الثورة وعد بالمستحيل، أو الرجاء البشري الذي تبقى من العالم الحديث الذي "فقد قدسيته بالكامل ولم يبقَ له من النبل إلا لمامه"1 عالمًا لم يعد فيه الإيمان ممكنًا، وليس للشعوب من رجاء غير ذاتها، غير أن تؤمن بقدرتها على الانتماء لنفسها وإعادة سردها من جديد. بهذا المعنى كانت ثورة كانون الأول/ديسمبر الجليلة دفقٌ من عين جديدة ضمن البئر الهووي الذي ننتمي إليه لإعادة سردنا مرة أخرى، وعندما نتساءل عنها فذلك لا يعدو سوى عمل تأويلي يضيف للحم أنفسنا، فالسؤال جسد، هو لحم للأبعاد كما تساءل مجذوبنا مرة "من يلحم أبعادي؟"2
اقتطع الموت عضوًا من أجسادنا وأعضائنا عزيزةٌ علينا، الشهيد هو منا بهذا المعنى، ولبُّ حريتنا يكمن في تضحيته
أن نلحم أبعادنا يعني أن نتساءل عن الشهيد الذي كان بيننا، وهو آخر ينتمي إلينا نحن "أبناء الحرية"؛ فموت الثوري ليس حدثًا عارضًا يمكن أن نتغافل عنه، بل هو ضربة خنجر بداخل الروح التي تشكلت منذ بداية هذه الثورة، اقتطع الموت عضوًا من أجسادنا وأعضائنا عزيزةٌ علينا، الشهيد هو منا بهذا المعنى، ولبُّ حريتنا يكمن في تضحيته.
اقرأ/ي أيضًا: الحياة الأخرى لشهداء الثورةالحياة الأخرى لشهداء الثورة
ابتدأت ثورات الربيع العربي بحادثة حرق الشاب بوعزيزي جسدَه احتجاجًا، كان جسد بوعزيزي مثالًا فاضحًا لتخريط السلطة للأجساد، فهو بائع جائل من عائلة فقيرة، ومن الريف المهمش للدولة ما بعد الكولونيالية، وشاب محاصر بأجهزة السلطة القمعية من شرطة وأمن. هذا المشهد الانتحاري تكرر في معظم ثورات ما بعد عام 2011، واختلف الانتحار قليلًا فبدلًا عن الانتحار عن طريق الحرق كبوعزيزي رأينا شبابًا يُقدّمون أجسادهم هدية للقاتل، يقفون أمام البندقية في سلوكٍ انتحاريٍ آخر "إنّهم من فرط حرصهم على الحياة ينتحرون. ومن فرط كرههم للموت يقدمون عليه"3 هذا المشهد المكرر يدعونا للتساؤل في معنى الموت والثورة والثائر، وبمعنى أكثر تدقيقًا: ما الذي يحدث للجسد أثناء التظاهر وخروجه في حشد بشري حر؟
عبد العظيم وآخرون صنعوا من أجسادهم أسئلة لنا بإصرارهم على تقدم الصفوف وفتح صدورهم عارية للبنادق (هنالك الصورة الشهيرة لعبد العظيم وهو يقف أمام شاحنات الأمن وأفراد الشرطة وهم يطلقون الرصاص ملوحًا بأصابع يده اليمنى بعلامة النصر). تم اعتقال عبد العظيم من قبل، ولكنه خرج مرةً أخرى بلا خوف أو تردد، شخص مثله لا يعني سوى أنه مملوك لحقيقة مطلقة، حقيقة أكبر من الموت ولا تهابه، حقيقة لا ترى الموت سوى سياسة للحرية، تحول هذا الجسد من معنى الجسد المواطن أي ذلك الجسد الفاعل اقتصاديًا والخاضع لسيادة الدولة الحديثة إلى معنى الجسد الثوري، أي ذلك الجسد المقاوِم اللامرئي الذي تخلى عن كل معاني الأدوتة من إنتاج وإطار حيوي-سياسي للسلطة.
