02-أكتوبر-2023
محل بائعة شاي في الأبيض بولاية شمال كردفان

تواجه بائعات الشاي ظروف بالغة التعقيد بسبب الحرب بين الجيش والدعم السريع

معزة عيسى امرأة في مقتبل العمر تمارس مهنة إعداد القهوة والشاي  في سوق الأبيض الغربي، قالت لـ"التر سودان" إنه وفي حوالي الساعة الحادية عشرة صباحًا بالتوقيت المحلي وبينما رواد السوق منهمكون في تأدية أعمالهم المعتادة، وبعضهم يتناول وجبة فطور متأخرة، وغيرهم يحتسون القهوة والشاي ويبدون راضين بعض الشيء بما حققوه خلال ساعات الصباح الأولى؛ فجأة دوت أصوات أسلحة  ثقيلة، حيث وصفتها معزة بأنها من نوع "كاتيوشا"، فأهل هذه المدينة التي تحاصرها قوات الدعم السريع من جميع الاتجاهات  وينشط الجيش في داخلها بتعقب المتسللين، باتوا يعرفون جميع أنواع الأسلحة من أصواتها من كثرة ما قضّت مضاجعهم في هدوء الليل وأثناء ساعات النهار. كما صاروا يميزون بين أصوات الذخيرة التي يطلقها القناصة التي تستخدمها قوات العمل الخاص بالجيش السوداني في المطاردات، من تلك التي يتم استخدامها في الاشتباكات، ومعظمها من المدفعية المتوسطة والمحمولة. بالنسبة لهذه السيدة هذه الأصوات التي تفجرت للتو تنذر ببداية اشتباك متوقع، إن لم يكن قد بدأ بالفعل.

لقمة عيش

تضيف معزة بأنها تصرفت على النحو الذي اعتادت عليه منذ بدء الحرب بين الجيش والدعم السريع، حيث جمعت عدتها وأدخلتها في بعض المحال التجارية التي تساعد النساء العاملات في السوق بتقديم مثل هذه الخدمة، فأصحاب هذه المحلات متعاطفون مع أوضاع هؤلاء النسوة الكادحات، ويتعاونون معهن في الحدود التي يستطيعونها.

في عين العاصفة يستوي الجميع، حيث تعرضت الصيدلانية فاطمة محمد أبيض لوضع مشابه، فهي تسكن حي الوحدة والذي يعد من الأحياء التي تستقر في بعض مربعاتها قوات الدعم السريع وتشكل خطرًا على المدينة

لكن مصاعب معزة لم تنتهي عند هذا الحد، وعليها أن تذهب إلى منزلها هي وطفلتها التي أمسكت بيدها وانطلقتا نحو موقف المواصلات التي لم تكن متوفرة. فأصحاب الحافلات انسحبوا بمجرد دوي الانفجارات، و سارعوا بالخروج بسياراتهم من وسط المدينة. تعيّن على معزة وصغيرتها أن يشققن طريقهن مع المنسحبين من السوق خوفًا على حياتهم إلى الأحياء المجاورة، لتبدأ تحديات من نوع جديد، فقد قابلهم جنود الدعم السريع ولكنهم لم يتحدثوا إليهم، إلا أن إطلاق النار كان ما يزال متواصلًا ولم ينقطع حتى وصلت معزة وطفلتها إلى منزلها الذي تسكنه مع صغارها ووالدها العجوز في طرف المدينة الغربي على بعد (10) كيلومترات قطعتها معزة وابنتها سيرًا على الأقدام.

وقالت بائعة شاي أخرى بمدينة الأبيض لـ"الترا سودان"، إن أول اشتباك -والذي يسمونه "كتمة"- يصادفها وهي في السوق  كان في الأسبوع الأول من شهر أيلول/سبتمبر المنصرم، فقامت كما هو معتاد بجمع عدتها، وبالطبع ساعدها الناس في ذلك. لفتت هذه السيدة إلى أن التدافع كان شديدًا، والكل يريد أن ينجو بنفسه. ومع أن المواصلات كانت متوفرة إلا أنها لم تجد منفذًا للخروج، فالشارع الواحد به ثلاثة صفوف من السيارات، لكنها رغم ذلك استطاعت أن تصل إلى منزلها في الطرف الجنوبي  للمدينة، لكنها دخلت البيت في حالة نفسية سيئة، فقالت إنها جلست نصف ساعة حتى تستوعب ما حدث ثم نهضت وصلت الظهر.

