل الزين أن التضييق الذي يتعرض له الأفراد المُلحدون بكل أطيافهم هو "انتهاك للخصوصية بغض النظر عن الجهة التي تمارسه سواء أفراد أم سُلطات".
ويضيف الزين أن "السودان دولة متعددة الأديان، وأي تحقير أو انتقاص يتعرض له الأفراد على خلفية معتقداتهم ودياناتهم هو انتهاك للخصوصية، ولابد أن يخضع مُمارسه للمساءلة القانونية".
وفي العام 2020 وعقب سقوط نظام الإنقاذ الإسلامي، صدر قرار بإلغاء حد الردة من القانون الجنائي، ونصت الوثيقة الدستورية على منح كل مواطن الحرية في الاعتقاد والدين وتم تبديل القانون المتعلق بالردة عن الدين الإسلامي بآخر يمنع تكفير المواطنين.
قانون يجرم التضييق
يوضح خالد أنه بعد التعقيدات التي سببتها له الشرطة، تم تحويله إلى المخابرات، ليقرر بعدها مغادرة البلاد. يقول مستذكرًا تسلسل الأحداث: "فور خروجي من هذه المعمعة جهزت أوراقي وسافرت إلى القاهرة، أقطن هنا منذ حوالي ستة أشهر، ولا تنتابني أي رغبة في العودة للسودان، بسبب الإساءات التي تعرضت لها وما واجهني بسبب التكفير، والذي حدث في أحد أركان النقاش بالجامعة".
ويزيد خالد: "عانيت من ضغوط من بعض أفراد أسرتي التي لم أُصرح لها فعلًا بتوجهي، ولكن النقاش بيننا غالبًا ما يكون محتدمًا ويصفونه بالكفر، فضلًا عن ما تعرضت له في مكان العمل ونظرة المجتمع، وكثيرًا ما يتشاجر معي أفراد فقط لأنني ملحد".
وزير الشؤون الدينية والأوقاف بالحكومة الانتقالية نصرالدين مفرح: في الفترة الانتقالية تم إلغاء حد الردة في المادة (126)، واستبدل بمادة تُجرم من يكفّرون الأفراد
تسببت هذه الأحداث بتدهور وضع خالد النفسي -حد قوله- فضلًا عن شعوره بالغربة تجاه نفسه وتجاه المجتمع على حد سواء، كما قادته "للتفكير الجاد في الانتحار" لولا وجود أحد أصدقائه بجانبه. وينوه إلى أن الحل لابد أن يكون قانونيًا، وأنه لا بد من سن قانون يمنع التضييق والتنمر. ولكنه يرى أن تطبيق القانون سيكون عصيًا لأن السودان يعيش حالة من "اللا دولة"، على حد وصفه، ويضيف: "لن يتحقق القانون إلا بتحقيق دولة قانون مدنية تحترم وتطبق القانون".
دراسة مصغرة
يكشف استبيان أعدته كاتبة التحقيق حول التضييق الاجتماعي الذي يتعرض له الملحدون في السودان، وتم تداوله على عينة عشوائية من (79) مُلحدًا و مُلحدة، أن (83.5)% منهم لم يعلنوا إلحادهم مقابل (16.5) % ممن أعلنوه، وأن (71.2)% منهم لم يعلنوا إلحادهم خوفًا من الأسرة والمجتمع.
وحول تعرض الملحدين للعنف، يُظهر الاستبيان أن (57% منهم كانوا قد تعرضوا لعنف لفظي، بجانب (11.4)% تعرضوا لعنف جسدي، و(29.1)% تعرضوا لأنواع أخرى من التضييق عبر مواقع التواصل والابتزاز العاطفي والمقاطعة من المُحيط وغيرها.
وبلغت نسبة المشاركين في الاستبيان الذين تم التعرض لهم في الجامعة أو مكان العمل أو الحي (60.8)%، وتعرض (54.4)% من المشاركين في الاستبيان للتضييق في خمس حالات أو أكثر، كما أفاد (80.5)% منهم أنهم قد فكروا في ترك الدراسة أو العمل أو مكان الإقامة وحتى السودان بسبب ما تعرضوا له من تضييق.
وفي مساحة أخيرة وضعت أسفل الاستبيان لسرد أي تفاصيل آخرى كان أحد الردود كالتالي: "أنا فقط سئمت الأمر، أشعر ان الكلمات غير معبّرة بشكل كافٍ، كل ما آمله فقط هو أن أتمكن العيش بنفسي الحقيقية في هذه الحياة القصيرة، كما يعيشها هؤلاء الذين يحيطون أياديهم بأعناقنا".
