14-مارس-2020

مركز نياكورون الثقافي في جوبا (ألترا سودان)

اسمه مركز نياكورون الثقافي، وهو الوحيد الذي تم تأسيسه لهذا الغرض بمدينة جوبا عاصمة جنوب السودان. كان مزارًا لجميع سكان المدينة والمجموعات الثقافية الجنوبية، ودوت شهرته الآفاق لطبيعة الأنشطة التي كان يستضيفها، لكنه توقف خلال فترة الحرب التي امتدت لعقدين من الزمان، وبعد  التوقيع علي اتفاق السلام في العام 2005، كان من المتوقعع أن يعود المركز لمزاولة أعماله وتنظيم واستضافة الفعاليات والمهرجات الثقافية الضخمة، لكن المفاجأة كانت أن حكومة ولاية الاستوائية الوسطي بجوبا تقوم بتأجير المركز لشركة خاصة، ما حول جميع الإنشطة العامة إلى فعاليات مدفوعة القيمة.

المركز قُدِم لجنوب السودان كمنحة من رجل الأعمال السعودي عدنان خاشقجي، الذي كان صديقًا للرئيس السوداني الراحل جعفر نميري

الاسم نياكرون يعود لمجموعة  الباري المقيمة بولاية الاستوائية الوسطى ويعني "آكل التراب"، وأفراد مجموعة الباري الاستوائية هم من أطلق الاسم بادئ الأمر على المركز، وتعود جذور الاسم إلى أن المنطقة التى يوجد بها المركز حاليًا كانت غابة فيما مضى، ومقلبًا للقمامة.

اقرأ/ي أيضًا: غوردون كونغ دوث.. الفنان ذو الموسيقى البصيرة

يوضح الكاتب والباحث في قضايا الثقافة جوزيف أبوك، خلفية الاسم في حديث مع "الترا سودان"، مبينًا أن الموقع الحالي للمركز كان منطقة خالية تمامًا من السكان، وكان غابة كثيفة الأشجار وكان عمال الصحة والمواطنون يقومون برمي الأوساخ فيه، لذا أطلق عليه سكان مدينة جوبا اسم  نياكرون أو "آكل التراب".

ويضيف أبوك أن وضع اللبنات الأولى وحجر الأساس للمركز كان في أواخر سبعينات القرن الماضي، في عهد الحكومة الإقليمية حينذاك، كمركز ثقافي كبير قصد منه تشجيع وتطوير الثقافة الوطنية، وإثراء التنوع والخصوصية التي يتمتع بها الإقليم ثقافيًا، ويذكر أبوك أن المركز قُدِم لجنوب السودان كمنحة من رجل الأعمال السعودي عدنان خاشقجي، الذي كان صديقًا للرئيس السوداني الراحل جعفر نميري في سبعينات القرن الماضي. وكان  المركز في هيئته الأولى مبنيًا من خشب التيك والطين والقنا، وكانت خشبة مسرح المركز مفروشة بالرمل.

نياوكورون .. منحة خاشقجي للنميري

شيد المركز بعد توقيع اتفاقية أديس أبابا بين "حركة الأنانيا 1" وحكومة السودان في عهد الرئيس الأسبق الراحل جعفر نميرى (حكم بانقلاب عسكري سنة 1969 وأطاحت به ثورة نيسان/أبريل الشعبية 1985). وأنشئ المركز في العام (1976)، بهدف تشجيع الأنشطة الثقافية، وإقامة المنافسات الثقافية للمدارس الثانوية، بجانب كونه معرضًا ومركزًا لأداء العروض الثقافية للأطفال، وصالة عرض سينمائي.

كان هدف المركز أيضًا توثيق ثقافات جنوب السودان لكي يتعرف الأطفال والشباب على ثقافات وعادات وتقاليد مجتمعاتهم الموروثة، والحفاظ على التراث التقليدي.

ويؤكد جوزيف أبوك أن مركز نياكرون الثقافي ظل محافظًا علي شكله بصورة كبيرة، و لم تطرأ عليه تغييرات سوى إضافة السقف وبعض الغرف إلى القاعة الرئيسية، فالمركز كان في السابق يسع لحوالي 750 مقعدًا من كراسي البلاستيك، اختفت من القاعة، ولا زال البعض يحتفظون بها في بيوتهم إلى اليوم. وجوزيف أبوك كان مديرًا لمركز نياكرون الثقافي في عام 1985، والذي استضاف فيه عدة فعاليات ثقافية.

