31-أغسطس-2019

ما زالت قضية أموال السعودية والإمارات التي تسلمها البشير غامضة (تويتر)

المكان نفسه، معهد التدرييب القضائي بالخرطوم، العاصمة غارقة في الصمت، والبيوت لا تزال تتنفس في نومها. كان كل شيء ينبئ بأن هذه الجلسة تحديدًا سوف تفض الغموض عن شخصية الرئيس القابع وراء الجدار الحديدي. على ما ظل رائجًا طوال الأيام الماضية، إلا أن المتهم قرر أن يتكلم أخيرًا، ويفصح عن نبرات صوته، التي ألفها الشارع السوداني، وقد اكتشفنا للتو أن الرجل لا زال يحتفظ بذاكرته، ولا يريد أن يتحمل مسؤولية الاتهامات الموجهة إليه وحده فقط، دون الآخرين، بما فيهم ولي العهد السعودي محمد بن سلمان.

وجه القاضي حديثه للبشير قائلًا إنني "أتهمك بأنه ضبط داخل منزلك مبلغ 6.9 مليون يورو و351,770 دولارًا و5.7 مليون جنيه سوداني، حزت عليها من مصدر غير مشروع، وتصرفت فيها بطريقة غير مشروعة

داخل قاعة المحكمة ذي الإضاءة الخافتة، جلس القاضي الصادق عبد الرحمن الفكي وقد اكتسى رأسه بالشيب الوقور، متفحصًا الوجه، بما فيهم وجه المتهم الجالس قبالة عدالته، وقد ألهب جعفر بانقا أحد قادة الدفاع الشعبي الأجواء بالهتاف "حسبنا الله ونعم الوكيل" بمجرد دخول الرئيس السابق، وصاحت إحدى النساء "إنه الأسد، انظروا إليه" بينما انزوى الحضور وهم يتأملون البشير داخل القفص بلا أي ألقاب فخيمة، وهم لا يصدقون.

اقرأ/ي أيضًا: محاكمة البشير.. ملهاة فض الاعتصام وإخفاء وجه السلطة العسكرية

غياب شهود الاتهام

كانت الجلسة لسماع شهود الاتهام، العميد الركن علاء الدين محمد عثمان، والمقدم هيثم، لكن التحاق الشاهد الأول بدورة خارجية في مصر، وتواتر إفادة الثاني مع بقية الشهود، عجل بإغلاق قضية الاتهام، واستجواب البشير. ونتيجة لذلك طلب ممثل الدفاع أبوبكر هاشم الجعلي من القاضي منحهم عشرة دقائق مع موكلهم، إلا أن القاضي رفض الطلب، ورد عليهم بأنهم جلسوا ما فيه الكفاية مع المتهم عمر البشير، ومضى القاضي أكثر من ذلك في صرامة، رافضًا إطلاق سراح المتهم بالضمانة المالية، لعدة أسباب، منها مواصلة إجراءات المحاكمة، والتحوط لعملية هروب ممكنة.  

وقف البشير ليدلي بشهادته، لأول مرة على مرأى من الناس منذ الإطاحة به، وقال إنه بمجرد أن اتخذ الفريق عوض بن عوف، نائبه السابق، قراره بالانقلاب عليه، كانت الحراسة من قوات الدعم السريع حاضرة، التي يرأسها الفريق محمد حمدان دقلو، وقد اتصل باللواء عبد الرحيم قائد ثان في الدعم السريع، وطلب منه أخذ الأموال، التي أرسلها له محمد بن سلمان، بصفته الشخصية، وأرشده إلى مكان الأموال داخل غرفة جانبية ملحقة ببيت الضيافة.

حقيقة أموال ابن سلمان

وأوضح البشير أن أموال ابن سلمان وهى ما يعادل (25) مليون دولار، جاءت عبر مندوب شخصي، وتسلمها مدير مكتبه حاتم حسن بخيت، وأضاف أنها "أرسلت لنا بطائرة خاصة". 

