محاطًا بـ (40) ألف فدان يقع مصنع سكر حلفا الجديدة بولاية كسلا شرقي السودان في الناحية الشمالية للمنطقة التي تشكلت في العام 1964 عندما تم تهجير آلاف السكان من شمال السودان بعد إغراق أراضيهم بالمياه لصالح إنشاء السد العالي الذي يغذي مصر بالكهرباء، بينما تتمدد أحزمة الفقر وانعدام الخدمات في القرى المشيدة من حوله، ويفتقر المواطنون للحد الأدنى منها، الأمر الذي يثير أسئلة لدى المواطن في تلك البقعة النائية عن الخرطوم مركز السلطة وعاصمة البلاد، حول مدى استفادتهم من المشاريع القومية، والتزام المصانع ومؤسسات الدولة بقواعد المسؤولية الاجتماعية.
يواجه آلاف السكان معدلات عالية من الفقر ومخاطر شح الغذاء وفقدان الخدمات بالمنطقة
تدهور إنتاج المصنع
وينتج المصنع الذي تم تشييده خلال حقبة حكومة الرئيس السوداني الأسبق الفريق إبراهيم عبود في العام 1963 (60) الى (70) ألف طن من السكر سنويًا، ورغم ذلك يواجه آلاف السكان معدلات عالية من الفقر ومخاطر شح الغذاء، كما أن المناطق المتناثرة حوله تتقطع بها السبل في موسم الأمطار إلى السوق الرئيسي ومقر المشفى العام، ويضطر السكان في بعض الحالات للبحث عن وسائل مواصلات تقلهم للعاصمة الخرطوم بحثًا عن خدمات علاجية لحالات مرضية تفتقر المنطقة إلى سبل علاجها.
اقرأ/ي أيضًا: وزير المالية.. بين معضلات القمح واشتراطات التمويل الدولي!
وقد ظل إنتاج المصنع ثابتًا غير أنه عرف التدهور خلال فترة حكم النظام البائد، حيث استفادت منه مجموعات محسوبة على الحزب الحاكم لتشكل طبقة اجتماعية في المنطقة وتجاهلت مطالب السكان في دفع استحقاقات المسؤولية الاجتماعية في بلدة تعاني من انعدام غرفة العناية المكثفة في المستشفى الحكومي بها.
وتنص البنود الاجتماعية التي شرعت عند بناء المصنع على تغذية القرى من محطاته الكهربائية التي تنتج طاقة رخيصة من مخلفات قصب السكر والتي تلتحم مع المحطات البخارية لإنتاج الكهرباء، وهي المحطة التي تعرضت إلى حريق هائل في آب/أغسطس الماضي وتكبدت خسائر بقيمة (1.6) مليون يورو لاستيراد معدات جديدة، وتكتمت الإدارة على الحادثة هربًا من المساءلة والمحاسبة.
ليست الطاقة وحدها هي التي حرمت منها الحكومة السابقة السكان، بل أن الأموال المخصصة للمسؤولية الاجتماعية تجاه مواطني المنطقة، ظلت المحلية تقوم باستلامها وإنفاقها على الدعاية السياسية لحزب المؤتمر الوطني، والذي لا يزال يسيطر على مفاصل القرار هناك، وفق شكاوى يجأر بها أهل المنطقة.
مصنع يدر ملايين الدولارات وسط مناطق فقيرة
ودفع انعدام فرص العمل آلاف الشبان في منطقة حلفا الجديدة إلى الهجرة خارج المنطقة والبلاد، لأن المصنع الذي يقع على تخوم مناطقهم لم يعلن يومًا عن توفر وظائف أو فرص عمل، كما أن أرباح المصنع وتبعيتها للحكومة المركزية عوضًا عن مساعدة سكان البلدة بالتنمية وتوفير سبل المعاش.
وتؤكد إحصائيات غير رسمية حصل عليها "ألترا سودان" أن المصنع لم يستوعب سوى (2%) من سكان المنطقة في الوظائف، ولعبت هيمنة الحزب الحاكم السابق دورًا كبيرًا في تحويله إلى "مستعمرة لصالح شبكات نافذة ".
