الفردانية التي اتسم بها نظام الرئيس عمر البشير في مرحلته المتأخرة لم تقتصر على صناعة القرار السياسي وحدها، وإنما كامل النخبة السياسية السودانية. تلخصت برامج الأحزاب السياسية وقيادتها في رؤسائها. إمام طائفة الأنصار الصادق المهدي -رئيس الوزراء السابق في حقبتين- يسيطر على حزب الأمة، والسيد محمد عثمان الميرغني زعيم الطريقة الختمية يظل متمسكًا بزعامة الحزب الاتحادي الديمقراطي، فيما لم يشكل انتفاء عنصر الطائفية مانعًا من سيطرة الحرس القديم من اللينينيين الاستالينيين على الحزب الشيوعي بعد وفاة سكرتيره التاريخي محمد إبراهيم نقد، وفي النماذج البديلة التي مثلت تهديدًا لهذه النخبة كان المصير مماثلًا.
انتهت الحركة الجمهورية وفلسفتها الطموحة بفصل الدين عن الدولة عبر تقديم نموذج تجديدي للإسلام بإعدام مفكرها محمود محمد طه قبل أسابيع من انتفاضة ١٩٨٥، وفي جنوب البلاد إنهار شعار "السودان الجديد" الموحد العلماني التعددي الذي يتسع لكل ثقافات السودان وقبائله ودياناته بسقوط مروحية العقيد جون قرنق في الأدغال التي لطالما قاد تمرده منها بعد أقل من شهر على نيله منصب نائب الرئيس الذي قاتله حتى قبل وصوله إلى السلطة، وتحولت الحركة الشعبية لتحرير السودان في عهد خلفه سلفاكير ميارديت من حركة تحرر وطني إلى حزب توتاليتاري متفرد بالسلطة تسيطر عليه قبيلة الدينكا وصار جنوب السودان مسخًا مستنسخًا من المستعمر السابق في الشمال.
الفوضى عارمة في السودان بشكل مأساوي. تفككت أجهزة الدولة ومؤسساتها فيما احتفظ النظام بقوة قبضته الأمنية وآلته العسكرية وحدها
فقدان حزب المؤتمر الوطني الحاكم لشرعيته والفراغ الذي أصاب خطابه الأيديولوجي مع سقوط "المشروع الحضاري" لم يجعل من النظام لقمة سائغة لمعارضيه، فأولئك تصدعت شرعيتهم هي الأخرى عندما تصدت "القيادات التاريخية" للأجيال الجديدة داخل الأحزاب في مجتمع يتسم بالـAgeism أو التمييز العُمري ضد الشباب.
اقرأ/ي أيضًا: السودان وإسرائيل.. المصالح المشتركة للأعداء
دفع ذلك العديد من شباب الأحزاب الساخطين إلى تكوين أجسام سياسية توافقية غير أيديولوجية في حركات التغيير الاجتماعي: "التغيير الآن" و"قرفنا" إضافة لمنظمات المجتمع المدني التي فشلت بعد دعواتها للموجات الثورية الموؤودة في إسقاط النظام أو حتى نشر برامجها السياسية على نطاق واسع لتقديم بديل مقنع وخطوات عملية لتطبيقه.
تتردد دائمًا في مناشط المجتمع المدني السوداني كل تلك الشعارات الرائعة: النظام الديمقراطي، حرية الرأي والتعبير، فصل الدين عن الدولة، التعددية، حقوق الإنسان، حقوق المرأة…الخ. دون أن تتغلغل هذه الشعارات بين الطبقات الدنيا لمجتمع يبحث أكثر من نصفه عن لقمة العيش تحت خط الفقر. مع استمرار استهداف المدنيين العزل في دارفور وكردفان والنيل الأزرق من قبل آلة الحرب.