وفي رده على سؤال قاضي المحكمة عن سبب عدم إيداعها خزانة "بنك السودان" أفاد البشير أنّ البنك كان سيسأل عن مصدر تلك الأموال،  مضيفًا: "لم نفعل ذلك لأن ابن سلمان طلب عدم ذكر اسمه"، مؤكدًا أنه لا يتذكر التاريخ الذي أُرسل فيه المبلغ. وأقر بأنه صرف بعض الأموال محل الاتهام على السلاح الطبي، وجامعة أفريقيا وقناة طيبة". وتمنى لو كانت المحكمة سرية حتى لا يُذكر اسم محمد ابن سلمان، بناءً على رغبة الأخير، لافتًا إلى أنه فضل عدم إرجاع الأموال لصاحبها، حتى لا يتسبب في حرج مع السعودية، ورمى بالكرة في ملعب قوات الدعم السريع التي تقاتل مع الجيش السوداني في اليمن، منبهًا إلى أنّه سلّم تلك القوات "خمسة ملايين يورو"، ووصف اهتمام السودان بالمملكة العربية السعودية، بالاهتمام الخاص، رغم أن العلاقة مرت بفترات توتر، لكنها بعد ذلك أصبحت متميزة، واستراتيجية، وقال البشير إن ابن سلمان حدد لمدير مكتبه حاتم بخيت، أوجه صرف هذه الأموال، بعيدًا عن الدولة، أي لأغراض ومهام خاصة، معتبرًا أن إرجاع حقيبة الأموال إلى السعودية سوف يكون له آثار سالبة، وفقًا لتقديراته.

تبرئة عبد الحي يوسف

عطفًا على ذلك اعتبرها هدية شخصية، على أن توضع في بيت الضيافة، ويتم التصرف فيها بناءً على توجيه الأمير محمد بن سلمان، وحاول البشير تفصيل أوجه صرف المبلغ، مشيرًا إلى ثلاث جهات، قناة طيبة الدينية، وجامعة أفريقيا، وقوات الدعم السريع، وقال البشير بصريح العبارة: "لم أتصرف في المبالغ التي سلمني لها محمد بن سلمان لأغراض شخصية" .

وفي مرافعة بدت كما لو أنها محاولة لتبرئة الشيخ عبد الحي يوسف مالك قناة طيبة، نفى البشير دعم عبد الحي، وقال إنه دعم القناة، لأنها تقوم بدور كبير في خدمة الإسلام، خاصة في أفريقيا، أما جامعة أفريقيا فهي أيضًا تقوم بخدمة علاقات السودان الخارجية، ويعمل الطلاب الذين تخرجوا منها وأصبح لديهم نفوذ في بلدانهم، على خدمة قضايا السودان بصورة إيجابية، مؤكدًا أن بحوزتهم كل الأدلة والوثائق على المبالغ المصروفة، وأضاف أن قوات الدعم السريع أخذت جزءًا من المبلغ لأنها كانت تقوم بشراء المشتقات البترولية، وتوفير سلعة مهمة، وبالتالي فهي في حاجة للعملة الأجنبية.

قصة شركة سين

دافع البشير عن منح شركة سين للغلال بعض من تلك الأموال، مبررًا بأن الشركة تقوم بشراء الدقيق، وتحتاج إلى العملة الأجنبية، ولفت إلى أنه قام بتوجيه الأجهزة الأمنية بدعم الشركات الكبرى مثل "سين للغلال، وسيقا"، مشيرًا إلى أن مدير شركة سين جاء معترضًا بأن شركته تغطي نحو 44% من احتياجات البلاد بينما تغطي سيقا 20% فقط، ومع ذلك تحصل على 15 مليون دولار، وتحصل سين على 7 مليون درهم، ونتيجة لذلك وفر البشير لسين الدعم بالدولار، مقابل العملة السودانية، في محاولة تعديل الكفة.