الأصل هو الاختيار
ويؤكد الباحث في مقارنة الأديان والناشط في الحريات الدينية نصر الدين مُفرح، أن "الأصل في الدين هو الاختيار"، مضيفًا أن تغيير الديانة له جانبان، تغيير ديانة للأفراد وتغيير ديانة للجماعات.
ويتابع في الفترة الانتقالية تم إلغاء حد الردة في المادة (126)، واستبدل بمادة تُجرم من يكفّرون الأفراد الذين غيروا ديانتهم.
ويستدل مُفرح والذي شغل منصب وزير الشؤون الدينية والأوقاف سابقًا، بآيتين من القرآن الكريم حول حرية اختيار الدين والمعتقد للأفراد، هما {لا إكراه في الدين قد تبين الرشد من الغي فمن يكفر بالطاغوت ويؤمن بالله فقد استمسك بالعروة الوثقى لا انفصام لها والله سميع عليم}- (البقرة 256)، و{فذكر إنما أنت مُذكر* لست عليهم بمسيطر} (الغاشية 21،22).
ويؤكد الخبير القانوني مشعل الزين أن عقوبة الردة عن الإسلام محل خلاف حتى بين علماء المسلمين، وأن إلغاء النص حول الردة الوارد في القانون الجنائي، جاء اتساقًا مع الوثيقة الدستورية التي تحكم السودان الآن بعد التوصل إليها بين المجلس العسكري وقوى الحرية والتغيير في العام 2020، وتمنح الوثيقة كل مواطن الحرية في الاعتقاد والتدين. لافتًا إلى أن القصد من التعديلات هو "ضمان الحريات العامة وسيادة حكم القانون وعدم التمييز بين المواطنين على أي أساس، مع هدف عدم فرض التوجهات العقائدية على الغير".
وكان القانون الجنائي بنصوصه القديمة ينص على "إعدام كل من يرتد عن الدين الإسلامي"، والذي تم إلغاؤه بموجب تشريع وتوقيع رئيس مجلس السيادة الانتقالي، عبد الفتاح البرهان.
لكنّ رئيس الجمعية الوطنية للحريات الدينية محمد الدسوقي ينوه إلى أنه وبالرغم من إلغاء المادة (126) المتعلقة بالردة بموجب " قانون التعديلات المتنوعة" للعام 2020، إلا أن السلطات ما زالت توجه هذه التهمة لكل من يثبت تغيير دينه ويخضع للمحاكمة بموجبها، وآخر قضية ظهرت في هذا الصدد هي قضية الشبان في مدينة زالنجي بوسط دارفور المتهمون بالردة عن الإسلام واعتناق المسيحية في تموز/ يوليو الماضي.
ويشير الدسوقي إلى أن هناك خطورة تكمن في أن يستند القضاة إلى نصوص شرعية دينية لا تستند إلى نص قانوني صريح، وأن المادة (125) المتعلقة ب ازدراء الأديان تتراوح عقوبتها ما بين السجن والغرامة والجلد يمكن أيضًا أن تصل لعقوبة الإعدام، وفي الشريعة الإسلامية يقتل المسيء تعزيرًا وليس حدًا وحتى وإن رجع عن أقواله، على حد تفسيره.
ويردف أن من تثبت ردته تُصادر أمواله وتتطلق زوجته ويحرم من الميراث، فضلًا عن المضايقات المجتمعية والتهجم عليه وربما قتله، كل هذا يجعل الملحدين في السودان والأشخاص الذين قد يرغبون في تغيير ديانتهم عرضة للمخاطر القانونية والمجتمعية، لذلك يفضل معظمهم عدم الإفصاح عن حقيقة معتقداتهم وآرائهم - حد قول الدسوقي.
دعا رئيس الجمعية الوطنية للحريات الدينية إلى تفعيل دور الإعلام الرسمي لمواجهة خطابات التطرف والتشدد
ويطالب الدسوقي "السلطات بالالتزام بحماية الأقليات الدينية واللادينية وتفعيل التعديلات القانونية التي تمت على المادة (126) المتعلقة بالردة"، داعيًا إلى "تفعيل دور الإعلام الرسمي لمواجهة خطابات التطرف والتشدد، وتشجيع الحوار بين الأديان والطوائف المختلفة، وعدم الانحياز الى دين معين لأن أساس المواطنة هو المساواة بين الجميع بغض النظر عن عرقهم أو لونهم أو ديانتهم".