07-يوليو-2021

الشاعر الراحل "محمد طه القدال" (الشرق)

لم يجد الشاعر محمد طه القدال الذي رحل عن دنيانا، الأحد الماضي، بعد صراع مع المرض، أبدًا صعوبة في كتابة الشعر، فالشعر بالنسبة لـ"القدال" يمثل بحد ذاته رسالة سامية وشرف كبير يحمله على عاتقه يوميًا ويواظب عليه بمحبة، ورجاءً في حدوث التغيير الذي كان يحلُم به. ويشدد "القدال"، في حوارات صحفية، أن في نظم الشِعر "استجابة لمحفز خارجي والسودان مليء بالمحفزات".

يعد القدال أحد أبرز الشعراء السودانيين المعاصرين الذين كتبوا بالعامية وأسسوا مدرسة شعرية مميزة وفريدة

والقدال -الذي بدأت مسيرته الشعرية في نهاية الستينات من القرن الماضي- يعد أحد أبرز الشعراء السودانيين المعاصرين الذين كتبوا بالعامية وأسسوا مدرسة شعرية مميزة وفريدة، واشتهر بكتاباته ذات العمق السياسي وثقافته الواسعة وتوصيفه الشعري الصادق، ما أكسبه حُب وارتباط جمهور واسع- نعاه بأسى بالغ، قبل أيام، وشكل حضورًا خلال مراسم تشييعه.

ولد محمد طه القدال بقرية "حليوة" بولاية الجزيرة، وتوجه لدراسة الطب في جامعة الخرطوم، قبل أن يقطع تعليمه ويتجه لدراسة الإدارة العامة وينحاز للأدب. وتغنى بأشعار القدال العديد من الفنانين السودانيين، على رأسهم الفنان الراحل مصطفى سيد أحمد وفرقة عقد الجلاد الغنائية.

اقرأ/ي أيضًا: رحيل القدّال.. شاعر السودان الكبير

ويرى الكاتب الدكتور عبدالمنعم عبد الباقي، في مقال نشرته صحيفة الجريدة، قبل سنوات، أن "ارتباط القدال بمجتمعه وعيشه فيه واختلاطه به ينعكس في تأثّره بهذا الوسط وتأثيره فيه فاختيار مفردات ومواقف بعينها، تعتمد على الواقع وكيفية التعبير عنه، مثل شعر البادية المعروف بـ"الدوبيت"، تؤكد ارتباط القدال بهذا المجتمع وتؤصّل لجذوره الاجتماعية والشعرية، وتضعه في خانة المبدع المتصل بأهله والمنتمي إليهم منذ بداياته".

انطلاق من قاعدة راسخة

وعن بدايات تجربة القدال الشعرية يقول عبدالمنعم "انطلق القدال من قاعدة راسخة أعمدتها ما سبق من شعر، وأذن صاغية لمفردات واقعه، وعين لاقطة لمشاهد الحياة، وعقلٍ مميّزٍ فكّ به أسرار الماضي والحاضر وأغناه بالتجربة الذاتية فتسنّى له علمٌ تراكمي، وبذا لم ينفِ السابق ولكنّه أضاف إليه، واكتشف لغة جديدة وصوتًا جديدًا تُسوّر له مساحة خاصّة في المستقبل، لها استقلالها وأصالتها وديمومتها وخصوصيتها وبرغم جيرتها للأسوار الأخرى فلها باب كتب عليه "هذا نمط محمد طه القدال"".

وأسس القدال مدرسة شعرية فريدة عالجت النص الشعري بإبداع، عبر مفردات لغوية بسيطة واندماج مع ما يشهده ويسمعه، وفق لغات ولهجات مختلفة تشربها وعمل بها وسطر منها صورًا للواقع بهية وخلاقة، وألهم مُختلف الأجيال للتعرف عليها.

ويلفت الكاتب إلى أن شاعرية القدال تتمثل في "اختياره لمفردات تتجاوز المعنى المباشر فتصير رموزًا في حدّ ذاتها تنقل ما أراد توصيله بدقّةٍ عجيبة، فيها من الإغراب ما يجعل قلبك يخفق وروحك تُبعث من مواتها وتحتفل معه بالحياة. فالموازنة التي تبنّاها بين اللغة والشاعرية تتشابك وتشدّ بعضها بعضًا تخلق النّص الإبداعي، فالعمل المبدع يتجاوز اصطفاف الكلمات والمعاني والوزن والقافية والإيقاع وينفذ إلى كنه الإبداع من خلال التخييل".

وزاد عبدالمنعم أن الأهم في تجربة القدال هو "قدرته على الإمساك بكافة أطراف الشعرية وأدواتها من قدرة هائلة على التخييل وتصوير فنىٍّ مدهشٍ وتركيبٍ مدركٍ متماسكٍ لرموز الرسالة من مفردات ونظمٍ يجعل التذوّق الفني متعةً لا تُجارى ونافذةً للقارئ يرى من خلالها عالمه الغني بالمعاني والإشارات ويستنبط منها عوالم أخرى تزيده غنىً وفائدة".

