10-مارس-2020

بورتريه الشاعر أبوذر الغفاري (الفنان عثمان عبيد)

في كتابٍ صغير الحجم، ذي صفحاتٍ تقلُّ عن المئة؛ سجّل الكاتب محمّد خير عبد الله، سيرةً غيريّة عن صديقه المقرّب الشاعر أبوذر الغفاري، صاحب "في عيونك" التي تغنى بها المطرب الراحل مصطفى سيد أحمد. وهو ذاته الشاعر المختفي في ظروفٍ غامضةٍ، لم تُفَك بعد، أسرارها كليةً، في تشرين/أكتوبر 1989 بعد ثلاثة أشهر من انقلاب الجبهة الإسلامية، بقيادة المخلوع عمر البشير.

في الكتاب إظهارٌ لقصصٍ كثيفة المعاني الإنسانية، ورسمٌ بقلم الرصاص  لصفاته الشخصية، ومزاجه الرائق، وعلاقته شديدة القُربِ والمَحَنّة بأمه حاجة سكينة، ورفقته مع الشعر

وهو الاختفاء الأشهر من بين اختفاءات عديدةٍ، في فترة حكم الإنقاذ، كان المتهم الأبرز فيها: جهاز الأمن، في معتقلاتهِ سيئة السُمعة "بيوت الأشباح". من تلك الاختفاءاتْ، اختفاء الطالب أحمد ضو البيت 2004، والشاب محمّد الخاتم، نجل الكاتب الإسلامي موسى يعقوب 2005م. وأستاذ علم النفس بجامعة الخرطوم، البروفسور عمر هارون 2012 وهي اختفاءاتٌ لم تُكتبْ الإجابة على أسئلتها المتناسلة الضاجّة؛ إلى الآن.

اقرأ/ي أيضًا: فتحي باردوس.. براءة "الأبيض والأسود" تلوح بالوداع

الاحتمالاتُ والروايات في سيرةِ اختفاء الشاعر أبو ذر الغفاري، واسمه الحقيقي: إسماعيل عبد الله الحسن ود المأذون، ما تزالُ تتراكم وتتناسل وتُروى. وإنْ اتفقتْ في جزئيةٍ واحدةٍ منها على شخص عادل، ذي البشرة الأقرب للبياض، الذي ناداهُ من منزله بالحاج يوسف، وأخذه إلى مكانٍ لم يعلمه أحدٌ إلى الآن. كما لم يعلمُ أحدٌ أو يلتقي بعادل، أستاذ اللغة الإنجليزية بمدارس الشعب ببحري، مرةً أخرى، وإلى الآن. هكذا ببساطة: "فصّانِ من ملح، وذابا". أبو ذر الغفاري وعادل، وتركا الأسئلة واقفة.

الكتاب الذي نشره محمد خير، وصدر عن دار نشر جامعة الخرطوم، واختار له عنوان: (أيامٌ مع أبي ذر)، هو سيرةٌ غيريةٌ بالأساس، يُحاول عبرها ليست الإجابة على السؤال العصي: اختفاء الشاعر أبو ذر الغفاري -الذي يصفه محمد خير، بأنه -أصدقُ النّاس طُرًّا - وإنما انطلق إلى عموم علاقته به. الأمكنة التي كانا يرتادانها. الأشخاص الذين جمعتهما الحياةُ بهم. تجارب القراءة والكتابة. ندوات الخرطوم في حقبة الثمانينيات. مناكفات الأصدقاء. العلاقات العاطفية الشقيّة، والإنسانية البهيّة. باختصار كان الكتاب مُلاحقًا  لسيرةِ الأغيارِ في حياة الشاعر المختفي: أبو ذر الغفاري.

يؤكدُ ذلك د. مصطفى الصاوي، المختص في السيرة الذاتية بالسودان، والذي كتب مقدّمة الكتاب. يقول الصاوي عن الكتاب: "تسترعي الانتباه في هذه السيرة الغيرية الأمكنة، ويُقدّمها الكاتب ضاجّة بالحياة، وثمة تفاعلٍ كبيرٍ بين المكان ومَنْ يسكنه. وعلى اختلافها أظهرتْ تأثيراتها في حياة الغفاري. الأندية الثقافية، الساحات العامة، مقرّات الصحف، الحاج يوسف بجمالها وجلالها وتوادد أهلها".

وفي الكتاب إظهارٌ لقصصٍ كثيفة المعاني الإنسانية، ورسمٌ بقلم الرصاص الدقيق لصفاته الشخصية، ومزاجه الرائق، وعلاقته شديدة القُربِ والمَحَنّة بأمه حاجة سكينة، ورفقته مع الشعر. كما وضع الكاتب في نهايته؛ بعد سعيه لتقصي سر اختفائه، فرضياتٍ عديدةٍ، مع تغليب أخرى، ونفي أخرياتٍ استنادًا  على معرفةٍ لصيقةٍ، وصُحبةٍ ممتدة.

بل إنّه يتطرّقُ لرواياتٍ عديدةٍ، زعم قائلوها أنّه تعرّض لمجرمٍ -لم تُعينه بنيته الجُسمانية، وإعاقته التي لم تُشعره يومًا  بالنقص- فقتله. فيتساءلُ محمد خير: "من يجروءُ على قتل إنسانٍ رقيقٍ وطيب". أو أنّ جهاز الأمن هو من أخفاهُ وقتله. ويتسائلُ محمد خير مجددًا: "قلنا ولماذا، والجهازُ جزءٌ من حكومةٍ يُديرها من هم أقربُ آيديلوجيًا له. وغفاري لا يهُزُ كيان دولةٍ، ولا يعملُ في السر، فهو واضحٌ كقُبلةٍ مراهقةٍ".