عين العاصفة

في عين العاصفة يستوي الجميع، حيث تعرضت الصيدلانية فاطمة محمد أبيض لوضع مشابه، فهي تسكن حي الوحدة والذي يعد من الأحياء التي تستقر في بعض مربعاتها قوات الدعم السريع وتشكل خطرًا على المدينة، لذا تظل المدفعية المضادة للجيش مشبوحة العينين في الظلام وعين القناصة لا تتحول عن جهاز "السكوب" الذي يكشف تحركات المقاتلين على بعد ثمانية كيلومترات، ويعاجلهم بطلقات الذخيرة المتقطعة قبل انتظامهم في تشكيلات قتالية أو اتخاذهم وضعية الهجوم. في الأبيض "عروس الرمال"، أصبحت أصوات الذخيرة وأنواع العمليات العسكرية المتوقعة تبعًا لنوعية الأصوات المنبعثة من الأسلحة مسألة مألوفة للأهالي، خاصة في الأحياء التي تعبر بها.

وتشير د. فاطمة لـ"الترا سودان" إلى أنها لاحظت أثناء خروجها من منزلها وهي في طريقها لمحطة المواصلات وجود جندي من الدعم السريع في شارع الأسفلت، الأمر الذي أثار مخاوف الناس، وقرر بعضهم عدم الذهاب إلى السوق وعادوا أدراجهم إلى منازلهم، فركبت فاطمة المواصلات ومعها ثلاثة أفراد. ولكنها بمجرد وصولها للصيدلية انطلقت أصوات الدانات، وكانت القذائف باتجاه السوق الغربي.

تقول: "للصيدلية بابان؛ جنوبي وشرقي، فخرج العاملون من الباب الشرقي ودخلوا إلى مجمع الأطباء المجاور لهم، وكان الجميع بما فيهم المرضى في حالة هلع وخوف شديدين، فانسحبوا إلى حي الربع الثاني شرقي المدينة، البعيد نوعًا ما من مرمى النيران. من هناك قطعت فاطمة ومن معها مسافة عشرة كيلومترات حتى وصلوا إلى حي فلسطين غربي المدينة، وهو من الأحياء المتأثرة بنشاط قوات الدعم السريع، وتتخذه بعضها مستقرًا لها مثل المربعات (12 - 13) من حي الوحدة، ولذلك من الطبيعي أن يزداد إطلاق النار، فاضطرت فاطمة أن تدخل بيتًا فوجدته مكتظًا بالنساء والرجال الذين لجأوا إليه خوفًا من الرصاص العشوائي وشظايا المتفجرات.

محل بائعة شاي وبجانبها العاملون في مركبات التوكتوك بسوق الأبيض
تعمل العديد من النساء السودانيات والوافدات في مهنة بيع الشاي بالأسواق والطرقات العامة والمناطق السياحية

هذه الظروف تواجهها المرأة العاملة في مدينة الأبيض كلما قامت قوات الدعم السريع بمهاجمتها أو قصفها بأسلحة الكاتيوشا، وأكثر ما يستهدفون الأحياء القريبة من مقر قيادة الجيش أو سوق المدينة، خاصة في يوم صرف استحقاقات الجنود من بعض البنوك مما يستوجب تأمينه ووضع الاستحكامات في محيطه، والتي يصيب منظرها المارة بالرعب لأنها تعني احتمال وقوع هجمة أو "كتمة". وعلى النساء العاملات أن يعبرن هذه الارتكازات التي لا يبشر وجودها بخير، وصولًا إلى مكان العمل، فلا تتوفر فرصة أخرى لتدبير لقمة العيش للصغار وكبار السن.

بائعة الشاي التي وصلت إلى منزلها بصعوبة في آخر هجوم تعرض له السوق تقول إنها عادت للعمل في صباح اليوم التالي مباشرة، وذلك لأنها تعول أسرة مكونة من ستة أفراد تشمل أطفالها وإخوتها الصغار، ولا يوجد مصدر دخل غير الذي يتوفر من عملها وعمل والدتها. تضيف هذه السيدة في حديثها لـ"الترا سودان"، أنها لا يمكن أن تتوقف عن العمل مهما كانت الظروف، كما أنها لا تهتم للشائعات التي لا بد أن تنتشر داخل مدينة محاصرة باحتمال وقوع هجوم من قبل قوات الدعم السريع. هي تتعامل مع الأحداث حال وقوعها ولا تنتظر ما لم يحدث وهذا يمنحها بعض الشجاعة في التعامل مع حياة لا تتوفر فيها أدنى حد من الضمانات.

