09-أكتوبر-2024
إبراهيم محمود في بورتسودان

وصل رئيس حزب المؤتمر الوطني إبراهيم محمود إلى بورتسودان حيث استقبله قادة محليون وفعاليات شعبية (إكس)

أثارت عودة المهندس إبراهيم محمود حامد، أحد قيادات حزب المؤتمر الوطني، إلى مدينة بورتسودان نقعًا كثيفًا في خضم المعارك الدائرة في أكثر من محور. فبينما رأت فيها عناصر محسوبة على قوى ثورة ديسمبر أن الخطوة تكشف بوضوح رهانات حرب نيسان/أبريل 2023م ضمن السردية الشهيرة بأن من أشعل الحرب هو عين من أطلق الرصاصة الأولى بالمدينة الرياضية ليقطع الطريق أمام استئناف مسار الانتقال المدني الديمقراطي، رأت فيها عناصر محسوبة على النظام السابق أن عودة قيادات الوطني أمر طبيعي في ظل التحديات السياسية التي تفرضها مرحلة ما بعد الحرب، باعتبار أن الاصطفافات القائمة تتجاوز بالكلية أدوات الاستثناء الثوري التي حملها الخطاب المعلن، والثاوي خلف العبارة الأثيرة (سوى المؤتمر الوطني)، لأن للحرب الحالية أجندة سياسية، أو هي في أعلى مراتبها صراع سياسي تجاوز الأدوات السلمية المدنية إلى رسم الواقع بقوة السلاح، وانقسام المجال العمومي إلى مصطف خلف الجيش تحت مظان أنه الممثل الأوحد لبقاء الدولة السودانية، في مقابل من يرى أن بندقية الدعم السريع تقف إلى جانب استتمام الانتقال المدني.

عودة الوطني أم عودة السردية؟

ورأى خالد عمر يوسف، عضو هيئة القيادة في تنسيقية القوى المدنية الديمقراطية "تقدم"، أن عودة إبراهيم محمود إلى بورتسودان وظهور أحمد عباس، والي سنار السابق في جبل موية، برفقة الفريق أول كباشي، يكشف بجلاء أن الحرب الحالية هي حرب النظام البائد للعودة إلى السلطة، مشيرًا إلى أن الذين أشعلوا الحرب "يريدون جني ثمارها قبل أن ينقشع غبار المعركة". وهي ذات السردية التي تنشط قوى "تقدم" في ترديدها عند كل محفل، وتتسق مع رؤية ورواية الدعم السريع للحرب التي تقفز على وقائع الأحداث وتناقضات مشهد ما بعد انقلاب الخامس والعشرين من تشرين الأول/أكتوبر 2021م.

ارتأت قطاعات وازنة أن النخب السياسية المنقسمة لم تكتفِ بتأزيم الأوضاع المضطربة، إذ باتت تستثمر مجددًا في مخاضات المعارك لأهداف سلطوية محضة

وما بين هذا وذاك، ارتأت قطاعات وازنة أن النخب السياسية المنقسمة لم تكتفِ بتأزيم الأوضاع المضطربة، إذ باتت تستثمر مجددًا في مخاضات المعارك لأهداف سلطوية محضة، باعتبار أن الإسلاميين، بحوزاتهم المختلفة، يسعون إلى إعادة عقارب الساعة إلى ما قبل الحادي عشر من نيسان/أبريل 2019م، وأن القوى السياسية المدنية تسعى إلى إعادة عقارب الساعة إلى ما قبل الخامس والعشرين من تشرين الأول/أكتوبر 2021م، دون الالتفات إلى ما جنته عجالتهم السلطوية من تخريب للاجتماع، وضرب لمقومات الدولة، وتفجير أعمق أزمة إنسانية ترتسم في موجات التهجير القسري، لجوءًا ونزوحًا، ومحواً للذاكرة، وتقتيلاً وتنكيلاً، وحصارًا اقتصاديًا، وضائقة معيشية، واستلابًا للكرامة البشرية.

رأى مبارك أردول، القيادي بالكتلة الديمقراطية، في عودة إبراهيم محمود أمرًا طبيعيًا إن لم تتجاوز "حقوق المواطنة المتعلقة بحرية السفر والتنقل وامتلاك الوثائق المطلوبة لذلك". ولكنها على مستوى الدلالة السياسية لا تحمل أي طرح جديد يعبر عن الواقع المعقد الذي فرضته الحرب، فلم تعد بورتسودان أو أي مدينة أخرى هي تلك التي تركها محمود وهو يغادر إلى منفاه الاختياري، كما ذكر أردول. لقد تغير الزمن تمامًا، حيث صارت عضوية الإسلاميين تقاتل إلى جانب القوات المشتركة التي كانت منبوذة في عهد الإنقاذ والتي بسبب مفاعيلها تم إنشاء الدعم السريع. وهي مشاركة، بحسب مبارك، محكومة بشعار الإسلاميين الشهير "لا للسلطة ولا للجاه"، باعتبار أن الجيش الذي تضرر من الاختراقات العقدية والعرقية لنظمه الأمنية لا يمكن أن يسمح مرة أخرى بتكرار ذات الأخطاء القاتلة فعلاً لا وصفًا.