الفوضى عارمة في السودان بشكل مأساوي. تفككت أجهزة الدولة ومؤسساتها فيما احتفظ النظام بقوة قبضته الأمنية وآلته العسكرية وحدها. تكاد الخدمات تنتفي في الأرياف مع رداءتها في العاصمة التي نزح إليها أغلبية السكان. فيما لعب عمر البشير لعبته الخطيرة التي هشمت الثقة بين السودانيين.
تتمثل قدرة أي مجموعة بشرية على إدارة نفسها عندما تتوافق مصالحها وتجتمع لخلق سياسات مشتركة قائمة على عاملي السلم الأهلي والإيمان بضرورة العيش المشترك، وفيما استمرت السياسة السودانية في اللعب على وتر القبيلة. صار من غير المتوقع أن توافق النخبة الحاكمة من قبائل الجعليين والشوايقة والبديرية وغيرهم من المجموعات الناطقة بالعربية القبول بزعيم سياسي من الزغاوة أو النوبا أو الفولاني، فعندما تقسم السرديات الشعبية المجتمع إلى "عبيد" و"أولاد عرب" يصبح من المستحيل الحديث عن التعددية العرقية كمصدر قوة للمجتمع.
لا يمكن للسودانيين أن ينسوا عمليات الغياب الأمني التي صاحبت أعمال العنف من قبل الجنوبيين في الخرطوم والتي تلت اغتيال جون قرنق. كانت مخازن أسلحة الشرطة موصدة أمام الجنود وصار من المنطقي أن السودان لن يتوحد بعد ذلك اليوم عندما خرج الاقتتال بين الجنوبيين والشماليين من ساحات المعركة إلى شوارع الخرطوم.
اقرأ/ي أيضًا: جنوب السودان.. صراع متجدد في دولة هشة
الأمر نفسه في دارفور التي انهار فيها الوضع الأمني وتحولت كل قبيلة إلى مليشا مسلحة بحد ذاتها. وصار الكرت الرابح لعمر البشير هو "فرق تسد" والرهان على أن الشماليين لن يخرجوا بشكل حقيقي وحاسم ضد البشير خوفًا من سردية سيطرة الغرّابة -القادرين على ذلك ديموغرافيًا- إلى القصر، ولن يتوقع أحد أن يكون انتقال السلطة لشريحة إثنية جديدة سلميًا دون حمام دم.
في دارفور انهار الوضع الأمني وتحولت كل قبيلة إلى مليشا مسلحة بحد ذاتها. وصار الكرت الرابح لعمر البشير هو "فرق تسد"
على الجانب المؤسساتي يقف واقع عسكري يعزز من هذه الفرضية. في الثمانينيات كانت الحشود الخارجة إلى الشارع تواجه فقط جهازي الشرطة والقوات المسلحة. فيما كانت الحركة المتمردة الوحيدة بعيدًا في أدغال الجنوب. لم يعد الواقع كذلك في 2016. هناك ثلاث حركات مسلحة رئيسية في دارفور إضافة إلى عصابات النهب المسلح والجنود القبليين، والحركة الشعبية - قطاع الشمال تسيطر على منطقة حكم ذاتي في ولايتين حدوديتين.
لكن هذا هو العامل الأقل بساطة ففي المحصلة النهائية يمكن الاتفاق مع هذه الحركات المسلحة على هدف إسقاط النظام. إلا أن النظام نفسه لم يعد معتمدًا على قوات نظامية واحدة: القوات المسلحة التي تضم النخبة الحاكمة يصاب ضباطها بالتململ حيال انحسار نفوذها وقلة عتادها في مقابل جهاز الأمن والمخابرات الوطني الذي تحول في السنوات الأخيرة إلى قوة نظامية لها سلاحها الخاص وصلاحياتها التي تفوق في بعض مناطق العمليات نفوذ الجيش السوداني نفسه.