وتواجه معزة عيسى التي تعمل في السوق الغربي بالمدينة، نفس هذه الظروف، فقد ذكرت أن زوجها متوفى وهي تقوم بتربية أطفالها الأربعة ووالدها في سن المعاش، والذي  أصيب بشظية جراء الاشتباكات احتاج عملية جراحية لاستخراجه. تقول: "إثر كل عملية عسكرية أقوم بحشر نفسي وأطفالي وأبي العجوز تحت الأسِرّة، وبعد انتهاء القتال أجمع الرصاص من فناء المنزل و أخفيه عن أعين الصغار".

نساء الأبيض ورائحة البارود

هذا هو حال عشرات بل مئات النساء في مدينة الأبيض إن لم يكن في كافة ولاية شمال كردفان، وذلك بسبب الوضع الاقتصادي المتردي قبل الحرب نتيجة تدمير القطاع المطري التقليدي الأمر الذي أدى إلى أن يفقد الكثير من العاملين حرفهم التقليدية، وأصبح العمل لا يتوفر إلا في سوق المدينة مرتبطًا بالحركة التجارية التي عقدتها ظروف الحرب نتيجة لانقطاع الطرق التي تستبيحها مجموعات مسلحة ترتدي ملابس مدنية، هكذا وصفها كل من التقينا بهم.

ولم تتقدم أي جهة لمد يد العون للأسر التي تعيش في أوضاع صعبة للغاية. معزة قالت لـ"الترا سودان": "لم تصلنا منظمات مجتمع مدني كما لم يصلنا صندوق الزكاة، والعمل الذي نقوم به لا يوفر دخلًا كافيًا لمقابلة احتياجات الأسرة، فقد قلت حركة البيع" - قالتها وهي تشير إلى صف المتاجر المغلقة أمامها، وقد كانت قبل الحرب تضج بالحركة ونشاط عمال الشحن والتفريغ، ومعظمهم كانوا يرتادون محلها لتناول القهوة والشاي. تضيف: "عندما يقع اشتباك ينقطع حتى هذا الدخل القليل، ما يضطرنا أن نلجأ للبدائل مثل اللوبيا، وأحيانا لا يوجد طعام  فينام الصغار وهم يبكون من الجوع  حتى يغلبهم النوم".

خبيرة:  الحرب الجارية في السودان أجبرت المرأة على الخروج من المنزل، فأصبحت إما لاجئة أو نازحة، وفرضت عليها مزيدًا من الأعباء التي تفوق طاقتها

وفي مثل الظروف يعتبر شرب الشاي والقهوة -بحسب بائعة الشاي الأخرى- من الكماليات، في وقت يكاد فيه الدخل يكفي الضروريات، لذا يحجم معظم الناس عن هذه المشروبات، مما يقلل دخل العاملات بهذه المهنة واسعة الانتشار في السودان.

وتعتبر المرأة الكردفانية عماد الأسرة، وذلك إضافة لدورها الأساسي في تربية الأبناء وإدارة شؤون البيت، وبحسب إفادة خبيرة النوع الاجتماعي بمشروع تطوير الزراعة في برنامج الموارد الطبيعية وسبل كسب العيش "إيفاد" بولاية شمال كردفان، الأستاذة عاتكة أمين معروف، فإن المرأة تساهم مع زوجها في توفير احتياجات الأسرة المادية وتتبع طرق ووسائل مختلفة ومتنوعة مشروعة لكسب العيش سواء بالعمل في مؤسسات الدولة في قطاعاتها المختلفة، أو العمل في مجال التجارة  والتسويق وغيرها من المجالات. وتشير عاتكة إلى أن الحرب الجارية في السودان أجبرت المرأة على الخروج من المنزل، فأصبحت إما لاجئة أو نازحة، وفرضت عليها مزيدًا من الأعباء التي تفوق طاقتها، إضافة لأدوارها المذكورة أعلاه.

بانر الترا سودان