وفي سيرة الاختفاء قبل ثلاثة أيام، يورد محمد خير طرفًا مما دار بينهما، يعتملُ غرابةً وعجب. يحكي قصته لما ودّعه بقوله: "لن نتقابل بعد اليوم"، وكان يظنه يمزح. ويُوردُ سحبه لكل ما في حسابه ببنك الوحدة فرع بحري. وإحراقه لمخطوطة ديوانه "أوراد النار"، الذي قررت دار نشر جامعة الخرطوم طباعته، بعد أنْ كتب مقدمته الشاعر الراحل تاج السر الحسن.

اقرأ/ي أيضًا: نور الهدى و"دار عزة".. ثلاثة أولاد و579 كتابًا

يستدعي الكاتب أيامه مع أبي ذر الغفاري، وما يفعلانه من غرائب: "كُنّا نُقضّي الأمسيات نتجادل ونتحاور ونتبادل الكُتب. ولنا أنا وغفاري اتفاق في موضوع الكُتب، أنْ يشتري أحدنا الكتاب؛ وينزعُ عنه إسم المؤلف وعنوان الكتاب، ونجلس يقرأ أحدنا الصفحة الأولى فينزعها ويمدها للثاني. هكذا حتى يتحوّل الكتاب لكوم أوراقٍ فنحرقها".

يُقدّم محمد خير صورة وصفية لصديقه ورفيق أبو ذر الغفاري، فيقول: " نحيف وأسمر اللون، ليس طويلًا ولا قصير. من تقشّفه وتمثله حياة ذلك الصحابي لم يتناول قط غير القهوة والفول المصري في وجباته الثلاث". وتمتليءُ كتابته عنه بالامتنان، كونه يدينُ له، بتعريفه بالجديد في الشعر، وهو الذي توقّف في قناعة أنّ الشعر انتهى بأحمد شوقي. عندما ألقى عليه، ذات نهار مطلعًا  من قصيدةٍ، لاقت شهرتها الباذخة في الثمانينات:  للشاعر مصطفى سند: لو زندها احتمل الندى/ لكسوتُ زندك ما تشاء/ ثوبًا  من العشب الطري/ وإبرتين من العبير/ وخيط ماء.

وتتصلُ الصورة الوصفية لرفيقه، فيُبيّن افتتانه ومحبته للمطرب كمال ترباس، وحرصه على متابعة حفلاته في أي مكان. بل ومحبته الاستماع لخُطب حسن الترابي، لكونه بحسب تبريره "أنا فقط أحب مخارج الحروف عند حسن عبد الله الترابي".

الكتابُ يُقدّمُ رسمًا  لسيرةٍ غيريةٍ، لشخص شغل النّاس بما كتبه، وحاول أنْ يُقدّم إجابةً على أسئلةٍ كبيرةٍ: لماذا اختفى؟

ويذكرُ صبيحة انقلاب الإنقاذ 30 يونيو 1989م، يوم أنْ جاءه غفاري "مشتعلًا  غضبًا  قائلًا : لو قام بالانقلاب نبي أنا ضده، دعك من أن يقوم به عسكري نكرة". وأول مرةٍ تغنى فيها مصطفى سيد أحمد بقصيدته، "في عيونك/ضجّة الشوق والهواجس". كان ذلك عبر حفلٍ جماهيري بقاعة الصداقة. يقول محمد خير: " قال لي أبوذر: إنّه كان حزينًا  ولم يُعجبه التغني بها. وقصّ عليّ إنّ احدى المبدعات المناضلات، في تلك الليلة سألوها عن علاقتها بشقيقها، وهو أحد قادة الانقلابات، فردت: إنّه شقيقي ولا أتنكّر له".

الكتابُ يُقدّمُ رسمًا  لسيرةٍ غيريةٍ، لشخص شغل النّاس بما كتبه، وحاول أنْ يُقدّم إجابةً على أسئلةٍ كبيرةٍ: لماذا اختفى؟

ويصفُ محمد خير، أيامه في ثمانينات الخرطوم، لما كانت في قبضتهُ هو وأصدقاءه كما يقول. خرطومٌ كانت أضيق من سعة فرحهم، التي لاتشبه خرطوم اليوم التي هجرها أصدقاءهما إلى منافي الدنيا السبعة، وأضحت بعدهم ملطخةً بالظنون. فأيّ واحدٍ من هؤلاء روايةٌ شيقة، كما يصفهم. ثمّ يبكيه بدمعٍ حارقٍ: "آه منك يا صديقي، كيف سمحت لك نفسك بالاختفاء عنا ونحن في أشد الحاجة إليك".

الكتابُ يُقدّمُ رسمًا لسيرةٍ غيريةٍ، لشخص شغل النّاس بما كتبه، وحاول أنْ يُقدّم إجابةً على أسئلةٍ كبيرةٍ: لماذا اختفى؟ وكيف؟ ومَنْ أخفاهُ، دون أنْ يُجيب عليها بشكلٍ مباشرٍ. لكنّه قطعًا، يفتحُ الشهوةَ والرغبة للإجابة المكتملة، للشاعر المختفي أبو ذر الغفاري.

اقرأ/ي أيضًا:

نعمة الباقر.. مسيرة صحفية سودانية تستحق الاحتفاء

غوردون كونغ دوث.. الفنان ذو الموسيقى البصيرة