هرم المقاومة الأدبيـــة

ينتمي القدال، الذي نعاه مجلس الوزراء السوداني، بالقول إنه لم يكن "مجرد شاعر عبر من تاريخنا، لكنه صاحب مشروع شعري وإنساني ووطني عظيم"، إلى زُمرة شعراء المقاومة الأدبية في السودان الذين عرفوا بمقاومتهم للأنظمة الديكتاتورية طوال فترة حياته عبر عطاء مبذول في قول كلمة الحق والوقوف ضد الظُلم -الأمر الذي كلفه التعرض للاعتقال المتكرر فيما مُنعت فرق الغناء من التغني ببعض أشعاره المُعارضة.

وتحفظ ذاكرة الشباب السوداني للشاعر الراحل، إسهاماته اليومية خلال ثورة ديسمبر المجيدة عبر مربعاته الشعرية التي أجادت توصيف المشهد الثوري بدِقة ومستوى أدبي رفيع ولغة جَذَّابة.

وتربط علاقة وطيدة بين شعراء ثلاثة؛ محجوب شريف ومحمد الحسن سالم "حميد" والقدال –علاقة الثُلاثي الذي جمعه رابط الانتماء الوطني والوجداني- شكلت هرمًا أدبيًا ومدرسة للمقاومة الشعرية، ظلت تخاطب الشعب السوداني عبر عقود من الزمان، ليُطلق البعض على القدال ورفاق دربه لقب "أعمدة الشعر السوداني المقاوم" الذي ألهم السودانيين طيلة العقود الثلاثة الماضية.

ويحكي القدال عن ارتباطه بالشاعر الراحل محجوب شريف، قائلًا: "محجوب مدرسة فريدة شعريًا وإنسانيًا لا يمكن تكرارها وما به من داء هو نتاج لشجاعته ورفضه وقول الحق الذي جعله يقضي أكثر من نصف عمره حبيسًا في سجون الأنظمة السياسية المتعاقبة وتتحمل ذنبه الحكومات المتعاقبة".

ويضيف، في حوار صحفي، في وقت سابق، "محجوب حالة عصية على المقايسة وسماء لم ينم في رحمها نجم غيره، وكلنا يدعو لسودان متعايش ومتنوع ومقياس المفاضلة فيه الكفاءة وقبلها المواطنة، هذا هو الوطن الذي نغنيه".

مربعات "نفير القدال"

وعُرف القدال بانشغاله، منذ وقت باكر، بالعمل الإنساني واهتمامه بحشد الطاقات والجهود الشعبية. عمِل مُديرًا قٍطريًا لمنظمة رعاية المسنين البريطانية، ويُعد أحد مؤسسي منظمة أمل لرعاية المسنين، مطلع الثمانينات. وتُعرف أبرز مساهماته الإنسانية في مبادرة "نفير" التي خط لها القدال أبيات الشعر الرُباعية، وعقد حينها جولات داخلية وخارجية لاستنهاض جهود السودانيات والسودانيين وقتها، فضلًا عن إسهاماته الشعرية في مجاعة العام 1984.

اقرأ/ي أيضًا: "المقاومة والفن".. كيف هزم السودانيون الاستبداد؟

ويسرد القدال علاقته بمبادرة "نفير" في حوار صحفي سابق، قائلًا: "كانت تجربة نفير لفتة بارعة ومهمة أعادت الثقة في جيل بأسره قمت بزياراتهم وكان إسهامي هو تعهدي بمرباع يومي استمر حتى الآن وتشعب بين السياسة والمعيشة اليومية والآلام الإنسانية في أقسى صورها".

الراحل القدال: مربعات الشعر هي امتداد للشعر السوداني الذي ظل في مختلف مراحله مؤرخًا للحياة السودانية بدقائقها وتفاصيلها الصغيرة

ويصف الراحل محمد طه القدال "مربعات الشِعر" بأنها "امتداد للشعر السوداني الذي ظل في مختلف مراحله مؤرخًا للحياة السودانية بدقائقها وتفاصيلها الصغيرة".

ويرى القدال، أن "المربعات" أصبحت بطريقة غير مقصودة أشبه بالتوثيق اليومي لـ"أبرز الأحداث في السودان وأيضًا أبرز ما أمر به من أحداث وأمكنة وكتبت المربعات والمخمسات اليومية بلهجات عربية بالإضافة إلى السودانية".

وبرحيل القدال، فقدت الساحة الشعرية السودانية أحد أبرز الأصوات التي ملأت الأجواء الشعرية تجديدًا وصخبًا إنسانيًا وثوريًا ووجدانيًا يسطره التاريخ، وتصدح به أصوات المغنين وتتداوله الأجيال.

اقرأ/ي أيضًا

"كهنة آمون".. رواية جديدة لأحمد المك

مؤسسة الشباك الثقافية تدشن نشاطاتها بمدينة أم روابة