وفي سياق النصح الذي أرسله أردول، دعا الوطني إلى إجراء مراجعات شفافة لمسار الحكم ومواجهة الشعب الذي عانى بنتائج مراجعاته المستحقة، وهي أقل حق يمكن أن يناله الشعب المغلوب على أمره بفعل السياسات الإنقاذية الجائرة، والجارية تداعياتها حتى اللحظة الراهنة وربما في المستقبل القريب.

ورأى القيادي بالكتلة الديمقراطية أن عزلة قيادات الإنقاذ التي تنادت لها قوى مؤثرة في ديسمبر ينبغي أن تكون وفق شروط القانون وحدود العدالة، معتبرًا أن قضية الحوار مع الإسلاميين تعد مطلبًا ضروريًا في سياق البناء الوطني، وضمن أجندة محددة تتعلق بصيانة الدولة السودانية وتغليب أطر المهنية والاحترافية وقيم الكفاءة المؤسسية على المستوى الأمني والمدني. وأن مساعي الهيمنة باسم الثورة أو حرب الكرامة لم تعد ممكنة بسبب مآلات حكم ثلاثة عقود من حكم الإسلاميين أو ثلاثة أعوام من حكم قوى الحرية والتغيير.

عودة طبيعية وضرورية ومطلوبة

مصدر مقرب من الإسلاميين لم يشأ أن يورد اسمه، ذكر أن عودة محمود طبيعية ومطلوبة من عدة أوجه، فهي من جهة تؤكد أننا نجتاز مرحلة جديدة سقطت فيها كل أدوات القهر والاستثناء، وأن لا عزل لشخص إلا بموجب القضاء، ووفق القانون. وهي مطلوبة أكثر لأنها تلبي حاجات ضرورية وماسة داخل الإقليم الشرقي، وإحباط محاولات اللعب على تناقضاته. ويؤكد المصدر أن الوطني حين كان حزبًا حاكمًا قدم قيادات وازنة من فضاءات الهامش السوداني، ليس كترميز تضليلي، وإنما التماسًا للعدالة من جميع مستوياتها.

ونفى المصدر أن تكون عودة محمود في إطار استمرار الخلاف على قيادة المؤتمر الوطني، والتي يمكن أن يتم معالجتها مؤسسيًا رغم ظروف الحرب وأولوية حسمها.

وفيما يخص أن عودة القيادي، إبراهيم محمود، من شأنها أن تؤكد سردية الحرب، كما أشار خالد عمر يوسف، عضو هيئة قيادة "تقدم"، ذكر المصدر أن الأفق قد تجاوز تصنيفات الثورة واصطفافاتها الحدية القاطعة، مبينًا أن أمثال خالد ومجموعته لا يملكون الأهلية الأخلاقية لممارسة إقصاء خصومهم، بعد أن أشعلوا الحرب بسوء سياساتهم وغياب حكمتهم، فظنوا أنهم يمكن أن يعودوا على بندقية الدعم السريع، بعد أن انصرفوا عن قضايا التأسيس بتأسيس القضايا الانصرافية دون أن يحصلوا على شرعية التفويض.

وذكر ذات المصدر أن مشاركة فئات واسعة من عضوية الوطني، تنبع بالأساس من انتمائها لتراب الوطن وحماية مقدرات شعبه، وهي فعلت ذلك مرارًا دون من أو أذى. وكما لم تكن طالبة للجاه قديمًا، فلن تطلبه الآن بعد أن جرى ما جرى. وبين أن سلوك قيادة الوطني يؤكد حكمتهم وتعاليهم على الصغائر والحظوظ السلطوية، ولو أرادوا إشعال حرب أو الانقلاب على الأوضاع القائمة لما انتظروا أربع سنوات. بل السياق كله يكشف أن هذه السرديات لا تغني عن الوقائع الموضوعية، ولن تنطلي على عموم الشعب مثلما لم تنطل عليه أن قوات الدعم السريع تقاتل من أجل المدنية.

وذكر في هذا السياق أن مدنية الدولة لم تتحقق بشكل قاطع في تاريخ السودان، إلا في ظل حكم الإنقاذ، حيث أخضعت المؤسسة العسكرية لمؤسسة الرئاسة، ورغم خلفية الرئيس العسكرية إلا أنه كان يدير الشأن العسكري وفق مقررات الأمن القومي السوداني، وبحسب الأجندة التي ترسمها المؤسسات في الحزب والدولة.

