12-أكتوبر-2019

تسبب عمليات تعدين الذهب تشوهات بنسب كبير في المواليد (فيسبوك)

"أصبحنا ننجب أطفالًا دون ملامح، بدون أنف أو فم، وعيون مشوهة"؛ بهذا الوصف استهل أحد مواطني منطقة "كلوقي" بجنوب كردفان (600 كلم) من العاصمة الخرطوم، حديثه لـ "الترا سودان".

بدأت الحركة الاحتجاجية ضد السيانيد بعد تفاقم التلوث، وتأزمت في المنطقة بصورة مفاجئة وزادت حدة التوتر

بدا الرجل الذي تحفظ عن ذكر اسمه لأسباب أمنية، وهو من الآف يواجهون خطر السيانيد، أقرب لليأس بينما يستطرد: "كنت أتمنى أن لا تضع زوجتي مولودًا مشوهًا مثلما حدث مع أقربائي. لم أصدق أن الجنين المشوه خرج من أحشاء زوجتي"، وتابع بألم أن ابنه لم يلبث أن فارق الحياة بعد أيام من ولادته. "بكينا أنا وزوجتي، وانتابنا ألم لا يوصف".

اقرأ/ي أيضًا: حروب الأرض في السودان.. مناجم الذهب عنصر جديد في خريطة الصراعات الممتدة

هذه ليست القصة الوحيدة التي استمع لها "الترا سودان" في سياق البحث عن قصة مصانع الموت، كما يطلق عليها بمنطقتي "كلوقي" و"تلودي" بولاية جنوب كردفان. تواصلنا مع أحد الأطباء في مستشفى تلودي وحكى أن العمل في قسم الولادة أصابه بحاله نفسية قاسية. يضيف: "صرنا نشهد يوميًا حالة إجهاض، ازدادت معدلات وفيات الأطفال المواليد، أجنة مشوهة، كتل لحمية مشوهة، الجماجم لا تبين في بعض الحالات، ولا توجد أعين مع تغير كامل لأوزان أجسام المواليد".

ويظهر إحصاء غير رسمي قام به الناشطون حدوث تشوهات للمواليد بمعدل طفلين مشوهين من كل 10 حالات ولادة، أغلبها بدأ في الظهور منذ بداية العام الحالي. وفي إفادته لـ"الترا سودان"، قال الناشط ومؤسس صفحة "كالوقي" على موقع التواصل الاجتماعي إحدى أشهر الصفحات مؤخرًا في السودان بفيسبوك أبوبكر إبراهيم، إن المنطقة الشرقية في جبال النوبة هي أكثر المناطق تأثرًا بتعدين الذهب، واستخدام مادة السيانيد شديدة الإضرار بالبشر والبيئة، وأشار إلى أن المحليات المتضررة بشدة هي أغلب المحليات المنتجة للذهب: أبوجبيهة، الترتر، كالوقي، تلودي، الليري.

وتابع أن مجموعة من الناشطين بالمنطقة تأكدوا من قيام الشركات بالتخلص من السيانيد بدفنه في الأرض في أعماق غير بعيدة، مضيفًا أن "بعضهم أثناء محاولتهم للاحتفاظ ببراميل المادة الحارقة كدليل إدانة عقب مظاهرات يوم الخميس الماضي، تعرضوا لإصابات بالطفح الجلدي وحروق بالغة"، وتابع أن أصحاب الشركات الكبرى وهي "السنط والجنيد" بمنطقة (مريضان)، وأبرسي بمنطقة (اللفة)، وشركة "الجنيد" بمنطقة (التقول) وهي شركات تتبع للجيش السوداني وقوات الدعم السريع، استغلت المواطنين البسطاء بتشغيلهم بمبالغ زهيدة في أعمال حمل وتنزيل براميل السيانيد الحارقة، ما تسبب بحدوث إصابات جلدية خطيرة لهؤلاء المواطنين.

بداية الأزمة

الحركة الاحتجاجية ضد السيانيد بدأت بعد تفاقم التلوث، وتأزمت في المنطقة بصورة مفاجئة وزادت حدة التوتر، وباتت المنطقة على سطح صفيح ساخن. حرق المواطنون الغاضبون بعض المناجم، واستمر الاعتصام ضد الشركات 26 يومًا أمام محلية كالوقي. وكشفت صحيفة التيار اليومية أنه في أثناء تصاعد الأوضاع ضبط المواطنون شاحنات محملة بنحو (5) طن سيانيد وقاموا بتدوين بلاغات ضدها.