هذا الفرق بين الأجساد المرئية واللامرئية: هو حالةُ تحوُّلٍ داخليةٌ للذات من قلق اليومي المعيش من (ديون وفقر وجوع وبطالة عن العمل وقهر)، ومستقبل مبتئس من دون أي أفق سعيد، إلى آلة حالمة لا عمل لها سوى الحلم، الحلم بالمستقبل؛ فالثوري ذاتٌ حالمة تتحرك ضد السلطة، وخروجه للشوارع يعني خروجه للحياة نفسها، وخروجه من جسد الطاغية ونموذج البؤس الذي تُقدِّمه لنا الحياة الحديثة بكلِّ أشكالها الرأسمالية والنيوليبرالية.
اقرأ/ي أيضًا: "اصحى يا ترس".. حين يعجز الموت أمام عظمة الواجب
أجيالٌ بأكملها تربَّت على أيدي الحكام المُستبدِّين بالشعارات الهووية التي أثبتت فشلها كالإسلام والعروبة، لن تقبل بأقل من ثورة تجدد بها دماءها ولحمها، أجيالٌ لم ترَ غير فظاظة الموت والحروب والنزوح، واللامعنى الشخصي لحياتها؛ لن تتردد في الموت لأجل أن تحوز ولو على قطرةِ معنى مقابل حياتها، موتٌ وشوقً للشهادة كان يسري بأجساد هؤلاء الشباب ولكنها شهادة ما بعد دينية أو "استعمال علماني للشهادة الدينية. موت بلا ثواب وبلا فوائد. إنه تمرين للنفوس الحرة على النضال ما بعد القومي وعلى الجهاد ما بعد الديني من أجل الحق في الحياة"4
لقب شهيد هو فرق فاضح بين من يموت ومن ينتهي، وموت الثوري يعني ولادة الحياة الأخلاقية التي نؤمن بها والتي خرجنا لأجلها
عندما يموت إنسان ما، فهو يموت داخل سردية، لسنا كباقي الكائنات، فهي تنتهي ولا تموت بتعبير هايدغر، عندما يموت ثائر ما، فإن العدو - وهو الدولة هنا - يتخيَّل أن قتل الجسد والعنف إزاءه هو الحل الناجع لإخماد ما يحرك هؤلاء الأفراد للخروج عليها، إذ أن منطق الدولة إزاء الأجساد وتعاملها معها هو سلوك أداتي، فالمواطن هو مجرد رقم جديد في سجلاتها، أو يد منتجة؛ فالمعادلة بالنسبة لها تَرِدُ على هذا النحو: إن رقمًا نقص أو زاد من التعداد الكلي للسكان، رقم ليس له أي قيمة مقابل الأعداد التي تولد كل يوم، ليس شيئًا مميزًا، ليس بشريًا له ذاكرة وأهل وقبيلة ومكان أنيس.
أما موت الثوري الذي ينتمي إلينا يعني نهاية عالم بأكمله، حياة كاملة من الحزن والسعادة والقوة والضعف البشري، وبالتالي لقب شهيد هو فرق فاضح بين من يموت ومن ينتهي، وموت الثوري يعني ولادة الحياة الأخلاقية التي نؤمن بها والتي خرجنا لأجلها.
هوامش:
(1) نص "الحب والصيرورة" للشاعر محمد الصادق الحاج، مجلة إكسير
(2) هي شذرة شعرية للشاعر محمد المهدي المجذوب وهو المقصود هنا بمجذوبنا
(3) الهجرة إلى الإنسانية، د. فتحي المسكيني ص222
(4) الهجرة إلى الإنسانية، د. فتحي المسكيني ص225
اقرأ/ي أيضًا:
ثورة السودان.. الحلّ الجذري أمام الأبواب الموصدة!