انتقلت الأوضاع العسكرية في مدينة الفاشر عاصمة ولاية شمال دارفور إلى مربع جديد، وهي في نظر المراقبين منفتحة على عدة سيناريوهات خاصة مع اشتداد المعارك الحربية مساء السبت وحتى الساعات الأولى من صباح اليوم.
باحث سياسي: سقوط الفاشر يعمق أزمة المشهد السوداني ولأول مرة ستبرز ملامح تقسيم البلاد
شهدت الفاشر مساء السبت وحتى الساعات الأولى من صباح اليوم معارك عنيفة وقد تكون الأوسع من نوعها منذ بداية الصراع المسلح في السودان، واستخدم الطرفان الأسلحة الثقيلة والمدرعات والطائرات الحربية والمدافع بعيدة المدى، ويقول المراقبون إن القوات المسلحة استخدمت طاقة حربية لم تستغلها منذ بداية الحرب في البلاد خلال معارك الفاشر.
ويقول مواطنون غادروا الفاشر اليومين الماضيين، إن الأحداث العسكرية كانت مرعبة للغاية، ووصل الجانبان إلى مرحلة "كسر العظام" في ظل استماتة الجيش والقوات المشتركة والمتطوعين من أبناء المدنية للدفاع عن المدينة، وإصرار قوات الدعم السريع على إبعاد الجيش في إقليم دارفور لغرض الاستحواذ الكامل.
القتال حتى الرمق الأخير
وقال إدريس الذي غادر الفاشر قبل ثلاثة أيام ووصل إلى شمال السودان لـ"الترا سودان" إن المعارك الحربية شهدت قفزة كبيرة من حيث احتدام الصراع على أشده بين الطرفين، وإصرارهم على البقاء حتى "الرمق الأخير"، وقال إن سيطرة قوات الدعم السريع على الفاشر تعني وضع حياة عشرات الآلاف من المدنيين على المحك.
تعد الفاشر أكبر مدن إقليم دارفور وطوال فترة القتال بين الجيش والدعم السريع منذ منتصف نيسان/أبريل 2023، كانت بمنأى عن المعارك العسكرية المباشرة لتركيز قوات حميدتي على مدن الجنينة ونيالا وزالنجي، كما أن بقاء الفاشر تحت سيطرة الجيش في أكبر إقليم سوداني والذي يعادل مساحة دولة فرنسا، جعل طموح الجنرال حميدتي يركز على وضع كامل المنطقة تحت سيطرته حسب حاكم إقليم دارفور مني أركو مناوي، حيث تقاتل قواته ضمن تحالف القوات المسلحة في عدد من الجبهات، عزا الحاكم مناوي إصرار الجنرال دقلو على معارك الفاشر بالسعي إلى تأسيس دولة غرب السودان بدعم من القوى الإقليمية،
في ذات الوقت مضى الجنرال دقلو متخذًا عددًا من الإجراءات في إقليم دارفور بتعيين ثلاثة حكومات محلية في كلا من زالنجي والجنينة ونيالا، وهي عواصم ولايات وسط دارفور وغرب دارفور وجنوب دارفور.
وفي رد فعل على معارك مدينة الفاشر التي تستعر منذ آذار/مارس، واشتدت في أيار/مايو هذا العام، قال قائد الجيش ورئيس مجلس السيادة الانتقالي الفريق أول ركن عبدالفتاح البرهان إن التراب السوداني واحد، ولا تنازل عن الفاشر وعن الخرطوم وعن الجزيرة مقابل الذهاب إلى المفاوضات في جنيف.
ساعات عصيبة مع المعارك
وتقع شمال دارفور وعاصمتها الفاشر في أقصى شمال إقليم دارفور، وهي ولاية حدودية مع الولاية الشمالية، وخلال القتال نزح الآلاف إلى مدن الشمال مثل الدبة ودنقلا، ومن هناك سلكوا الطرق البرية إلى مصر وليبيا ولا تزال مجموعات النازحين في مدن الشمال.
وقال بشار وهو من سكان مدينة الفاشر لـ"الترا سودان"، إن المدنيين عاشوا ساعات عصيبة مساء السبت وحتى الساعات الأولى من صباح اليوم، ولا تزال الأوضاع مرشحة للتصعيد العسكري خاصة مع جلب قوات الدعم السريع حشود جديدة لتغيير المعادلة على الأرض، وهي هجمات عسكرية ذات طابع انتقامي بسبب مقتل القائد الميداني الملقب بـ"قرن شطة" في معارك الخميس الماضي.
ويرى بشار أن الجيش والقوات المشتركة والمتطوعين من أبناء المدينة والقرى المجاورة رفعوا الدرجة القصوى خلال المعارك العسكرية، وبينما أحرزت القوات المسلحة المدعومة من التحالفات المحلية تقدمًا على الأرض لكنها خسرت بعض المواقع في شوارع أخرى وصلت إليها قوات الدعم السريع لأول مرة منذ بداية الصراع المسلح.
