بعد سنوات فاقت الستين من إجلائهم للمستعمر الأجنبي عن بلادهم، وجد السودانيون أنفسهم في خضم حراك ثوري عظيم من أجل انتزاع حريتهم وكرامتهم من غاصب داخلي سام الشعب سوء العذاب وأفقره وأذله وانتهك حقوقه، بل لم يحافظ على وحدة البلاد ووزع الموت في جهات السودان الأربعة، وبإجرام أكبر في الجنوب قبل انفصاله، وكذلك في دارفور وجبال النوبة والنيل الأزرق وجنوب كردفان.
في نيسان/أبريل 2019، نال السودانيون حريتهم من نظام الجبهة الإسلامية البائد ودفعوا مهر ذلك دماءً زكية وأرواحًا غالية، ولكن هذا التحرر الجديد يحتاج إلى التوقف عنده أولًا، لدراسة ما حدث منذ أن صعد آخر جندي بريطاني القطار مغادرًا بلادنا في 1956م إلى يوم الناس هذا.
جرت العادة أن تستقبل الفعاليات الرسمية والشعبية ذكرى المناسبة العظيمة بمظاهر الاحتفال، وهو قطعًا منجز وطني كبير، ويستحق أن تفرد له مساحات الاحتفاء وتقام في ذكراه الكرنفالات
فقد جرت العادة أن تستقبل الفعاليات الرسمية والشعبية ذكرى المناسبة العظيمة بمظاهر الاحتفال، وهو قطعًا منجز وطني كبير، ويستحق أن تفرد له مساحات الاحتفاء وتقام في ذكراه الكرنفالات، إلا أنني أرغب في فتح مسار آخر يتمثل في التقييم العميق لمآل الحال بعد ما يقارب السبعة عقود من الحكم الوطني، علّنا نخرج بالبلاد من نفق التردي ودوامة الانحدار.
وفي هذا المنحى، أجدني أذهب إلى أن الرعيل الأول من رواد الحركة الوطنية – ذات الطبيعة السياسية – الذين انخرطوا في مقاومة الاستعمار من لدن جمعية اللواء الأبيض مرورًا بالخريجين وصولًا لتكوين الأحزاب ومن ثم إنجاز الاستقلال، هؤلاء قد وضعوا لبنات عملية سياسية لم تخل من النواقص والأخطاء، إلا أنها كانت قابلة للتطور بالممارسة والنقد والتصويب والإصلاح المستمر إن لم يُقطع عليها الطريق بلجوء البعض إلى خيار حرق المراحل بدلًا عن التدرج والرسوخ.
كما لا أتفق مع محاكمة تلك الحقبة وأولئك الرواد بمعايير ما توصلت إليه التجربة الإنسانية اليوم من حقوق ومفاهيم وتراكم معرفي وتقدم علمي وتكنولوجي، بل من الأوفق والأعدل أن تُقرأ الحركة الوطنية والتجربة السياسية السودانية في الفترة من 1924 إلى 1956م ضمن سياقاتها التاريخية والاجتماعية بما في ذلك مستوى ومعدلات التعليم آنذاك، مع الوضع في الحسبان أنها تجربة رغم نواقصها كان بإمكانها وضع السودان في طريق بناء الدولة وترسيخ المؤسسات وصولًا لنظام متوافق عليه لتداول الحكم، وتوزيع السلطات والثروات بعدالة، شريطة تعميقها باستدامة الممارسة، فليس هناك علاج لهشاشة التجربة الديمقراطية إلا بالمزيد من الديمقراطية، ويعود ذلك لأن النظام الديمقراطي يحمل أدوات الإصلاح في داخله من حرية تنظيم وتعبير، وضرورة الإنصات لصوت الشعب، بعكس الأنظمة الشمولية القابضة التي تمنع ضخ الدم في شرايين الدولة وتحبس عن رئتيها الأكسجين ولا نحصد إلا تكلسًا ومواتًا وهشيمًا تذروه الرياح.
الاستقلال والتحرر من ربقة الاستعمار هو إنجاز وطني كبير في تاريخ الأمم، ويستحق أن نحتفي به أيما احتفاء ونمجد ذكراه ونستلهم روحه، ولكن تجارب الحكم الوطني التي تلته أفقدت ذلك الحدث المهم كثيرًا من رونقه، حيث كان الفشل هو عنوانها الأبرز، وبلغ ذلك الفشل ذروته في نظام الإنقاذ البائد الذي تجلى فيه خطل تنظيم الجبهة الإسلامية، حيث جمع نظامهم البؤس من أطرافه، وكان ثقيلًا على صدور السودانيين، وفادحًا وكالحًا لدرجة يرى فيها البعض أن مساوئ الاستعمار الأجنبي تقزمت أمامه وتضاءلت.
