منذ ليل الأربعاء الثامن عشر من تشرين الثاني/نوفمبر 2009، لم تعد العلاقة بين الشعبين المصري والسوداني كما كانت. إذ شكلت المباراة الفاصلة بين مصر والجزائر للتأهل إلى مونديال جنوب أفريقيا 2010، النقطة التي أتخمت إناء التوتر بين الشعبين ففاض، وأسهم الهجوم الإعلامي المصري على السودان، عقب المباراة، في تغذية خلافٍ ترك أثرًا لا أظنه يُمحى قريبًا من نفوس السودانيين.
العلاقة بين السودان ومصر، على المستوى الشعبي، معقدة للغاية، وليس كما تصوّرها بسطحية، الدعاية الرسمية في البلدين
في المبارة التي أهّلت الجزائر إلى المونديال بهدف عنتر يحيى، شجّع سودانيون كثر الجزائر، وهو عكس ما كانت تتوقعه مصر وهي تختار السودان كأرض محايدة لإقامة المباراة، في حين اختارت الجزائر تونس. ومن قبل المباراة ثم لأيام طويلة بعد انتهاء الحدث، ظلت أعلام الجزائر معلقة على السيارات والركشات "التوك توك" وأسطح بعض المنازل. لقد أخرجت المباراة ما كان دفينًا في علاقة شعبين كان يُظن فيهما الأخوّة.
لكن، لماذا شجع السودانيون –خلا قلة- الجزائر؟ وهل لو لعب ثعالب الصحراء ضد فريق آخر كانت ستجد هذا التشجيع الواسع؟ دارت الأسئلة بذهني وأنا أجلس، على وقع كوبي شاي، إلى صديقي المتوشّح بعلم الجزائر يوم المباراة، وهو يخبرني أن أكثر "دولة" يكرهها صراحةً هي إسرائيل "لكن لو لعبت ضد مصر فسأشجعها"!
إن العلاقة بين السودان ومصر، على المستوى الشعبي، معقدة للغاية، وليس كما تصوّرها، بسطحية، الدعاية الرسمية في البلدين، وهي تنثر بين طياتها عبارات "الأخوَّة، المصير المشترك، العلاقات الأزلية، النيل... إلخ"، فالأمر أعمق غورًا بكثير، وربما يعود في جزء كبير منه إلى ما رسخته فترة الحكم المصري للسودان (1821-1885) حين قادت الرغبة في امتلاك النيل حتى منبعه، محمد علي باشا، إلى احتلال السودان، وهي الرغبة التي أدت إلى أن ينظر الغزاة إلى السودانيين كفائض غير مهم إلا في حدود ما يمكن أن يدفعوه من ضرائب شاب تحصيلها سوء معاملة اختزنته الذاكرة الشعبية ونقلته الروايات الشفاهية جيلًا بعد جيل.
اليوم، وبفعل إعلام "خفيف"، يظن كثيرون في مصر أن السودان جزء من بلادهم "انفصل" قبل ستين عامًا عنها! لكن الحقيقة التي يدرسها كل سوداني منذ الابتدائية، هي أن مصر "دولة مستعمرة" احتلت بلادهم قبل قرنين تقريبًا، محطِّمة دولة سودانية حكمت أرض النيلين ثلاثة قرون متصلة، وفي ما عدا فترة استقلال قصيرة (1885 -1898) ظلت مصر تحتل السودان حتى استقلاله (1956) وإن ظلت تُحكم السيطرة على كنزها الأول في السودان، المياه، حتى بداية التسعينيات حين تمت تصفية "مكاتب الري المصري في السودان".
إن الأجيال الناجية من السيطرة الثقافية لمصر، بسبب أزمات التسعينيات بين البلدين، جاء منها مشجعو كرة القدم الذين حملوا أعلام الجزائر، وباعوا تذاكرهم للجزائريين ليصبح عددهم في المدرجات أكبر. هي أجيال منقطعة ثقافيًا عن مصر، فلا مسلسلات مصرية، ولا "بوجي وطمطم"، ولا مطبوعات "دار الهلال" كانت أمامهم وهم ينشؤون. هم الجيل الذي تابع الدراما السورية، وشاهد مدبلجات الكرتون الأردنية، واستمع لمغنين من العراق ولبنان وأمريكا، وقرأ الترجمات والروايات القادمة من المغرب العربي، والواحد منهم ممن يقع اهتمامه خارج كل هذا، لم يجد شيئًا مصريًا أمامه غير موروثات سلبية، وحكايات معاصرة تشيطن الآخر المصري، وقضايا عالقة "مثل حلايب" ينفخ فيها الإعلام المحلي لتقوية النزعة القومية.
في مباراة مصر والجزائر قبل ست سنوات، ربما اكتشف المصريون أن السوداني ليس "طيبًا جدًا" ولا تابعًا أعمى لمصر ومصالحها
إن ثمة رغبة تاريخية مختزنة في رد الصاع لما يُعدُّ شعبيًا "إهانات مصرية" بدءًا من قسوة القرن التاسع عشر وانتهاء بقضية حلايب وشلاتين، انفجرت هذه الرغبة أولاً في تشجيع الجزائر يومها، ثم بعدها بقليل في الموقف من أزمة مياه النيل المستمرة حتى اليوم.
في مباراة مصر والجزائر قبل ست سنوات، ربما اكتشف المصريون أن السوداني ليس "طيبًا جدًا" ولا تابعًا أعمى لمصر ومصالحها. واليوم، في ما عدا ولاء الجماعات الإسلامية لمصر وللإخوان المسلمين تحديدًا، لا تجد مصر تعاطفًا ذا بال في الشارع السوداني.
هل هناك حاجة لتقييم العلاقة بين الشعبين الجارين خارج إطار الصورة النمطية لكل منهما عن الآخر؟ من الواضح أن هذا مطلوب، لكن يظل في رأيي الانفكاك من ثقل التاريخ وتراكمات قرون من سوء الفهم، أو سوء النيَّة، صعبًا وبحاجة إلى حوار شجاع لا تتوافر له البيئة الملائمة في البلدين الآن. وإلى ذلك الحين، تظل الأحداث مثل المباراة الفاصلة، متنفسًا يمكن النظر منه أيضًا لاستكشاف ما يحدث حقًا بين "أبناء النيل".
اقرأ/ي أيضًا: