26-مارس-2020

طلاب كلية غردون في العشرينات (أرشيف صور السودان)

حُر من كل قيدٍ، "أوجدَتْه الطبيعة في صحراء الحياة، تتقاذفه الرياح والعواصف والدهر من مسلك وعر إلى طريق محفوف بالأخطار"، هكذا - بتصرُّف - يترجم الأمين علي مدني (1900 – 1926) لنفسه في كتابه "أعراس ومآتم".

ظلت قضية المرأة سؤالًا اجتماعيًا متفجرًا في عدد من مقالات الكتاب، التي سنجد فيها إقبالًا على مقتضيات الحداثة رغم الحذر الذي يتخلل التعبير عن أفكاره

حياته القصيرة تُذكِّرنا بمن عبروا الحياة سريعًا، بعد أن ألقوا بذرتهم، مثل التيجاني يوسف بشير والهمشري وكيتس. وعبر كتابه الذي وصل إلينا تبرز شخصية ناقدة شديدة الحساسية، ولاذعة المرارة والسخرية، نحو ما هو اجتماعي أو أدبي.

اقرأ/ي أيضًا: سيرة غيرية للشاعر أبو ذر الغِفاري

وبحسب ترجمة د.فاطمة القاسم شداد للمؤلف في مقدمتها لـ"أعراس ومآتم"، فإن الأمين علي مدني وُلِدَ في أمدرمان عام 1900، وتولَّى تربيته أخوه لأمه الشيخ عبد الله عبد الماجد، والتحقَ بكلية غردون وتخرج فيها عام 1920، مُدرِّسًا في المدارس الأولية، وعمل بالتدريس لفترة. وفي العام 1926 توفي في ريعان شبابه "فقيرًا لم يملك من الأرض الواسعة شبرًا ولا من المال قرشًا وليس له في الكون زوجٌ ولا ولد".

طُبِعَ "أعراس ومآتم" مرَّة في العام 1927 بعد وفاته بعام، بحسب ما ذكر معاصره سليمان كشة؛ وجاءت طبعته الثانية في العام 1974، بعد أن أهدى الأستاذ حسن نجيلة نسخة من طبعته الأولى إلى دار الوثائق المركزية خوفًا من فقد تراث عظيم.

نهل الأمين معارفه الأدبية من التراث العربي، وتأثر بمعاصريه في مصر والشام أيَّما تأثُّر، بل كان يدعو إلى تقليد الأدب العصري – كما كان يُسمِّيه - مُستشهدًا بالعقاد وطه حسين وميخائيل نعيمة والمنفلوطي وجبران خليل جبران، بدلًا عن تقليد الأدب العربي القديم.

يتألَّف الكتاب من مجموعة من المقالات التي كُتبت في أوقات مختلفة ونُشر بعضها بجريدة الحضارة، لذا جاءت مختلفة الأغراض، فمنها ما هو أقرب إلى الخاطرة الأدبية الحرة؛ لكن تبرز في "أعراس ومآتم" قضيتان رئيستان: المرأة والشعر.

ظلت قضية المرأة سؤالًا اجتماعيًا متفجرًا في عدد من مقالات الكتاب، التي سنجد فيها إقبالًا على مقتضيات الحداثة رغم الحذر الذي يتخلل التعبير عن أفكاره. ففي مقاله حول تعليم المرأة السودانية، يدعو الأمين إلى تحطيم العادات التي تمنع تعليم المرأة، "فالوقت الذي تزول فيه العادات القديمة التي تشاهدها في الأعراس والمآتم وغيرها، هو الوقت الذي يمكن فيه تعليم المرأة السودانية، وبعد ذلك اكتب يا صديقي واطلب تعليمها تجد المرأة بطبعها تُعينك على التعليم"، ص 17، ويضيف: "أنا لا أود أن أرى المرأة سافرة أمام الدكاكين و(مراسح) التمثيل ولكن أقول دعوها دعوها.. أنا لا أقول دعوها سجينة بين جدران المنازل ومقيدة بقيود الاسترقاق من مهدها إلى لحدها، ولكن دعوها دعوها إلى الوقت الذي نحتاج فيه إلى سفور المرأة، إلى الوقت الذي لا نرى فيه غضاضة على المرأة إذا طالبت بحق" ص18.

يُبشِّر الأمين بحياة جديدة تحتاز فيها المرأة مكانها الحيوي من الفعل الاجتماعي والثقافي: "إذا استطعت أن تعلم المرأة السودانية فلا تفزع من السفور، ولا تملأ قلبك رعبًا وخوفًا منه، وإذا رأيت المرأة واقفة بجانبك كتفًا لكتف تُباحثك في آرائك فبشر بأبناء المستقبل" ص 18.

اقرأ/ي أيضًا: في مقام "حلاتْ زوزو".. لخضر بشير

 ينحو الأمين في تعريف الشعر، إلى ما ذهب إليه العقاد بأنه "صناعة توليد العواطف بواسطة الكلام". لكنه في ذات الوقت شاعر مجنون كما يصف نفسه: "فالشعر مظهر من مظاهر النفس، وأنا مجنون، فشعري مع الليل الثائر مع العواصف الهوجاء، ظالم مع البحار، قاسٍ مع الموت، أنا الشاعر المجنون". فليس الشعر وزنًا ولا قافيةً، فهو كما يقول "شاعر بلا قيد ولا شرط، لا يعرف الوزن ولا يجيد القافية" ص 14.

قدم الأمين علي مدني نقدًا لاذعًا لديوان شعراء السودان، لسعد ميخائيل

في مقاربة شائقة، بين الغناء السوداني وقصائد عمر بن أبي ربيعة والموشحات الأندلسية، في ثلاث مقالات كبيرة من الكتاب، يُدافع الأمين عن مهنة الغناء التي - كما يذكر – يصفها الناس بالابتذال وأن من يمارسونها يُطلق عليهم الصُّيَّاع؛ فيقارن بين (الغنوة) في الثقافة السودانية والشعر القديم، ويقول: "كثيرًا ما نقرأ بيتًا من الشعر القديم وآخر من غنوة سودانية يتفقان في المعنى، وقد يكون بيت الغنوة أبلغ لغة وبالعكس منه قول الشاعر"، ص45؛ ويقارن أيضًا بين مكانة الغناء في المجتمع السوداني ومكانته في التراث العربي قائلًا: "وقد كان الغناء فنا محترمًا عند القدماء منهم آباؤنا العرب رحمهم الله، وكلنا يعرف ما كان لمعبد من المكانة السامية عند أمراء السلف"، ص51.

أُلحق بطبعة 1976 مُساجلات بين الأمين مدني وعبد الرحمن علي طه، انتقد فيها الأخير منهج الأمين في نقده لديوان عبد الله محمد عمر البنا. وبأسلوب ساخر يرد الأمين على مقالات طه، ومن قبل قدم نقدًا لاذعًا لديوان شعراء السودان، لسعد ميخائيل.



اقرأ/ي/أيضَا:

محمد جمال الدين.. رجّ المقدّس في غناء الحقيبة

بعد 40 عامًا على رحيل "منى الخير".. "عيون المها" ما تزال تغازل وجدان الناس