27-فبراير-2020

المدعي العام للمحكمة الجنائية الدولية "فاتو بنسودة" (Getty)

تصاعد النقاش حول قابلية تطبيق العدالة الانتقالية في السودان، ويرى خبراء إمكانية تطبيقها فيما يعتبر آخرون أن الأوضاع غير مهيأة لتنفيذها.

كمال الجزولي: العدالة الانتقالية ليست ترتيبات قانونية بل أقرب للثقافة من القانون

وأوضح الخبير القانوني الدولي كمال الجزولي، الذي قدّم محاضرة حول "العدالة الانتقالية في السودان" في ورشة عمل حول "تعزيز الوصول للعدالة وحماية حقوق الإنسان في السودان" التي نظمتها المبادرة السودانية لحقوق الإنسان ببيت التراث بالخرطوم الأحد الماضي، أن مطلب العدالة الانتقالية ورد في الكثير من الوثائق منها الوثيقة الدستورية والعديد من وثائق الأحزاب، وأشار إلى المفهوم الخاطئ في أذهان الناس بأن العدالة الانتقالية عبارة عن ترتيبات محاكم في الفترة الانتقالية "جرائم وعقوبات"، وقال: "هي ليست ترتيبات قانونية بل أقرب للثقافة من القانون".

اقرأ/ي أيضًا: النيابة تحقق مع البشير حول فساد في شركات الاتصالات وأموال الحركة الإسلامية

تركة ثقيلة

وأضاف أنه حال الرغبة في تطبيق ترتيبات العدالة الانتقالية في الفترة الانتقالية ستواجه تركة مثقلة من النظام المخلوع لأن السودان مرّ بأسوأ فترات تاريخه خلال ذلك الحكم الذي امتد (30) عامًا، ورأى أنه من المستحيل الانتقال من "دكتاتورية" لديمقراطية ومن حرب أهلية لسلام شامل دون تصفية تركة الماضي لضخامة الجرائم المرتكبة في ذلك العهد خاصة في دارفور.

خيارات تصفية تركة الماضي

وحدد الخبير القانوني الدولي "كمال الجزولي"، طرق تصفية تركة الماضي في اللجوء للقانون والقضاء السوداني للمساعدة في التصفية، وذكر أنه في تلك الحالة سيتم الاصطدام بتشريعات النظام المخلوع، بجانب أن عناصر القانون الدولي لم تكن موجودة في القانون الوطني في عامي 2003 و2004 وقت ارتكاب الجرائم، حيث لا يمكن للقاضي أن يأتي بمواد غير موجودة ويستند عليها في المحاكمة، "لا جريمة بلا نص".

وطرح الجزولي، الخيار الثاني في اللجوء للقضاء الجنائي الدولي، وقال "يفهم من ذلك المحكمة الجنائية الدولية وهذا خطأ لأن هناك محاكم الدول التي تقبل الاختصاص"، وأشار إلى إمكانية اللجوء للقضاء الإقليمي والمحكمة الجنائية الدولية كخيارات، وأكد انحيازه كقانوني دولي للمحكمة الجنائية الدولية، وأنه برغم ذلك لا تحل تلك المحكمة التي وصفها بالمحدودة كل القضايا باعتبار أن قضية دارفور التي تمت إحالتها للمحكمة بها آلاف الضحايا، وتساءل عن كيفية رؤية الضحايا وذويهم للعدالة تطبق في حالة عقد المحاكمات في "لاهاي"، ورأى أن ذلك المبدأ سيصاحبه قصور في التطبيق لعامل البعد الجغرافي، بالإضافة إلى ارتفاع تكلفة المحاكمات، التي تبلغ مئات الملايين من الدولارات، ومنها تكاليف حماية الشهود والشاكين، كما نوه لمحاذير في المحاكمات منها المخاطر التي ستواجه الشهود والشاكين نتيجة للإمكانيات والمخابرات التي يمتلكها الخصوم.

تجارب العدالة الانتقالية

وطرح الخبير القانوني الدولي كمال الجزولي، الخيار الثالث لتصفية تركة الماضي والمتمثل في "العدالة الانتقالية" كمفهوم حديث يتم تطبيقه عن طريق تفريغ الاحتقان وإزالة الغبن حال أخذها وفق الخبرة الدولية المتراكمة، وأوضح أنه لا يوجد شكل واحد لتطبيق العدالة الانتقالية وأن التجارب كثيرة منها في إفريقيا تجربتي جنوب أفريقيا والمغرب، وأكد انحيازه لتجربة المغرب استنادًا على المعادلة التي تبدأ بالحقيقة وتمر بالانتصاف ثم في الآخر المصالحة، ووصف تلك المعادلة بأنها أقوى من معادلة "الحقيقة والمصالحة"، واعتبر أن نيلسون مانديلا قفز في تجربة جنوب أفريقيا من الحقيقة إلى المصالحة، وقال إن نتيجة ذلك أن جنوب أفريقيا بدأت تنتكس لعدم وجود انتصاف وأصبحت هناك استهانة بالعدالة الانتقالية.

