29-أغسطس-2015

هشام كاروري/ السودان

كان اندلاع الحرب الأهلية في دارفور عام 2003، "نقطة اللاعودة" التي تدحرج السودان منها حثيثًا نحو نهايته، إيذانًا بوصول الصراع إلى ذروته، وانفجاره بعد قرون من الغليان. من يتمعَّن في تاريخ السودان، منذ سقوط آخر الممالك النوبية عام 1504، وحتى اللحظة، يجده سلسلة من محاولات العثور على صيغة حكم مرضية، تطفئ النزاعات المندلعة، دائمًا، بين الجهات والقبائل، المتغير، تبعًا لتطورها، الهرم الاجتماعي الشارح لعلاقات المواطنين ببعضهم.

 من يتمعَّن في تاريخ السودان يجده سلسلة من محاولات العثور على صيغة حكم مرضية 

ففي عصر سلطنة الفونج "1504-1821"، ثم الحكم التركي "1821-1885"، ودولة المهدية "1885-1898"، ظلت نفس مشاكل الفساد الإداري وسوء استخدام السلطة، تحرِّك الصراعات المسلحة ضد الحكام، الذين ظلوا، مثل الآن، يحتمون بدروع مفاهيم تحط من قدر المتمردين، إثنيًا وجهويًا ودينيًا، وهي الطريقة التي بلغت ذروتها إبان الحرب الأهلية بين الشمال والجنوب في تسعينيات القرن المنصرم، حين رفع الإسلاميون الحاكمون الصراع لمرحلته النهائية، بتحويله إلى حرب دينية مقدسة، بين الكفار والمسلمين.

ما أقصده بنهاية السودان، هو أن لا أمل في استقراره مرة أخرى، إذ أن المظالم التي وقعت على "الآخرين" في ربع القرن الأخير، قطعت آخر شعرات الأمل في إنجاز مصالحة تاريخية حقيقية، فمع أول رصاصة في دارفور، أغلقت تلك النافذة، وبات الجميع، كما أرى، يبحث عن نصيبه في جثة الوطن. ليس وصول الصراع إلى مرحلة عريه الكامل، كصراع مجموعات بعينها ضد أخرى في حرب امتيازات متدثرة ببنى ثقافية، هو فقط ما يجعلني أتشاءم حد اليأس، بل هناك أسباب أخرى تصب في وصول الأمور إلى نقطة اللاعودة.

أليس من العجيب أن السودان لم يشهد، في تاريخه، تنمية واستقرارًا إلا في فترة الاستعمار الإنجليزي؟ ولولا هذه الفترة لكان اليوم مجرد "تحفة" من تحف القرون الوسطى. فهل هو شيء في الجينات ذلك الذي يجعل السودانيين، ربما، لا يحكمون بعضهم إلا وتندلع النيران ويستشري الفساد؟

يصنف المحللون السياسيون في السودان، حالة اللااستقرار التي ظلت تلازم البلاد منذ الاستقلال عام 1956، بأنها "فشل النخبة في إدارة التنوع"، أو "أزمة نخبة"! 

حسناً، ما معنى ذلك؟ يتعامى هؤلاء وغيرهم، عن النظر إلى التربة التي تنتج "النخبة" في السودان، ليس بعد الاستقلال فقط، بل منذ خمسة قرون. فدائمًا، مع استثناءات قليلة، تنتج "كتلة وسط السودان التاريخية" المفاهيم المسيطرة التي يعتبر الخروج عليها تمردًا، وتنتج كذلك الأفراد المسيطرين على الحكم والاقتصاد. وعلى ماذا تقوم ثقافة كتلة الوسط التاريخية هذه؟ حسنًا، إن نظامها مبني على مركزيتها التي تبرر بها وجوب خضوع الثقافات الأخرى لها! هكذا ببساطة.

فسواء أكان مركز الحكم في سنّار، أم الخرطوم، أو أم درمان، تُبنى حول هذا المركز مفاهيم السلطة، والدين، والثقافة المسيطرة، مع الأخذ بعين الاعتبار أثر الجغرافيا – المكان، ما يجعل ساكن الصقع البعيد يُدمج السلطة، وعاصمتها، وقهرها، وموقعها الجغرافي وسكانه؛ في كتلة واحدة، تندرج في نظامه الثقافي، في خانة "العدو" والقاهر.

إن التمثلات الثقافية في سلوك ابن الوسط النيلي– النخبة، تجعله "بتعميم غير مخل" أسيرًا لمفاهيم اجتماعية موروثة يصعب الفكاك منها، تؤدي في مجملها إلى جعله "قابلًا للفساد" بدرجة عالية. فلو وضعنا أحدهم مكان الحكومة الحالية، التي يكره فسادها ويعارضها، فبنسبة كبيرة سيرتكب نفس أشكال الفساد التي ظل يرفع صوته ضدها، فأين ذلك السوداني الذي لن يحابي إخوته وأصدقاءه، أو يعيِّن غير ذي كفاءة فقط إرضاء لوالدته؟

تتشارك النخبة في السودان، إسلاميين وعلمانيين، المفاهيم الثقافية الأشد قتامة، المتعلقة بالذات والآخر، أعني أفضلية الذات على الآخر عرقيًا أو دينيًا أو جهويًا.. الخ، لذا لا أمل، برأيي، في أن يتغير شيء بإبدال الحاكمين بغيرهم، وهو ما ظل يحدث لقرون دون جدوى، ففي النهاية يعتنق كل الذين أنتجتهم كتلة الوسط التاريخية المسيطرة، ذات الأفكار التي تسير بالسودان في اتجاه النهاية.

إن نفس المآخذ التي يعارض من أجلها المعارضون حكم الإسلاميين اليوم، هي مدمجة في بنيتهم الذهنية ومن ثم السلوكية، فأي معارض ديمقراطي ذاك الذي يبقى على سدة رئاسة حزبه لنصف قرن "بناءً على رغبة الجماهير طبعًا"! وأي رئيس حزب ينشد الديمقراطية، ذاك الذي يعيِّن أبناءه وأقاربه في كل المفاصل القيادية للحزب، فقط لأنهم "من العائلة"! بل حتى أحزاب اليسار، المفترض أنها أكثر حداثة، تجدها في السودان تعاني من نفس المرض، ولا فرصة فيها لشاب كفء دون الأربعين ليجلس في مكان اتخاذ القرار.

هي نهاية ظل السودان يسير نحوها منذ خمسة قرون، لأنه بني على مبادئ لا تقبل الاختلاف ولا التعدد، يسهم فيها الجميع.. الحاكمون والمعارضون، الأحزاب والمليشيات والمواطنون الطيبون، من صالحوا ومن يظنون إمكان إصلاح كل شيء بعصا "الحوار" السحرية. فمع أطراف تشتعل فيها الحرب ضد الدولة/المركز، وعلو كعب النعرة العنصرية والخطابات الدينية المتطرفة والتغيبيبة معاً، ومع انسداد أفق المستقبل أمام قوة الدفع الكبرى- الشباب، ليتوزعوا بين الهجرة وحمل السلاح؛ لا تبدو الصورة بعيدة عن إيماني بالنهاية.