أمرت المحكمة المعنية بالنظر في قضية مقتل رقيب الاستخبارات العسكرية ميرغني الجيلي –الذي أعلنت السلطات عن مقتله بالتزامن مع احتجاجات شعبية مناهضة للانقلاب العسكري في الثامن من آذار/مارس الماضي، واتهمت ثمانية من الناشطين في لجان المقاومة بالضلوع في مقتله– وقضت المحكمة بشطب دعوى الاتهام في مواجهتهم، بعد نحو عام.
تكشف القضية عن ثغرات مريعة في قانون الإجراءات الجنائية، تسمح بحبس المتهمين على ذمة بلاغات لا يملك الاتهام فيها أيّ بيّنات معتبَرة في مواجهتهم
واعتقلت السلطات: خالد مأمون، وحمزة صالح محجوب، وشرف الدين أبو المجد، وسوار الذهب أبو العزائم، وحسام منصور الصياد، ومايكل دينق، ومصعب أحمد محمد، وقاسم حسيب كوال – في أوقات متفرقة من العام الماضي، بتهم تتعلق بمقتل رقيب في الاستخبارات العسكرية خلال تظاهرات في آذار/مارس الماضي بالقرب من محطة "شروني" في وسط الخرطوم.
وقضت محكمة جنايات الأوسط لدى انعقادها بمباني معهد العلوم القضائية شرقي الخرطوم، أمس، برئاسة القاضي جمال سبدرات – قضت بشطب الاتهام في مواجهة جميع المتهمين لعدم وجود أي بيّنة في مواجهتهم وبالإفراج عنهم فورًا.
يأتي الحكم بعد نحو عامٍ على إثارة القضية، وبعد أن قضى معظم المتهمين فترات طويلة في السجن، قبل إحالة الدعوى إلى القضاء، وخلال مرحلة التقاضي، لاقوا خلالها صنوفًا من التنكيل والتعذيب – بحسب ما اشتكت هيئة الدفاع في مذكراتها.
الإفراج عن المتهمين بعد كل هذه المدة يعني –ضمن ما يعني– أن نظامنا العدلي معطوب، وأن مؤسساتنا التي ينبغي أن تسهر على صون العدالة وتحقيقها، تفتقر إلى أبجديات العدالة؛ فالعدالة البطيئة نوعٌ من الظلم في عُرف أهل القانون.
وأن يقبع ثمانية أشخاص في الحبس في بلاغ لا ترقى الأدلة فيه إلى توجيه تهمٍ إليهم –بحسب تقدير المحكمة بعد نحو (20) جلسة– لا يعني سوى غياب العدالة.
تكشف القضية عن ثغرات مريعة في قانون الإجراءات الجنائية، تسمح بالإبقاء على المتهمين قيد الحبس على ذمة بلاغات لا يملك الاتهام فيها أيّ بيّنات معتبَرة في مواجهتهم - وفقًا لتقديرات القضاء.
إن الثوار الثمانية المحبوسين ظلمًا لمدد تقارب العام في بعض الحالات، لم يُفرج عنهم بالأمس إلا لأنّ شابًا تجاسر وآثر الجهر بالحق على سلامته الشخصية.. أحضرته هيئة الاتهام شاهدًا لها فوقف أمام المحكمة شاهدًا عليها وعلى السلطات الأمنية التي اختطفته ونكّلت به وعذبته ليشهد زورًا ضد رفاقه، ففضح كل المؤامرة أمام القاضي. ومن بعْد، لأن أولياء الدم في القضية ترفّعوا عن إقحام دم فقيدهم في كيدٍ سياسيٍّ آخر همّ مخططيه هو تحقيق العدالة في مقتل الرقيب ومحاسبة قتلته الحقيقيين.
تسمح القوانين السودانية بحبس المتهم على ذمة التحري ستة أشهر، يصعّد الأمر بعدها إلى رئيس الجهاز القضائي، أمّا في مرحلة التقاضي فلم يحدد القانون السوداني مدةً قصوى لحبس المتهم من دون حكم قضائي بعد وصول الملف إلى المحكمة، وتركها للصدفة والظروف!
ومع أنّ السلطات ألقت القبض على بعض المتهمين في مقتل رقيب الاستخبارات العسكرية منذ آذار/مارس ونيسان/أبريل الماضيين، إلا أن الملف لم يحال إلى المحكمة إلا في مطلع تشرين الأول/أكتوبر الماضي.
واشتكت هيئة الدفاع وقتها من تجديد السلطة القضائية لحبس موكليها من دون تهم رسميّة مقيّدة في مواجهتهم "في مخالفة صريحة للإجراءات القانونية التي تمنع تجديد الحبس في هذه المرحلة من دون توجيه تهمة رسمية" – وفقًا لهيئة الدفاع.
ووفقًا لنقاشات مع قانونيين، فإن الإشكال ليس في القوانين –على قصور نصوصها– بقدر ما أنه في الأجهزة العدلية المعنية بتطبيق القانون وتفسيره، فالنصوص القانونية مها بدت مُحكمة الصياغة تخضع –بقدرٍ أو بآخر– لتفسير الأفراد المعنيين حسب مواقعهم في هذه الأجهزة، ما يعني أنه لا مفر من إصلاح الأجهزة العدلية وتأهيل عناصرها، مع سد الثغرات في النصوص القانونية وكفالة الحق في محاكمة عادلة وناجزة بإجراءات سليمة وموافِقة للمبادئ الأساسية للقانون.
إن الحق في المحاكمة العادلة من الحقوق الأساسية التي يعمل على ضمانها أي نظام ديمقراطي لأي متهم مهما بلغت تهمته.
نحن بحاجة إلى صيغة قانونية وسياسية لإصلاح الأجهزة العدلية من دون المساس بمبدأ فصل السلطات ولا استقلالية هذه الأجهزة
ويأتي مطلب "العدالة" –بمعناها الواسع– في قلب مطالب ثورة ديسمبر المجيدة. وعملية إصلاح الأجهزة العدلية وأجهزة إنفاذ القانون لتضطلع بدورها على أكمل وجه، في أوضاعنا هذه، ليست نزهةً بالتأكيد.. نحن بحاجة إلى صيغة قانونية وسياسية لإصلاح الأجهزة العدلية من دون المساس بمبدأ فصل السلطات ولا استقلالية هذه الأجهزة –المفترَضة– عن السلطة التنفيذية.. هذا واجبٌ ينبغي أن يتصدى له المهتمون بمسألة العدالة والمؤمنون بقيمتها وأصحاب المصلحة كافة، وألّا يترك للتنازع بين السياسيين وأهل القانون.