وتكشف مستندات حصل عليها بعض أهالي المنطقة عن تمكن بعض المنتمين للحزب الحاكم البائد في المنطقة من تحقيق ثروات طائلة من عملهم في تجارة السكر، ويعتقد أهل المنطقة الذين تحدثوا لـ"الترا سودان" أن هذه القضية كانت تستدعي فتح تحقيق من الجهات القانونية وجهات المراجعة والتدقيق المالي الرسمية، لكن عوضًا عن ذلك تجاهل مسؤولو حزب المؤتمر الوطني البائد وفدًا من سكان المنطقة ذهب إلى العاصمة الخرطوم يحمل ملفات عن الفساد قبل سقوط النظام.
اقرأ/ي أيضًا: مجموعة أصدقاء السودان.. طوق نجاة أم رحلة تيه جديدة؟
غياب تام لمنظمات المجتمع المدني
ويشكل ضعف وغياب منظمات المجتمع المدني والأحزاب السياسية في المنطقة عبئًا كبيرًا على المواطنين، لجهة عدم قدرة مواطني المنطقة على إيصال أصواتهم، إذ إن الحكومة المحلية لا تتخذ أيًا من الإجراءات المطلوبة تجاه إدارة المصنع، ولا تلزم الجهات الاستثمارية بتطبيق البنود الاجتماعية.
وشكل مسؤولون حكوميون وأمنيون لوبيًا قويًا خلال العهد البائد قاموا من خلاله بفرض نقابة أتت بالتعيين والمحسوبية ودون انتخابات، على عمال مصنع السكر بحلفا الجديدة بحسب مرتضى بابكر الجاك الذي صرح لـ"لترا سودان" وقال "إن استرداد النقابة طريق شاق لأن النقابيين السابقين لن يتنازلوا عن الامتيازات التي حصلوا عليها سابقًا بسهولة.
ويرى الجاك وهو أحد الذين يقودون ثورة تفكيك النقابة الموالية للمؤتمر الوطني بمصنع سكر حلفا الجديدة أن "المئات من العمال سحبوا الثقة من النقابة الموالية للنظام البائد وتبقت خطوات عقد الجمعية العمومية لتشكيل نقابة منحازة للعمال لا للمسؤولين في المصنع".
قطاع خارج المراجعة المالية
وتضرب شركة السكر السودانية التي تدير مصانع السكر الحكومية سياجًا من السرية على أرباحها وموقفها المالي بحجب المعلومات عن وسائل الإعلام بما في ذلك خطة التوسع في الإنتاج، كما أن ضعف برلمان حزب الرئيس المخلوع السابق ساهم في جعلها خارج الرقابة وغير خاضعة لأعمال المحاسبة مثلها مثل بقية الشركات الكبيرة بالبلاد.
أثرت الأزمة الاقتصادية بشكل كبير على عمال المصنع وابتلع التضخم الرواتب التي لا تتجاوز (4000) جنيه للعمال في الوظائف المستدامة
وقد أثرت الأزمة الاقتصادية بشكل كبير على عمال المصنع وابتلع التضخم الرواتب التي لا تتجاوز (4000) جنيه للعمالة في الوظائف المستدامة-حوالي 50 دولارًا أمريكيًا- في الشهر أما العمالة الموسمية فتتقاضى نحو (2000) جنيه فقط.
ويقول المحلل الاقتصادي محمد إبراهيم لـ"الترا سودان" أن مصنع سكر حلفا الجديدة لم يقدم أي مساهمة في تنمية المنطقة بسبب الطريقة المتبعة في إدارته والتي لا تضع أي اعتبار لتنمية المواطن، حيث ظل مسخرًا لتوفير الأرباح للشركة الرئيسية، وتوزيعها في عهد النظام السابق على الدعاية السياسية والإنفاق البذخي والرواتب المهولة لرؤساء مجالس الإدارات والنثريات والمخصصات للمسؤولين بالمصانع، مشيرًا إلى أن طبقة اجتماعية لا تشبه المنطقة قد تشكلت من أرباح هذه المصانع، وقد لعبت دورًا في استمرارية انعدام التنمية بالمنطقة، ويضيف إبراهيم "مع سقوط النظام ينتظر مراجعة كل ذلك، والتحقيق الشفاف لمعرفة أين كانت تذهب عائدات المصنع ولماذا تفتقر المنطقة لأبسط الخدمات، ومن المسؤول عن عدم الإيفاء ببنود المسؤولية الاجتماعية".
اقرأ/ي أيضًا
فرنسا ماكرون ونادي باريس.. رهان "حمدوك" لإعفاء الديون
حروب الأرض في السودان.. مناجم الذهب عنصر جديد في خريطة الصراعات الممتدة