القطع الحربية والأسلحة الثقيلة التي كانت تجوب شمال وشرق الفاشر منذ الخميس الماضي والتي استخدمتها القوات المسلحة لتعميق المعارك العسكرية حسب بشار، ساعدت في التصدي للهجوم العنيف من قوات الدعم السريع ومع ذلك فإن السيناريوهات حافلة بالمزيد من المفاجآت.
مواجهة ترسانة إقليمية
وبلغت هجمات قوات الدعم السريع على مدينة الفاشر منذ احتدام القتال هذا العام حوالي (133) هجوم عسكري حسب المتحدث باسم القوات المشتركة، نهاية الأسبوع الماضي تمكنت القوات المسلحة و"المشتركة" من إبطال مفعولها تمامًا.
وساهمت هذه الهجمات العسكرية وفق حديث نشطاء غرف الطوارئ العاملين على الأرض في نزوح نصف سكان المدينة الأسابيع الأخيرة، طلبًا للنجاة من شبح المجاعة والتدهور المعيشي وتوقف شبكة الاتصالات ومحطة الكهرباء والمياه.
وتقول تنسيقيات لجان مقاومة الفاشر في تقاريرها الموثقة حول الصراع المسلح في الفاشر، إن قوات الدعم السريع تصوب المدافع الثقيلة نحو الأحياء السكنية المأهولة بالمدنيين ومراكز الإيواء، وفي هذه الهجمات تستخدم الأسلحة المحرمة دوليًا وسط المرافق المدنية والمدنيين العزل.
وفي حزيران/يونيو الماضي دعا مجلس الأمن الدولي الأطراف المتحاربة إلى إنهاء الحصار العسكري على الفاشر، وبينما حملت القوات المسلحة الدعم السريع مسؤولية الهجمات العنيفة على المرافق المدنية والمواطنين لم تكترث الأخيرة للدعوات الأممية والقرارات الصادرة في هذا الشأن، وتقول وزارة الخارجية السودانية إنها تحصل على حماية دبلوماسية إقليمية داخل مجلس الأمن الدولي، ووجود مصالح بين القوى الغربية وبعض الدول الإقليمية.
البنادق الحاسمة للمشهد القادم
ويوضح الباحث السياسي مصعب عبد الله أن طبيعة معارك الفاشر تقع بين مساري إصرار الجنرال حميدتي على وضع إقليم دارفور بالكامل تحت سيطرته لتحقيق مكاسب تفاوضية، وفي ذات الوقت بالنسبة للقوات المسلحة والقوات المشتركة فإن سقوط الفاشر يعني ضعف التحالف بينهما، كما أن أبناء المدينة من آلاف الشبان الذين انخرطوا في القتال إلى جانب القوات المسلحة الحكومية تدافع عن المدينة بدوافع نفسية واجتماعية حتى لا يتكرر سيناريو الجنينة ونيالا.
ويرى مصعب عبد الله أن تجربة معارك الفاشر أثبتت أن الدفاع عن الحاميات العسكرية في إقليم دارفور والجزيرة كان ممكنًا بقليل من العمل على الأرض، ووضع الثقة في أبناء المناطق للدفاع عن مدنهم وقراهم ومجتمعاتهم.
باحث: الساعات القادمة حاسمة ومفصلية في الفاشر إما أن تظل إلى الأبد تحت سيطرة القوات المسلحة أو الذهاب إلى سيطرة الدعم السريع
ويرجح مصعب عبد الله أن تكون الساعات القادمة حاسمة ومفصلية في الفاشر إما أن تظل إلى الأبد تحت سيطرة القوات المسلحة أو الذهاب إلى سيطرة الدعم السريع، والأخير يعقد المشهد السوداني المعقد أصلًا من خلال الانتقال إلى ملامح التقسيم.
ويقول مصعب عبد الله إن سيطرة قوات الدعم السريع على الفاشر تعني وضع إقليم دارفور تحت إدارتها بالكامل في منطقة حدودية مع عدد من بلدان الجوار المضطربة مثل تشاد وليبيا وجنوب السودان وإفريقيا الوسطى.
وأردف: "تقع تشاد على مرمى النيران من إقليم دارفور، والسلطة الحاكمة هناك معرضة للانهيار في أي وقت في بلد فقير لديه تحالفات غير مأمونة مع دول إقليمية".
يحتدم القتال في الفاشر وترتفع لغة "البنادق الحاسمة" لا حول مستقبل المدينة لوحدها، بل للمشهد العام للبلاد خلال الفترة القادمة مع تطورات دولية وإقليمية تحذر من إقليم سوداني غير مسيطر عليه من القوات المسلحة، وفق تصريحات دبلوماسيين في اجتماع مجلس الأمن الدولي الأسبوع الماضي أثناء مداولات تمديد حظر السلاح في دارفور لعام آخر.