أعيد ترميم مركز نياكورين الثقافي بواسطة شركة بروست، التي أضافت سقفًا للمركز وتم تغيير المقاعد الموجودة فيه بالنظام الحديث، لكن المبنى احتفظ بطرازه القديم، وهو يتكون من القاعة الكبرى التى تقع في منتصف البناية من أربعة أبواب أمامية وخلفية، ويشتمل المبنى كذلك على صالة لكبار الزوار (V.I.P) متلصقة بها. وصالة أخرى في الركن الشرقي للقاعة وغرفة التحكم في الأجهزة الإلكترونية.

يقول أبوك إن هذا الصرح الثقافي التاريخي قد شهد العديد من الفعاليات والأنشطة الثقافية، من معارض ومسارح بالإضافة إلى الأعمال الدرامية، مبينًا "أن المواطنين والفرق الثقافية كانت تأتي إلى هنا من مدن ياي وتوريت وبعض الأقاليم  لتقديم عروضها في المنافسات والأنشطة الثقافية. وقد مثل المركز بؤرة للنشاط الثقافي وتشكيل الهوية الثقافية لجنوب السودان، فضلًا عن أنه شهد مشاركة فرق موسيقية من الكنغو ويوغندا، بجانب حفلات الديسكو من فرق لوميركا وفرقة الرجاف المحليتين،" ويستطرد قائلًا: "كان الغرض من تأسيس هذا المركز هو تقديم ثقافات وعادات وتقاليد جنوب السودان".

اقرأ/ي أيضًا: الفن التشكيلي بجنوب السودان.. ألوان توثق للحياة وذاكرة الحرب

يذكر جوزيف أبوك أنه تقلد منصب مدير المركز في الثمانينات، وشهد عهده عدة فعاليات وعروض من الفرق والجماعات الموسيقية بجانب الرقصات الشعبية والتقليدية لمختلف قبائل جنوب السودان، ومن الأنشطة التى كانت تقام أيضًا العروض السينمائية التي تعرض في المرك، ومهرجانات ثقافية كبرى استمرت لمدة سبع سنوات، من بينها عروض نسائية وأخرى للأطفال، وعروض للأعمال اليدوية والتراث المادي والفنون الشعبية، ويقول إن معظم الفعاليات التى كانت تقام بالمركز يتم تمويلها عبر منح من المنظمات غير الحكومية. 

ناكورون .. ملكية عامة أم مشروع تجاري؟

وبحسب روايات عديدة فإن المركز قدم كمنحة لكل أقاليم جنوب السودان في تلك الفترة، وأنه كان يتبع لوزارة الثقافة بالحكومة الإقليمية وأن جميع الأنشطة كانت تقام فيه مجانًا أو بأسعار زهيدة جدًا مقارنة بأسعار إيجاره الحالية، وقد آلت ملكيته لوزارة الثقافة والإعلام بالاستوائية الوسطى، فيما يقول أبوك إن تحويل ملكية المركز لولاية الاستوائية الوسطى خطأ فادح من قبل حكومة جنوب السودان، ووزارة الشباب والرياضية والثقافة بالحكومة الاتحادية، ويرى أن الوضعية المثلى هي عودة المركز للوزارة الاتحادية كمرفق قومي.

 أما نيكولا فرانكو الكاتب والمخرج المسرحي، فيبين لـ"الترا سودان"، أن مسألة تحويل تبعيته لجامعة جوبا، كلية الفنون والدراما، تم نقاشها، إلا أنه أشار إلى أن المركز تم تأجيره لشركة بروست وأصبح مؤسسة تجارية غير ثقافية، فالمركز في فترة اشتداد الحرب شهد توقفًا في أنشطته الثقافية في تسيعينات القرن الماضي.