هنا بدأت الأسئلة تتناسل، عن الكيفية التي يستبدل بها مدير شركة سين عملة أجنبية بعملة سودانية، ومن هو المستفيد من فارق العملة، خصوصًا وأن الدولار سجل ارتفاعًا كبيرًا في السنوات الأخيرة مقابل الجنيه السوداني. غير أن البشير ذكر أنه وعد طارق سر الختم بتوفير ما يقابل نحو 5 مليون جنيه سوداني، باليورو، واعتبر البشير أن المبلغ الذي وفره لصاحب شركة سين، وهي شركة خاصة، ليس مقابل عملة سودانية، وإنما دعمًا للشركة، وقبل توفير الدعم اندلعت الأحداث، في إشارة إلى الاحتجاجات التي أطاحت به، وانحياز المؤسسة العسكرية لمطالب الشارع.

جاءت هذه الإفادة تقريبًا من البشير لتبرير تواجد أكياس من شركة سين للغلال في بيت الضيافة عليها عملة سودانية كانت قد عثرت عليها النيابة، وخلص البشير إلى معلومة مهمة، بدت كأنها المرافعة الأخيرة: "أنا لا أتعامل بالنقد الأجنبي، لا أبيع ولا أشتري" .

حوار بين القاضي والمتهم

عندما عرض القاضي، ذات الحقيبة الفضية التي عرضها على شهود الاتهام في الجلسة السابقة، وقال له: هل هذه هي الحقيبة التي كانت بداخلها الأموال؟ أجاب البشير: "تقريبًا ولكن لا أتذكر". سأل القاضي المتهم كذلك، إلى ماذا تتبع شركة سين؟ فأجاب البشير: سين شركة خاصة، طارق مديرها، ولكن لا أعرف بقية الشركاء. سأله القاضي مجددًا، ما علاقتك بطارق سر الختم؟ فرد البشير باختصار "متزوج قريبتنا".

وهنا دار حوار بين القاضي والمتهم، حول عدم وضع الأموال في خزينة البنك المركزي، فأجاب "لأنها أموال خاصة، والذي أرسلها لم يكن يريد أن يعرف أحد حقيقته"، في إشارة إلى محمد بن سلمان. وعندما سأله القاضي: بالنسبة لطارق كيف تتحول هذه الأموال من عملة أجنبية إلى عملة سودانية؟ فقال البشير: "بالنسبة لشركة سين، (فإن) لديها وفرة من العملة المحلية لأنها تبيع الدقيق للمخابز". لكن الرئيس المخلوع الذي ربما بوغت بسؤال عن صيغة الاستبدال من الجنيه إلى الدولار أجاب مدافعًا عن سر الختم: "لم نعمل مخالصة، فهو يحول للموردين، ولا يقوم ببيعها في السوق".

شيك خليفة بن زايد

المثير في الأمر أن البشير أشار إلى شيك مالي منحه له خليفة بن زايد حاكم الإمارات، ولم يستفسره القاضي عنه، بنفس الطريقة التي تمت بها معاملة سين، ربما لأن الرئيس المخلوع حدد الشيك بمبلغ مليون دولار، قائلًا "كان باسمي، ولا أذكر أين ذهب، لم أمنحه لأي شخص، أو أطلب من أحد التصرف فيه"، مضيفًا أن رصيد الشيك المالي موجود في الإمارات، وعلى إثر ذلك جرى الحوار التالي بين القاضي والبشير.

لماذا لم تذهب بالأموال التي منحت لك إلى الخزينة العامة في البنك المركزي؟ فقال البشير "لأنها أموال خاصة". فأردف القاضي بسؤال آخر: ما المشكلة في أن تودعها البنك؟ قال البشير: "هذه رغبة ولي العهد السعودي، لم يكن يريدها أن تظهر باسمه، لأن البنك سوف يطلب مصدر الأموال، وهو مبلغ كبير 25 مليون دولار".  سأله القاضي مجددًا: متى كان ذلك؟ رد المتهم: لا أذكر التاريخ.

