30-سبتمبر-2024
الشاعر السوداني محمد المكي إبراهيم

الشاعر السوداني الراحل محمد المكي إبراهيم

حملت الأسافير مساء أمس الأحد، 29 حزيران/يونيو 2024، النبأ الصادم برحيل الشاعر السوداني الفذ محمد المكي إبراهيم، صاحب الإسهامات العميقة والمتعددة، رائد مدرسة الساحل والصحراء في الأدب السوداني وأحد أهم رموز القصيدة السودانية، بعد أن أثرى الساحة الشعرية السودانية بالجواهر التي ما زالت واسعة الرواج وسط من يتناولون الشعر في السودان والمحيط العربي.

عرف محمد المكي إبراهيم بشعره الثوري الذي عكس آمال الشعب السوداني في التحرر والتغيير، فضلًا عن الجماليات العذبة الناجمة عن التنوع الثقافي والعرقي في السودان

عرف محمد المكي إبراهيم بقصائده المقاومة، فهو ابن "جيل العطاء المستجيش ضراوة ومصادمة" كما تقول إحدى قصائده. كما عرف الراحل الكبير بمواقف فكرية وسياسية ونقدية رفعت من قدره كشاعر ومقاوم تغنى في قصائده بالحرية والتغيير ورفاه الأمة السودانية، فشكل شعره صوتًا للثورة والتمرد في فترة مضطربة من تاريخ السودان، حيث كانت البلاد تمر بمرحلة ما بعد الاستقلال وما رافقها من تحولات سياسية واجتماعية كبرى.

ميلاده ونشأته

ولد محمد المكي إبراهيم عام 1939 في مدينة الأبيض بولاية شمال كردفان حيث تلقى تعليمه الأولى هناك، ودرس الثانوية في مدرسة خور طقت التي تعد أهم ثانويات السودان التي تخرج فيها عدد كبيرمن قادة البلاد ومثقفيها، ثم التحق بجامعة الخرطوم التي درس فيها القانون وبرز فيها كثائر وشاعر. منذ نعومة أظافره مال إلى الأدب والشعر، وكان متأثرًا بالحركة الثقافية والفكرية التي شهدتها البلاد في فترة الستينات.

عقب تخرجه في جامعة الخرطوم، التحق محمد المكي إبراهيم بوزارة الخارجية السودانية عام 1966، وظل يعمل في الوزارة حتى استقالته عقب انقلاب الإنقاذ الذي قاده الرئيس عمر البشير  الذي أطاحت به الثورة السودانية. عقب استقالته من وزارة الخارجية توجه الشاعر إلى خارج البلاد، حيث واصل عمله الأدبي والفكري من المنافي.

مسيرته الشعرية

عرف محمد المكي إبراهيم بشعره الثوري الذي عكس آمال الشعب السوداني في التحرر والتغيير، فضلًا عن الجماليات العذبة الناجمة عن التنوع الثقافي والعرقي في السودان. كانت قصائده تنبض بروح المقاومة ضد الأنظمة القمعية وضد الاستعمار، وقد شكلت جزءًا مهمًا من التراث الأدبي السوداني.

في الستينات، ظهرت أولى قصائده في الصحف والمجلات الأدبية السودانية، وكان ذلك بداية انطلاقه في عالم الأدب. تميز شعره منذ البداية بالاهتمام بالقضايا الوطنية والإنسانية، وكان يعكس تجارب المجتمع السوداني وآماله وأحلامه.