بعد إجلائه للمستعمر، اضطر الشعب السوداني إلى إنجاز ثلاث ثورات شعبية خلال فترة تزيد عن النصف قرن بقليل ضد حكام شموليين من بني جلدته، وهو مؤشر عظيم على أننا أمام شعب جبار تواق للحرية، ولن يتأتى لأحد أن يحكمه بالحديد والنار إلى ما لا نهاية، مهما بلغت آلته الباطشة من الخسة والدناءة كما كانت في عهد نظام الجبهة الإسلامية سيء الذكر، ولكن في ذات اللحظة – وإذا نظرنا من زاوية معاكسة – نجد أن قيامنا بثلاث ثورات شعبية خلال فترة قصيرة نسبيًا يعني فيما يعني أننا لم نحسم قضايانا الوطنية الكبرى بحيث نضع بلادنا في طريق الاستقرار والبناء والتنمية والتنافس الديمقراطي وفق قواعد متفق عليها، وليس من دليل أوضح على ذلك من عدم اتفاقنا على كيفية حكم البلاد وعدم انجازنا لدستور دائم يتم الاحتكام إليه والالتزام به لتحقيق الاستقرار والتطور المنشود.
بعد كل هذه السنوات التي ضاعت من عمر الوطن بعد استقلاله بسبب الأنظمة الشمولية، من المؤكد أن ثورة ديسمبر المجيدة أكثر عمقًا من سابقاتها، فهي ليست ذات صبغة مركزية بحته وإنما شملت بل بدأت وانتظمت في كل أقاليم السودان، كما أنها رفعت معدلات المشاركة السياسية لمستوى غير مسبوق، وأظهرت أجيال الشباب من صانعيها وعيًا وتمسكًا كبيرًا بأهدافها، كيف لا وهم من قاموا بحراستها ومنعوا اختطافها بعد واجهوا آلة ضخمة من تحالف المال والسلاح، وأجبروا كل اللاعبين المحليين والإقليميين والدوليين على الرضوخ لقوة إرادتهم وعظيم تصميمهم.
ليعلم السودانيون أن الطريق نحو ترسيخ الديمقراطية وإرساء قواعد الدولة المدنية التي شقوا حناجرهم بالهتاف من أجلها وعر للغاية، فهو مليء بالمتربصين من المتأسلمين الذين هزمهم الشعب شر هزيمة وقال فيهم كلمته، وكذلك من الدول الطامعة عبر وكلائها في الداخل أملًا منها في استنساخ تجارب اختطاف مجاورة، ويظل التهديد الأكبر قادمًا من نواحي التركة الثقيلة التي خلفها نظام الجبهة الإسلامية البائد وعلى رأسها وضع اقتصادي على شفا الانهيار، وشركات أخطبوطية خاضعة للأجهزة العسكرية، وإذا استطاع الشعب السوداني تخطي هذا المحك بتماسكه ووعيه، فإن ذلك سيكون بمثابة تذكرة عبور نحو الاستقرار وعدم الانزلاق في أتون الاحتراب والتفكك.
كما يظل السلام الشامل والعادل الذي يرد للمظلومين والنازحين وضحايا الحروب العبثية اعتبارهم وحقوقهم، والذي يجعل استمرار السودان الموحد أمرًا واقعًا - يظل مطلبًا ملحًا، وتحقيقه رهين بتقديم التنازلات من كافة الأطراف وإبداء المرونة اللازمة، ووضع معاناة المواطنين في مناطق الحروب وافتقارهم لأبسط أنواع الخدمات أمام كل اعتبار.
إن كانت العدالة الانتقالية ستحقق ما كان يصبوا إليه الشهداء فلنقدم لهم ذلك بكل شجاعة وحكمة
أخيرًا، كان شهداء الثورة المجيدة يحلمون بدولة الحرية والسلام والعدالة والديموقراطية والتنمية، وصعدت أرواحهم وهم يبحثون عن تلكم الغايات، فإن كانت العدالة الانتقالية ستحقق ما كانوا يصبون إليه فلنقدم لهم ذلك بكل شجاعة وحكمة، فالتجربة الإنسانية تضج بأوضاع كانت مشابهة لأوضاعنا، بل أن هناك شعوبًا مرّت بما هو أكثر تعقيدًا من أوضاعنا ونجحت في الانتقال واستدامة التحول الديمقراطي، فمن المؤكد أن شهدائنا الأبرار سيسعدون أيّما سعادة بعبور شعبهم نحو الدولة التي عملوا لها وذهبوا من أجلها، وسيحزنون أشد الحزن إن نحن انجررنا إلى صراع آخر باسمهم، وأجزم أنهم لو خيروهم في عليائهم فإنهم سيفضلون لشعبهم الحياة والتعليم والسير على طريق الرفاه، ولن يختاروا أبدًا أن يكون هناك مزيد من ضحايا الصراع السياسي في السودان.