وكانت ملكية المركز قد آلت لحكومة الاستوائية الوسطى، بعد تقسيم الولايات في عهد الرئيس السوداني عمر البشير، في التسعينات. وبعد توقيع اتقافية السلام الشامل بنيفاشا 2005 تم تحويل المركز لولاية الاستوائية الوسطى من قبل حكومة جنوب السودان، وقامت حكومة الاستوائية الوسطى بتأجيره لمجموعة شركات بروست بعقد تم بواسطة لجنة من وزارة الإعلام والثقافة والشؤون القانونية، ويوضح فرانكو أن شركة بروست قامت  بترميم المركز وتحول من مركز ثقافي مملوك للدولة إلى مركز تجاري حر، لإقامة المؤتمرات والورش، وهذا قاد إلى إيقاف الأنشطة الثقافية.

بروس تحتكر نياكورون لربع قرن

بعد أن آلت ملكيته لوزارة الثقافة الولائية قامت مجموعة شركات بروست باستئجار مركز نياكرون الثقافي من حكومة ولاية الاستوائية الوسطى، وقد تم ذلك عبر لجنة مكونة من وزارة الثقافة والإعلام والشؤون القانونية ووزارة المالية، بعقد إيجار لمدة خمس وعشرين سنة، وقامت هذه الشركة بإعادة ترميمه وصيانته بالشكل الحالي، وتحول المركز من مؤسسة حكومية ثقافية الغرض منها عرض الثقافات والتراث الشعبي لقبائل جنوب السودان، إلى مركز تجاري غرضه إقامة المؤتمرات والمعارض والورش بجانب المناسبات الاجتماعية، ومنذ أن قامت حكومة الولاية بتأجيره للشركة أصبح مركز نياكورين لا يستضيف أنشطة ثقافية من مسرح ودراما وعروض ثقافات لأن ذلك يتطلب من المجموعات والمبدعين توفير مبالغ الحجز الكبيرة.

تقام في مركز نياكرون حاليًا المؤتمرات السياسية الكبرى، وبعض المؤتمرات الزراعية والتجارية الضخمة، والتى تشترك بها العديد من الدول، وتجد بداخله كذلك كازينيو للمقامرة ولعب الورق. ويطالب نيكولا فرانكو بأن يعود المركز لسابق عهده كوجهة للمبدعين والفنانين والكتاب والجماعات الثقافية علي أن يكون ذلك برسوم رمزية.

دولة بلا مركز ثقافي

كان نياكرون وربما لا يزال هو الصرح الثقافي الوحيد في جنوب السودان حيث كان الفنانون وأصحاب المواهب والفرق الثقافية المختلفة يقدمون عروضهم فيه، لكنه آل إلى شركة استثمارية تسعى للربح وجني الأموال مقابل أي خدمة يقوم المركز بتقديمها للأفراد أو المؤسسات، مما أثر على عدد الأنشطة المفتوحة للجمهور، وأصبحت أبوابه موصدة أمام فقراء المبدعين والمواهب الجديدة.

نيكولا فرانكو: لابد للحكومة أن تصل لاتفاق مع شركة بروست من أجل إتاحة الفرصة لاستضافة الأنشطة الثقافية والفنية

وقد اشتكى الفنانون والفرق الثقافية من ارتفاع تكاليف العرض بالمركز، وفي هذا الصدد يقول مسؤول الثقافة بوزارة الإعلام بحكومة جنوب السودان لـ"االترا سودان"، "إن مركز نياكرون تابع للولاية الاستوائية والحكومة ليس لها مركز ثقافي، ولكنها تسعى إلى امتلاك قطعة أرض لتقوم ببناء مركزها الثقافي عليها في المستقبل".

 لكن نيكولا فرانكو يذهب في اتجاه مغاير، في مطالبته بالمواءمة بين طبيعة المركز المستأجر وأهمية وجود أنشطة وبرامج تثقيفية للجمهور بقوله: "لا بد للحكومة أن تصل لاتفاق مع شركة بروست من أجل إتاحة الفرصة لاستضافة الأنشطة الثقافية والفنية"، مطالبًا الحكومة بإنشاء مركز ثقافي خاص بها.

 

اقرأ/ي أيضًا:

الموسيقى التقليدية.. ترويح الرعاة وإعلام للسلاطين

إيمانويل كيمبي.. توحيد الجنوبيين بالغناء