ويقول أحد الناشطين في المنطقة لـ"الترا سودان" طلب عدم ذكر اسمه، أن الشباب هناك قادوا حركة مقاومة سلمية ضد شركات تعدين الذهب، وأضاف: "استجمعنا قوانا ووجدنا أن الوقت حان لإسماع صوتنا وإيصال قضيتنا بعد قيام ثورة ديسمبر".

بينما يشرح مؤسس صفحة كالوقي لـ"الترا سودان" أن تجمع المهنيين بتلودي ومجموعة الأجسام الشبابية المحلية، قررت تصعيد قضيتها المنسية وإيصال مأساتها للرأي العام. وأردف: "كان الحدث صادمًا وغريبًا للرأي العام الذي بدا مندهشًا لحجم الدمار والخراب الذي حدث، وساهم بُعد المنطقة عن العاصمة في تحكم المتنفذين وإرهاب المواطنين، وتم شراء صمت القيادات الأهلية".

 كما "أن النخب الخرطومية لم تستمتع لقضيتنا وانشغلت بصراعاتها رغم قيامنا بعقد مخاطبات أثناء اعتصام القيادة، وحملنا للمواليد المشوهين هناك، ولاحقًا قام الشباب بتنظيم اعتصام أمام وزارة المعادن، وعقد لقاء مع محمد الحسن التعايشي عضو المجلس السيادي في أيلول/سبتمبر الماضي، وأوضح أن الأوضاع الأمنية كانت في طريقها للخروج عن السيطرة عقب المظاهرات بعد قيام مليشيات الدعم السريع بإرسال (20) عربة مدججة بالأسلحة، وقال إنه لولا حكمة قادة الحراك لحدثت مجزرة، وإن هنالك عربات محملة بالسيانيد تم حرقها من قبل مجهولين وتم نقل البراميل بعد أيام بالتعاون مع الهيئات المحلية".

وكتب أحد الناشطين في صفحة أبناء كالوقي على موقع فيس بوك: "مظاهراتنا كانت ضد مصانع الموت وقمنا بحرق كافة الآليات التي تخص المصنع، كنا لا نريد الحرق.. ولكننا كنا غاضبين مما حدث في منطقتنا من دمار، ومن تباطؤ المسؤولين وأصحاب الشركات، وعدم ترحيلهم لمصانعهم وآلياتهم قاد لما حدث".

وبحسب مراقبين فإن حراك أبناء تلودي كشف حجم التمدد الرهيب لشركات الذهب المملوكة لنافذين بالدعم السريع والجيش، وتضخم شبكات الفساد المعتمدة على نهب ثروات وموارد البلاد.

اقرأ/ي أيضًا: السودان.. هي هجرة أخرى

أوجاع ومآسي بيئية وقهر

قاد استعمال السيانيد المعروف دوليًا بالقاتل الشهير، في عمليات التعدين الواسعة للذهب في منطقة مشهورة بالإنتاج الزراعي والحيواني "العضوي"، إلى حدوث أضرار بيئية كارثية، وكما هو معروف للكل، فإن إدخال المركبات الكيميائية إلى دورة الطبيعة سيقود إلى حدوث تحور وتبديل في التوازن البيئي، ومع ارتفاع بورصة الذهب عالميًا تم تجاهل هذه الحقيقة البسيطة، وروجت الآلة الإعلامية للنظام السابق، والمجموعات المستفيدة من اقتصاديات تعدين الذهب، أن ظهور النشاط التعديني سيعني اختفاء البطالة وسط أبناء المنطقة، ولكن بعد سنوات أطلت الكارثة وكان المتضرر الأول إنسان المنطقة وثرواتها الحيوانية والزراعية.

قاد استعمال السيانيد المعروف دوليًا بالقاتل الشهير، في عمليات التعدين الواسعة للذهب في منطقة مشهورة بالإنتاج الزراعي والحيواني "العضوي"، إلى حدوث أضرار بيئية كارثية

كما كشفت إحصائيات عن انخفاض الإنتاج الزراعي وحدوث فجوة غذائية في المنطقة، بسبب تلوث مصادر المياه والتربة، وبسبب الذهب هجر المواطنون العمل الزراعي واتجهوا للتعدين، وبرزت قوى اجتماعية جديدة متنفذة، تمثل خليطًا من الإدارة الأهلية ومجموعات الانتهازيين المشتركة في الأرباح والفوائد مع رؤوس الأموال وأصحاب السلطة.

 

اقرأ/ي أيضًا:

أزمة الأسعار في السودان .. محاولات لإنقاذ الجنيه وعودة "الحرس القديم"

أزمة الخبز في السودان.. مقاومة بالحيلة لمناورات السلطة