اقرأ/ي أيضًا: تقاسم كيكة السلطة.. معركة كسر العظام بين الحكومة والمعارضة الجنوب سودانية

نموذج السودان

وفي حالة السودان قال الجزولي، "في دارفور هناك نظام كامل لحل القضايا ونحن لدينا ما نقدمه للمجتمع الدولي في العدالة الانتقالية "، ومثل لذلك بـ "الراكوبة والعنقريب"، وأمن على إمكانية النظر في بعض القضايا أمام المحاكم كما حدث في تجربة "رواندا"، فيما تحل القضايا الكثيرة بثقافة العدالة الانتقالية.

العفو لا يعني إطلاق الجاني بل يكون غير خاضع لإجراءات المحاكم، وفي حالة إخفاء أية واقعة يكون قد نكص ولم يستجب لشروط العدالة الانتقالية

الحقيقة المطلقة

وذكر الجزولي، أن العدالة الانتقالية تبحث عن الحقيقة المطلقة، حيث يتحدث الجاني عن ما حدث بالضبط أمام الضحية، وأن الجلسات تعقد في أماكن معينة، واقترح أن تعقد جلسات العدالة الانتقالية في السودان في "البرلمان القديم" بوصفه مكانًا مناسبًا لجلسات الاستماع العمومي التي يأتي إليها الجاني والضحية أو ذوي الضحايا والجمهور وأجهزة الإعلام ومنها الصحافة ولجنة العدالة الانتقالية "المفوضية" وكَتَبَة يسجِّلون، ويأتي المُنتَهِك ويُطلَب منه كشف الحقيقة كاملة وحال فعله ذلك يتم طلب العفو من الضحية، وأضاف: "العفو لا يعني إطلاق الجاني بل يكون غير خاضع لإجراءات المحاكم، وفي حالة إخفاء أية واقعة يكون قد نكص ولم يستجب لشروط العدالة الانتقالية، وفي حالة عدم اختيار الضحية للعفو له حق اللجوء للمحكمة ويبدأ قضيته من جديد ويكوِّن بيِّناته ويثبت للمحكمة، واعتراف الجاني في العدالة الانتقالية لا يعتمد أمام المحكمة"، وأشار إلى أنه حال عفو الضحية أو ذويه يطلق سراح الجاني لكن بوضع إجراءات على رأسها أن يفرض عليه أداء واجب اجتماعي مثل نظافة الشوارع على مدى عام، وأمن على تأثير ذلك على نفس الجاني الذي كان متنفذًا، أو العمل في محو أمية أشخاص في منطقة محددة، وشدد على أن القانون الجنائي الدولي لا يعترف بالحصانات والأوامر، ويتم إحضار القائد الذي أصدر الأوامر، وأبان أن هذا لا يعفي المُعتَرِف بوجود أوامر.

معالجات للضحايا

 ونبه الجزولي إلى إمكانية إجراء معالجات للضحايا مثل عمل أطراف صناعية لمن بترت أطرافهم، ومن فقدوا فرص التعليم تلحقهم الحكومة بالتعليم، وتوفير فرص السكن لمن فاتتهم الخطة الإسكانية، وإجراء معالجات فردية بتخصيص تعويض مالي لمن تعرضوا للتعذيب، بجانب المعالجات المعنوية مثل إقامة أنصاب تذكارية وتماثيل.

اقرأ/ي أيضًا: قضية تفجير السفارتين والتركة الثقيلة لرعونة النظام البائد

وفي المعالجات الجماعية استدل الجزولي بتجربة المغرب في الناحية الجماعية، بتحويل منطقة بأكملها كانت متأثرة إلى مجمعات صناعية بإعطاء الأولوية فيها لأبناء وبنات المنطقة ويعود العائد لبناء المستشفيات والمدارس، "معالجات جماعية" لمناطق وفئات بأكملها كالنساء بطريقة فيها تمييز إيجابي.