إقرار ذمة للبشير

وجاءت تفاصيل المبالغ التي تبرع بها البشير من تلك الأموال، على النحو التالي: "5 مليون دولار للدعم السريع، 4 مليون دولار لجامعة أفريقيا، 2 مليون دولار للسلاح الطبي". ولم تتوقف عملية استجواب المتهم من قبل القاضي هنا، وإنما سأله متى كان ذلك؟ فأجاب: "قبل انتخابات 2010". وذكر أنه كان مطلوبًا من رئاسة الجمهورية تقديم إقرار ذمة، وقدمته. أراد القاضي التأكد وسأله: هل عملت إقرار ذمة بالمبلغ؟ فرد البشير بالإيجاب، فسأله القاضي مرة أخرى: هل يتم إقرار الذمة بصورة دورية؟ أجاب البشير "لا ليس دوريًا".

اقرأ/ي أيضًا: هل سحبت واشنطن الملف السوداني من الرياض وأبوظبي؟

الشاهد الهارب

في هذا الوقت كان بندول الساعة يتأرجح يمينًا ويسارًا على الحائط. انقطعت نحو عشر دقائق، والقاضي منهمك في الكتابة ونقل البينات ومقارنتها. وقبل أن يوجه الاتهام للبشير، رفض طلب إطلاق سراحه بالضمانة المالية، وقطع الطريق أمام هيئة الدفاع التي طلبت شهادة مدير مكتب الرئيس السابق حاتم حسن بخيت، ومدير شركة سين للغلال طارق سر الختم، وآخرين لم تسمهم، لكن القاضي طلب تسمية شهود الدفاع الآخرين، أو ايداع كشف بأسمائهم قبل جلسة السبت المقبل. ووصف القاضي "طارق سر الختم بالهارب وفقًا لبيان التحري"، إلا أن الدفاع ممثلًا في المحامي أبوبكر هاشم الجعلي قال إن سر الختم موجود، ولم يهرب، معتبرًا أيضًا أن موكله غير مُذنب، لأنه كان رئيسًا للحكومة، وقد خوله الدستور الانتقالي لسنة 2005 أن يكون المسؤول الأول عن العلاقات الخارجية، ويقدر شؤونها وفقًا لطبيعة التعامل مع الرؤساء وعطاياهم، وزاد بالقول: "لم يطلب موكلنا المبلغ المرسل إليه"، لكنه قدر أن لا يرفض المبلغ المالي، وفوق ذلك لم يستخدمه لأي غرض شخصي، أو اعتبرها هدية، عوض أنه لم يتعامل بالبيع والشراء في النقد الأجنبي.

أوضح البشير أن أموال ابن سلمان وهى ما يعادل (25) مليون دولار، جاءت عبر مندوب شخصي، وتسلمها مدير مكتبه حاتم حسن بخيت، وأضاف أنها "أرسلت لنا بطائرة خاصة"

المحكمة تتهم البشير

قبل أن ترفع الجلسة لسماع شهود الدفاع وجه القاضي الصادق عبد الرحمن حديثه للبشير قائلًا إنني "أتهمك بأنه ضبط في 16 نيسان/أبريل 2019 داخل منزلك مبلغ 6.9 مليون يورو و351,770 دولارًا و5.7 مليون جنيه سوداني، حزت عليها من مصدر غير مشروع، وتصرفت فيها بطريقة غير مشروعة، وقمت باستلامها بطريقة غير مشروعة". ووجهت له تهم الثراء الحرام والتعامل بالنقد الأجنبي، لكن هذا القضية المتشعبة، والسهلة أيضًا كما يردد أعضاء هيئة الدفاع، إن لم يتم تبرئة البشير منها، ربما أخذت منعطفًا جديدًا، ليس أقل من فتح قضايا تخابر، واستلام أموال من جهات خارجية، دون وجه حق، وهو أمر إن حدث بالفعل ربما يتسبب في حرجٍ بالغ للمجلس السيادي، الذي يحظى بدعم السعودية والإمارات.

 

اقرأ/ي أيضًا: 

ورطة البشير بين المذهب المالكي وعقيدة بوتين.. من يكاتب الجنرال في سجن كوبر؟