من اصطراع الحاءات الثلاث إلى نزاع القيادات

تبدو عودة محمود رهانًا داخليًا في إطار الصراع القائم على قيادة الحزب الحاكم "المحلول" الذي ظل ملتصقًا بالأفق السلطوي على مدار ثلاثة عقود من حكم الإنقاذ، تارة بين العسكريين والمدنيين في بداية الحكم أو بين القصر والمنشية قبل أن ينتهي بالمفاصلة، ليبدأ فصل جديد بنشوء مراكز قوى مختلفة وبروز تيار إصلاحي يسطر المذكرات التصحيحية ويحذر من استبداد (سوبر تنظيم) بخطام القيادة والقرار، أو ما جرى التعبير عنه مؤسسيًا بصراع الحاءات الثلاث (الحكومة والحزب والحركة) على نحو لاحق. ليعود تمظهر الصراع حول قضية ترشيح الرئيس، والتي بلغت المفارقة فيها أن أطلقت القوى الشبابية المناوئة لترشيح الرئيس وسمًا شهيرًا تحت عنوان: "معًا لإنفاذ قرار الرئيس" بتأييد قراره المعلن لا رغبته المضمرة. ولم يغب الصراع حتى بعد أن انتهى حراك الجماهير في ديسمبر بانحياز الجيش وفق ما تواضع عليه الخطاب العام، أو انقلاب اللجنة الأمنية وفق الخطاب الذي صدرته نخبة الإسلاميين لعضويتها، ونسج رؤى كثيفة حول الاختراق الذي أنهى حكمهم. ليعود صراع مكتوم ما بين "مجموعة كرتي" و"مجموعة كوبر"، أو ما بين الأمين المكلف المتواري عن الأنظار والمتهم بالتنسيق مع قيادة الجيش وبين العناصر القيادية التي ذهبت إلى كوبر مرغمة بفعل الثورة، أو في قراءة أخرى بتوجيه أو قل بلا ممانعة من الأمين العام المكلف الذي أنفق عمره في المكتب العسكري الخاص وأجرى تعديلًا على مقاربة الترابي الأولى: "أذهب للقصر رئيسًا وسأذهب للسجن حبيسًا"، بأن ذهب بنخبة الإنقاذ إلى السجن واكتفى بممارسة نفوذه على قادة الجيش ضمن حدود إكراهات الواقع والابتعاد من أفق السلطة ظاهريًا.

سردية الإسلاميين السرية

وجدت السردية المتداولة على نطاق ضيق في أوساط الإسلاميين انتشارًا محدودًا، على ما اتسمت به من التباس وغموض، وتأسس عليها اصطفاف غير معلن بموجب مظلومية ترى في كل ما تم مؤامرة داخلية محكمة ومتساوقة مع الخارج المتربص بحكم الإسلاميين. ولكنها لم تلبث أن غابت في غبار المعارك، أو أُخرست مع تعالي صوت البنادق ونشوء سردية أخرى أقوى وأمضى، وهي أن جيش كرتي أشعل الحرب ليقطع على القوى المدنية استعادة مجدها المحمول على هتاف الثورة "مدنية خيار الشعب". والتقى لأول مرة "مجموعة كوبر" مع "حركة كرتي" ليمارسوا رهانهم من جديد ضمن معادلات السلطة بالقوة والنفوذ، لا السلطة بالفعل.

هنا يعود إبراهيم محمود بوصفه جناحًا مضادًا لأحمد هارون، الذي تشير أنباء غير مؤكدة إلى توافقه مع كرتي واشتراكهما على ذات الهدف بحسم تمرد الدعم السريع والاستمرار في دعم الجيش، واستدراك ما يمكن استدراكه في إعادة تموضع التيار الإسلامي من جديد في معادلات السلطة. وقراءة هذا المسعى في انخراط مجموعات كبيرة من الإسلاميين في الدفاع عن الجيش وكف أذى قوات الدعم السريع، التي كوّنها الرئيس ذات مرة ليحمي بها سلطته من انقضاض الحركات المسلحة كمهدد ظاهر، أو من انقضاض عناصر الإسلاميين كخطر مضمر، أو إخماد حراك الجماهير كما حدث في هبة أيلول/سبتمبر 2013م، والتي قادت مفاعيلها إلى حدث كانون الأول/ديسمبر 2018م.

كما أن ضرغام الجيش اصطاد جزءًا من صيد الإسلاميين عند المفاصلة، وأجهز على ما تبقى في نيسان/أبريل 2019، فإن ضرغامًا آخر نشأ في محاضن الجيش قوة ساندة له

وظهر أن مكر التاريخ أمضى من مكر الساسة وحيلهم وأحابيلهم. وكما أن ضرغام الجيش اصطاد جزءًا من صيد الإسلاميين عند المفاصلة، وأجهز على ما تبقى في نيسان/أبريل 2019، فإن ضرغامًا آخر نشأ في محاضن الجيش قوة ساندة له، يجري معه ذات اللعبة الدموية على مستودع خزف الوطن المهترئ أنظمةً ونسيجًا. فأي هزبر سيستأثر بخصمه؟ هذا ما ستكشف عنه الأيام.