ولخّص الخبير الدولي كمال الجزولي، العدالة الانتقالية في شكلها العام بأنها عملية اعترافات وعفو ومعالجات للضحايا وأشكال من العقاب المعنوي للمُنتَهِكين، ورأى في العدالة الانتقالية حلًا بدلًا عن إحضار "1000" قاتل على سبيل المثال ونصب "1000" مشنقة ومن ثم يتم الاتجاه لبناء الوطن، وتابع "المسألة ليست فش غبينة".

 استمرار الأوضاع القديمة

ومن جانبه ذكر الخبير القانوني "صالح محمود"، في محاضرته "العدالة في دارفور للجرائم ضد الإنسانية وجرائم الإبادة الجماعية" التي قدمها في ذات الورشة أن الحرب في دارفور خلّفت ضحايا بأعداد كبيرة وتحول الملايين لمتلقين للإعانة حيث كانت الحرب بميزانيات مفتوحة ونتجت عن تلك الأوضاع تظلمات ومرارات، الأمر الذي يجعل تخفيف الآلام مهمة شاقة، وانتقد الحديث عن العدالة الانتقالية عقب إحالة ملف دارفور للمحكمة الجنائية الدولية، واستند على أن من شروط العدالة الانتقالية الانتقال لوضع جديد، وقال: "هذا لم يحدث فالحرب مستمرة ومن هم في المعسكرات لم يرجعوا لمناطقهم الأصلية"، كما استدل باستمرار ما وصفه بالوضع الشمولي، وأضاف "مرتكبو الجرائم في مواقعهم، والقوانين التي حالت دون وصول الضحايا للعدالة ظلت موجودة خاصة القوانين التي تمنح حصانة للمتهمين"، وأشار إلى أن العمل بقانون الطوارئ شجع على ارتكاب الجرائم مع تهديد الضحايا بعدم اللجوء للمحاكم وتصفية شهود وشاكين، وتابع" هؤلاء لن يعترفوا وسيظلون في اتجاه الانكار"، وشدد على أن وجود المتهمين في السلطة سيجعلهم غير خاضعين لسلطان القانون وسيتمسكون بها للإفلات من العقاب.

كما رأى صالح محمود، أن الحديث عن قدرة وتأهيل ورغبة القضاء السوداني في تطبيق العدالة لم يحن وقته، حيث ما زالت القوانين والمؤسسات القديمة موجودة، وأردف: "لا يمكن في هذه الظروف أن تقام العدالة الانتقالية وتظل الظروف في حوجة لتغيير وتعديل"، وتمسك بأهمية إجراء تعديلات في القوانين والمؤسسات وضمان استقلال القضاء، وقال: "حتى لو حدثت تعديلات ستواجهنا مشكلة تطبيق القانون بأثر رجعي".

تفضيل الجنائية الدولية

وشدد الخبير القانوني الدولي صالح محمود، على أن المحكمة الجنائية الدولية تظل هي المكان الأنسب لمحاكمة المتهمين بجرائم "الإبادة الجماعية وجرائم الحرب والجرائم ضد الإنسانية"، وزاد: "مجلس الأمن هو من يملك حق النظر في تلك الجرائم وهي لا تدخل ضمن العدالة الانتقالية أصلًا"، وتمسك بأن تلك الجرائم لا يوجد فيها عفو ولا تسقط بالتقادم.

صالح محمود: على الأقل تنظر الجنائية الدولية في قضايا المتهمين المطلوبين المحصورين، ويمكن التوصل لتفاهمات معها بشأن بقية المجموعات حال تغيرت الظروف

وأمّن صالح محمود، على أنه لا قدرة للمحكمة الجنائية الدولية على النظر في كل القضايا والانتهاكات، واستدرك: "لكن على الأقل تنظر في قضايا المتهمين المطلوبين المحصورين، مع إمكانية التوصل لتفاهمات معها بشأن بقية المجموعات حال تغيرت الظروف، وذلك بتفويض الجنائية الدولية للقضاء السوداني بموجب المادة 16"، وتمسك بأحقية ضحايا دارفور في الانتقام باعتبار أن ذلك من فلسفة العقوبة، وأن توقيع العقوبات فيه ردع للمجرمين المحتملين في المستقبل وتعليم وتأهيل للمجرم.

 

اقرأ/ي أيضًا

مبعوث إثيوبيا للسودان: التوقيع على اتفاق السد سيطيح بآبي أحمد في الانتخابات

اتجاه لإعادة منسوبي "هيئة العمليات" المحلولة للعمل في حراسة حقول النفط