يلاحظ المتابع للشأن السوداني أن الكثير من بؤس الحال يأتي كنتاج للإقصاء والسعي نحو استئصال الآخر. والمتأمل في دعوات التكاتف والكلمات المنمقة عن الحوار الوطني يفهم أنها، في كثير من الأحيان، ليست سوى كلمات جوفاء تصدر من أصحاب فكرة الإقصاء، ويحق لنا التساؤل حول هذه الازدواجية وانفصام الشخصية.
في السودان، يسبغ حزب المؤتمر الوطني على نفسه صفة الوطنية، فهو الوطني الوحيد وما سواه لا وطنية له. ففي بلادنا السياسي المتصدر للمشهد يبقى على رؤوس الخلق من ميلاده إلى القبر. مَن من ساستنا حين تقدم به العمر اعتزل؟ أو حين خسر حزبه الانتخابات اعترف بالفائز؟ إنما هو الحزب الواحد والحاكم الواحد وكل من ينافسه قد اختير بعناية ليقوم بدور المحلِّل لا غير.
يسبغ حزب المؤتمر الوطني على نفسه صفة الوطنية فهو الوطني الوحيد وما سواه لا وطنية له
وأبشع صور الإقصاء تتمثل في سياسات حكومة الإنقاذ بقيادة الرئيس عمر البشير، فقد عملت على تهميش الأحزاب وتفتيتها وملاحقة قادتها، فعاشت الأحزاب في كهف السياسة المظلم طيلة ربع قرن من الزمان، والآن فجأة يخرجونها بالدعوة إلى الحوار الوطني ، فهل من يخرج من الظلام إلى النور الساطع يرى شيئًا؟
قد يخيّل للبعض أن دعوات الحكومة للحوار جادة، وأنها تريد إزالة كل الأضغان التي تراكمت نتيجة لسياسات الإقصاء التي انتهجتها طيلة سنوات حكمها، ولكن المتأمل يجد فيها من الخبث الكثير فهي جسور هشة يتوارى خلفها الفكر الراسخ بإقصاء الآخر والشعور المتضخم بالأنا والفوقية.
ويتضح ذلك للمتابع لنقاشات الجمعية العمومية للحوار الوطني التي انعقدت في آب/أغسطس الماضي، فتوزيع الفرص يأتي كما لو أن المتحدثين يتم اختيارهم بطريقة منتقاة لتوحي الجلسة بأن النزعة الشمولية للإنقاذ قد انفرط عقدها. ولكن عدم وجود رؤية واضحة في بنود الحوار وغياب المشاركة الفاعلة للمعارضة تنبئك بأن حوار الحكومة يأتي على طريقة "حاورني بشروطي أو أشهر في وجهك رايات الغضب".
ومما يدل على الإقصاء أيضًا هو الحزب الواحد والجماعة الواحدة التي تتحكم في كل مفاصل الحياة الاجتماعية والثقافية، فيسمح لجمعيات ومنظمات المجتمع المدني بالعمل فقط إن كانت تتبع الحزب الحاكم وما سواها فهم من المغضوب عنهم. ولا يخفى على أحد ما تعرضت له جماعة "نفير"، وهي جماعة شبابية لا تنضوي تحت أي مسمى سياسي ومن أهم أهدافها مساعدة المتضررين من المشاكل الطبيعية.
ويشهد السودان مؤخرًا إغلاق عديد المؤسسات الثقافية والاجتماعية في مخالفة صريحة للقوانين السودانية والدولية، وإلغاء تسجيلها ومصادرة ممتلكاتها، كمركز الدراسات السودانية الذي تم إغلاقه في كانون الأول/ديسمبر 2012 ومركز الخاتم عدلان للاستشارة والتنمية البشرية.
ولم تسلم أروقة الجامعة من دعوات الإقصاء، ففي بحث إستقصائي لأستاذ الفلسفة بجامعة الخرطوم عصمت عبد المحمود، تبين أن العنف الواقع على الطلاب من قبل طلاب المؤتمر الوطني، على قلة أعدادهم، قد أودى بحياة العشرات من الطلاب الأبرياء، وأن سياسة الإقصاء والرأي الواحد متجذرة في الجامعات السودانية.
وأمثلة الإقصاء كثيرة في عالمنا العربي، وفي محيط السودان، ومن صورها ما كان في مصر بعد ثورة 25 يناير، فمن جاء بالانتخاب سرعان ما أقصى غيره، فانقلب عليهم من هو أقسى منهم بمساعدة العسكر. وأتذكر القائل "من أنتم؟ فاتكم القطار"، فإن هذه العبارة متجذرة في الإقصاء والإبعاد وهي مثال للخطابات الهزيلة الخائرة المحتمية بجيش من أصحاب الغفلة من عسكر وسجانين ولكأن أصحاب هذه الخطابات يؤمنون بالقول: "طالما العصا في أيدينا والعسكر تحت إمرتنا والسجان رهن إشارتنا، فلن يقف شيء أمامنا".