أضف إلى ذلك المحاولة البائسة من عمر البشير لاستقطاب حلفائه من مليشيات الجنجويد سيئة السمعة، والتي لطالما كانت اليد المنفذة لعمليات التطهير العرقي في دارفور وتحويلها إلى مليشيات نظامية، تحت مسمى قوات الدعم السريع بقيادة أبرز رموز قبيلة الرزيقات محمد حميدتي.
تلك القوات التي ترقى في أفضل الأحوال إلى مرتبة العصابات الإجرامية، وإذا كان انفصال الجنوب ونهاية حقبة الجهاد المقدس قد مثلا نهاية لقوات الدفاع الشعبي -النموذج السوداني للحرس الثوري الإيراني- فإن مقاتليه السابقين من المحتفظين بشعارات الإسلام السياسي إضافة إلى ما تمثله الخرطوم من حاضنة فكرية لمعتنقي السلفية الجهادية يمثلون فزاعة لطالما أثيرت حولها الشائعات بوجود جناح محلي لتنظيم القاعدة، ولاحقًا داعش. في نظام ساهم بشكل أساسي في دعم حركة شباب المجاهدين الصومالية وبوكو حرام في نيجيريا.
اقرأ/ي أيضًا: السودان.. صلوات من أجل اللصوص
فيما يتعلق بمصير الرئيس البشير نفسه يمكن القول إنه في موضع لا يحسد عليه رغم استحواذه التام على السلطة. الانهيار المستمر للاقتصاد وتفشي الفساد يضعنا أمام صورة قاتمة للمستقبل. يوقن عمر البشير ذلك. في لقائه مع صحيفة الواشنطن بوست حكى لي زميلٌ كان يحضره كمترجم أن البشير رد بسخرية في هامش اللقاء على سؤال حول تراجعه عن قرار عدم ترشحه للرئاسة مجددًا في 2015 بالقول: "وهل هذه بلد يرغب أحد في أن يحكمها؟".
قد يتمكن السودانيون من التخلص من دكتاتورهم، هو لن يعيش أكثر مما عاش، لكن التركة الكارثية التي ستتبعه لا تدفع أبدًا إلى التفاؤل
البشير لا يرى أن ما حدث هو نتيجة للسياسات التي مارسها خلال حكمه الطويل، بل عيبًا خلقيًا في تكوين السودان. لكنه بالطبع لا يستطيع تخيل مصير أفضل له خارج مكتبه في القيادة العامة. مع شعبيته المتدنية داخليًا وخارجيًا وعدم ثقة المانحين الخليجيين فيه مع تاريخ طويل من التحالف مع إيران، والأهم تلك المذكرة الصادرة من المحكمة الجنائية الدولية في لاهاي والتي رغمًا من فشلها مرارًا في إلقاء القبض عليه لمواجهة تهم الإبادة الجماعية وجرائم الحرب في دارفور، إلا أنها تظل شبحًا قائمًا ما إن يفقد سلطاته كرئيس للجمهورية. الأمر الذي يمثل دافعًا أكبر لاستمراره في السلطة حتى آخر يوم في حياته.
مع كل هذا التعقيد الجيوسياسي والإرث الاجتماعي الثقيل الذي يضرب في مقتل كل آمال التحوّل السياسي عبر انتقال سلمي للسلطة؛ أشعر دائمًا بالدهشة من الخطاب المتفائل الذي يتمتع به الكثير من المعارضين السياسيين السودانيين في نضالهم المحموم ضد نظام المشير عمر البشير.
قد يتمكن السودانيون في وقت قريب من التخلص من دكتاتورهم، فهو لن يعيش لزمن أكثر مما عاشه، ولكن التركة الكارثية التي ستتبعه لا تدفع أبدًا إلى التفاؤل بل إلى مزيد من الكوارث مع الأسف الشديد.
اقرأ/ي أيضًا:
بعد "تيران وصنافير".. حلايب وشلاتين نحو الجنوب
رؤية عن العلاقات العربية القرن أفريقية