تُقدم أعماله الكاملة التي نشرت مجمعة في عام 2000، رؤية فلسفية وشاعرية لتاريخ السودان وثقافته. في شعره وكتابته الفكير يستحضر "ود المكي" التراث السوداني القديم، ومن أشهر تلك القصائد:

  • أمتي 1968
  • بعض الرحيق أنا والبرتقالة أنت 1972
  • يختبيء البستان في الوردة 1984
  • في خباء العامرية 1988

تأثيره في الساحة الأدبية

كان محمد المكي إبراهيم أحد رواد "مدرسة الغابة والصحراء"، التي تأسست كرابطة ثقافية في جامعة الخرطوم عام 1962، وضمت بعض طلاب الجامعة وخريجيها وفي طليعتهم النور عثمان أبكر، والشاعر الكبير محمد عبدالحي. كانت هذه الحركة تسعى إلى دمج الهويتين الأفريقية والعربية في الشعر السوداني، حيث أراد شعراء الحركة التعبير عن الازدواجية الثقافية التي يعيشها السودانيون نتيجة لتأثيرات التراثين العربي والأفريقي.

استلهم محمد المكي إبراهيم من الثقافة السودانية والشعر العربي التقليدي، ولكنه في نفس الوقت تأثر بالتيارات الفكرية المعاصرة، مما أضفى على شعره طابعًا خاصًا جعله متميزًا بين أقرانه

من خلال شعره، قدم المكي إبراهيم نموذجًا للشاعر الذي يمزج بين التراث المحلي والحداثة العالمية. لقد استلهم من الثقافة السودانية والشعر العربي التقليدي، ولكنه في نفس الوقت تأثر بالتيارات الفكرية المعاصرة، مما أضفى على شعره طابعًا خاصًا جعله متميزًا بين أقرانه.

بين الشعر والسياسة

إلى جانب دوره الأدبي، كان محمد المكي إبراهيم نشطًا في الساحة السياسية وصوتًا قويًا في الدفاع عن حقوق الإنسان والديمقراطية في السودان. لم يكن يفصل بين الأدب والسياسة، بل كان رأى في الشعر وسيلة للتعبير عن القضايا السياسية والاجتماعية التي تهم الشعب.

وعلى الرغم من محبته العميقة لوطنه السودان التي تبدت في كل قصائده، إلا أن محمد المكي إبراهيم قضى جزءًا كبيرًا من حياته في المنفى بسبب مواقفه السياسية. عاش في العديد من البلدان، لكنه لم يتوقف عن الكتابة والنشر، وظل دائمًا مرتبطًا بالسودان وبقضاياه، وتشهد على ذلك مئات المقالات في الصحف والمجلات المحلية والعالمية.

عقب انتصار الثورة السودانية، كتب عن الصراع الذي يدور في السودان بين المجلس العسكري وقوى الثورة الشعبية، واصفًا إياه بالصراع الوهمي من حيث منابعه ومسبباته ومن حيث مآلاته.

وفاته في القاهرة

توفي محمد المكي إبراهيم بأحد مستشفيات الشيخ زايد في القاهرة، قبيل ساعات من فعالية شعرية كان سيحييها للسودانيين الذين اضطرتهم الحرب القائمة في البلاد إلى اللجوء فيها. كان الخبر صادمًا، وتوالت على مواقع التواصل رسائل التعزية والتعبير عن فداحة الفقد. بوفاة محمد المكي إبراهيم، فقد السودان أحد أعظم شعرائه، ولكن إرثه الأدبي سيظل خالدًا في ذاكرة الأجيال.

في تغريدة نادرة نعاه رئيس مجلس السيادة الانتقالي عبدالفتاح البرهان بأبيات من قصيدته "من غيرنا"، سائلًا الله أن يتقبل "رائد القصيدة الثورية، الشاعر محمد المكي إبراهيم".

يمثل محمد المكي إبراهيم صوتًا قويًا ومؤثرًا في الأدب السوداني والعربي. تميز شعره بقدرته على المزج بين التراث والحداثة، وبين المحلية والعالمية، مما جعله واحدًا من أبرز شعراء جيله. وعلى الرغم من رحيله، سيبقى شعره حاضرًا في وجدان الأجيال القادمة، وسيظل محمد المكي إبراهيم رمزًا للشاعر الملتزم بقضايا أمته وبهموم شعبه. بهذا الرحيل، يخسر السودان واحدًا من أعمدته الثقافية، لكن أعماله ستبقى شاهدة على مسيرة إبداعية استثنائية ما تزال تلهم السودانيين.