يحتفظ سكان منطقة الخوجلاب في الخرطوم بحري، بالذكريات التي تعود إلى سنوات طويلة، لذلك نشأ بينهم ارتباط وثيق بالمدينة الصغيرة الواقعة أقصى شمال بحري، الغارقة في صراع مسلح بين الجيش وقوات الدعم السريع.
عاشت المنطقة فترات عصيبة لأنها تحولت إلى خط تماس بين الجيش والدعم السريع
بعد عام ونصف من الحرب، شاهد قلة من المواطنين، أولئك الذين بقوا بين نيران المعارك، أعمدة الإنارة وهي تُهيأ لإعادة التيار الكهربائي. كما ابتعدت ناقلات جنود الدعم السريع نسبيًا عن المنطقة، وفق روايات الشهود لـ"الترا سودان".
في ذات الوقت، فإن تحول المنطقة إلى تماس خلال الأشهر الماضية بين الطرفين المتقاتلين يُلقي عليها المخاطر بين الحين والآخر. شحذ عمال الكهرباء الهمم عندما صعدوا إلى الأعمدة الخرسانية لإعادة توصيل الكابلات المتقطعة، بسبب الاشتباكات العنيفة التي شهدتها المنطقة، والتي تستحق وصفها بـ "حرب الشوارع".
يروي الشهود كيف أن المنطقة عاشت فترات عصيبة خلال المعارك بين الجيش وقوات الدعم السريع. خلال حرب السودان، يقول المدنيون إن هناك جنودًا مجهولين لم يُنصفوا بالقدر المطلوب هم عمال الكهرباء، الذين تطوعوا في أغلب الفترات للعمل في مناطق القتال، تارة باللجوء إلى التفاوض مع القوات العسكرية، وتارة بالعمل في مناطق ساخنة تحت ضغط الحاجة إلى الإمداد الكهربائي، واضعين حياتهم على المحك.
أُعيدت توصيلات الكهرباء لإنعاش آمال المواطنين الذين عايشوا فترات عصيبة لفترة (18) شهرًا، ظلت قوات حميدتي تجوب الشوارع والمنازل، ولا تتردد في تسلق المباني العالية لوضع قاذفات الصواريخ إما على أكتاف الجنود الشبان القادمين من الأصقاع البعيدة الفقيرة بحثًا عن المال، أو تركيبها على المباني لتكون جاهزة للتصويب عندما تعبر قوافل الجيش. تعلم المدنيون في المنطقة معنى الحرب فعلًا وقولًا، اختبروا انعدام المياه والكهرباء والاتصالات والطعام والدواء والأمان، ومداهمة قوات الدعم السريع للمنازل. أما من نزحوا عن المنطقة العريقة، يشعرون أن وقت العودة لم يحن بعد، لأنها ليست بمنأى عن تجدد القتال.
في فترات طويلة، لم تكن منطقة الخوجلاب في الخرطوم بحري، المدينة الواقعة شمال النيل، تحت سيطرة أي طرف. لأنها اُستخدمت كـ"منطقة تماس" بين الطرفين، ونُفذت العمليات النوعية حتى سيطر عليها الجيش مجددًا، بالتزامن مع سيطرته على أحياء الحلفايا والدروشاب. اكتسبت منطقة الخوجلاب الأهمية العسكرية لدى الجيش وقوات الدعم السريع، لأنها قريبة من مصفاة الجيلي ومنطقة الكدرو العسكرية. وهذه الميزة مكنت الجيش من المناورة، وتنفيذ عمليات نوعية ضد قوات حميدتي، حتى اضطرت إلى إخلاء الخوجلاب خلال فترات طويلة.
و لعبت الخبرة العسكرية لجيش منطقة الكدرو دورًا في إضعاف قوات حميدتي في الشوارع، بتنفيذ سلسلة طويلة من العمليات الخاصة وقطع الإمداد والعتاد بين الخرطوم بحري والمصفاة. بالتزامن مع توصيلات الكهرباء، يتطلع المدنيون في هذه المنطقة إلى تشغيل المطبخ الجماعي، وإعادة شبكة الاتصالات، وفتح قسم الشرطة. فيما ينوي الجيش توسيع نطاق المناطق المستردة، بوضع الارتكازات المتقدمة إلى ما بعد الخوجلاب. ثمة مخاوف تثير قلق المدنيين في منطقة الخوجلاب، في ظل المعارك المرتقبة قرب مصفاة الجيلي، ومناطق جنوب وشرق بحري بين الجيش وقوات الدعم السريع.
القلق من فقدان ما حصلوا عليه أخيرًا، من كهرباء وكميات لا بأس بها من المياه، ووعود تشغيل الاتصالات وقسم الشرطة. أغلب سكان المنطقة الذين نزحوا توجهوا شمالًا لسهولة المغادرة عبر الطريق الرابط بين بحري وولاية نهر النيل. ومن هناك غادر الآلاف إلى مصر، أو آثروا البقاء في الولايات الشمالية والشرقية. تقول حنان التي تعيش في مصر، والتي نزحت من المنطقة لـ"الترا سودان": إنها تتمنى يوميًا العودة إلى منزلها، واستئناف حياتها المعتادة. ولا يمكن تحقيق ذلك إلا بـ"كسر شوكة" الدعم السريع، إلى درجة إخلاء وجودها في الخرطوم بحري بشكل نهائي. عدا ذلك، لا يمكن العودة وهذه القوات تسيطر على أجزاء من المدينة.
لم يتفاجأ السودانيون بالإمكانيات الحربية التي وصلت إليها قوات الدعم السريع
بدأت قوات الدعم السريع نشأتها بإمكانيات أقل بكثير من الجيش، وتوسعت عمليات التجنيد لدى هذه القوات بين عامي 2013 و2014، حينما وُضعت على أهبة الاستعداد في العاصمة الخرطوم لمكافحة احتجاجات شعبية ضد نظام البشير.
خلال الحرب التي اندلعت منتصف نيسان/أبريل 2023، لم يتفاجأ السودانيون بالإمكانيات الحربية التي وصلت إليها قوات الدعم السريع، لأن الترسانة العسكرية نشأت تحت أنظارهم في شوارع العاصمة الخرطوم. وشاهدوا المدرعات والقطع الحربية، وناقلات الجنود المزودة بالمدافع الثقيلة تجوب الطرقات. اُستخدم هذا العتاد خلال بعض الفترات ضد المتظاهرين السلميين في ثورة ديسمبر في شوارع الخرطوم، خاصة عندما صعد تحالف البرهان وحميدتي ضد المدنيين. ومع ذلك، فإن ذروة العتاد الحربي والعمليات العسكرية لقوات حميدتي، لم تبقَ كما بدأت قبل عام ونصف محتفظةً بقوتها، وتأثرت بالغارات الجوية كما لقي الآلاف من قوات النخبة مصرعهم خلال المعارك العسكرية، ما دعا حميدتي إلى إعلان "الفزع"، وفي العرف الشعبي في إقليم دارفور، النواة الأولى لهذه القوات تعني حشد الرجال لقتال العدو المشترك حسب اعتقادهم.