في 2020 خسر الجنيه السوداني (190) نقطة، بزيادة الدولار الأمريكي مقابل الجنيه من (80) جنيهًا نهاية العام الماضي إلى (270) جنيهًا في نهاية العام الحالي، ولا يزال مرشحًا لتكبد خسائر فادحة جراء السياسات الاقتصادية القاسية التي تنفذها الحكومة الانتقالية بلا حماية قوية بتوفير "قروض معتبرة" من المؤسسات المالية العالمية.
تكبد الجنيه خسائر فادحة جراء انقطاع مساعدات الإمارات والسعودية بمجرد وصول المدنيين إلى السلطة
ولو باع شخص دولارين نهاية العام الماضي في السوق السوداء بالعاصمة الخرطوم، فإنه كان سيحصل على (160) جنيهًا يشتري بهما علبتين من معجون الطماطم "صلصة"، لكنه اليوم سيشتري علبة البندورة بسعر (250) جنيهًا.
اقرأ/ي أيضًا: المرأة السودانية وحصاد 2020
وصعد الدولار الأمريكي نهاية العام مقابل الجنيه السوداني متأثرًا بقطع المساعدات الخليجية التي تعهدت بها الإمارات والسعودية بقيمة ثلاثة مليار دولار عندما أطاحت الثورة بالرئيس المعزول عمر البشير.
وفي كانون الأول/ديسمبر 2019، أبلغ وزير الطاقة والتعدين السابق عادل إبراهيم، اللجنة الاقتصادية لقوى الحرية والتغيير، أن البلاد على أعتاب أزمة طاحنة في الوقود والسلع الأساسية بسبب توقف المساعدات الإماراتية السعودية كانت الإجابة التي تلقاها غير كافية لإيقاف نزيف الجنيه، وتركت الأمور لسياسات جديدة كانت في حقيبة وزير المالية السابق إبراهيم البدوي.
وفي نهاية كانون الثاني/يناير 2020، اتجه وزير المالية السابق إبراهيم البدوي، إلى محاولة ترميم الاقتصاد المتأثر بتوقف المساعدات الخليجية بعد شهور قليلة من مناصفة المدنيين السلطة الانتقالية مع العسكريين، وذلك بالعمل على تطبيق وصفة "إغرائية" بوضع زيادة الأجور مقابل تخفيف الدعم الحكومي عن السلع الأساسية، وبالفعل في شباط/فبراير 2020، نفذت الحكومة زيادات على سعر الوقود من (28) جنيهًا للجالون إلى (128) جنيهًا، مع الإبقاء على الوقود المدعوم في مناطق محدودة. وأدت هذه الإجراءات إلى صعود الدولار في السوق الموازي من (90) جنيهًا إلى (110) جنيهًا، وبدأت مؤشرات قاسية تظهر على الشبكات الإجتماعية الفقيرة جراء الضربة الاقتصادية الموجعة.
وسارع رئيس الوزراء عبدالله حمدوك، بعد أن شعر بخطورة الوضع الاقتصادي المتداعي جراء تجاهل تفكيك البنية القديمة، حيث بث الرجل تصريحات طالبت بالتوقف عن رفع السقوفات الاقتصادية.
وفي الفترة بين شباط /فبراير وآذار/مارس 2020، كان العالم على أعتاب الإغلاق الكلي بسبب جائحة كورونا، وجعلت التدابير المجتمع الدولي متراجعًا عن تقديم دعومات مالية كبيرة للحكومة الانتقالية ونضبت احتياطات النقد الأجنبي في البنك المركزي إلى درجة الشح وصعوبة تدبير مبلغ (10) مليون دولار لغرض استيراد الدواء لتحسين أداء النظام الصحي لمكافحة فيروس كورونا، وهي شكاوى جاءت من شعبة مستوردي الأدوية آنذاك، حتى هددت المصانع المحلية للأدوية بالتوقف.
وعندما حل نيسان/أبريل 2020، بدأت الحكومة التدرج في الإغلاق الكلي بتقليص ساعات النشاط اليومي للأسواق والمؤسسات، وفي نفس الوقت كانت حكومة عبدالله حمدوك مشبعة بالأزمات بدءً من طوابير الوقود والخبز وغاز الطهي والأدوية وأسرة المستشفيات بما فيها المؤسسات العلاجية الخاصة، كل هذه العوامل ضيقت الخناق عليها وبدأت شعبيتها تتآكل.
وفي أيار/مايو من نفس العام، لجأت الحكومة لاسترداد شعبيتها المتراجعة جراء تنفيذ الإجراءات الاقتصادية بتخفيف الدعم عن السلع الأساسية لأنها كانت تنوي تنفيذ حزمة جديدة تلي حزمة شباط/فبراير قبيل أيام من المغادرة إلى مؤتمر برلين متأبطةً هذه الإجراءات للحصول على دعم "يسيل له اللعاب".
اقرأ/ي أيضًا: أكثر من 100 ألف فدان بمشروع الجزيرة مهددة بالعطش
عمدت حكومة حمدوك إلى زيادة الأجور بنسبة (500)%، أي أن راتب العامل الذي كان يتقاضى (4) آلاف جنيه ارتفع إلى (16) ألف جنيه، وفي بعض الدرجات الوظيفية إلى (25) ألف جنيه، بينما في تلك اللحظات التي ترتفع فيها آمال العمال كان الجنيه السوداني يتراجع أمام الدولار وبلغ (144) جنيهًا في نهاية أيار /مايو ومطلع حزيران/يونيو 2020، فيما حذر الاقتصاديون من أن انتعاش الأجور سيكون مؤقتًا وأن الركود التضخمي قادم لا محالة، لكن البدوي أصر على نجاعة خطته، مبلغًا رئيس الوزراء بتحمله مسؤولية سياساته الجديدة.
وجه "الترا سودان" آنذاك سؤالًا إلى مسؤول اقتصادي في حكومة حمدوك عن جدوى زيادة الأجور قبل إعمال إصلاحات جذرية في الخدمة المدنية لتكون جاهزة ومؤهلة للنهوض بالإنتاج؛ إجابته أظهرت أن الحكومة لم تكترث للأمر بقدر ما أنها كانت تتطلع إلى تنفيذ رغبة المجتمع الدولي في بلاد يقع فيه (70)% من السكان باعتراف المالية نفسها في دائرة الفقر.
جراء السخط الشعبي لجأ حمدوك إلى إعفاء وزير المالية أبراهيم البدوي ضمن آخرين
وفي حزيران/يونيو 2020، عضت الحكومة الانتقالية على أصابع الندم على زيادة الأجور، وذلك لسببين؛ الأول أنها لم تجد تغطية حقيقية للرواتب بسبب الإغلاق الكلي الذي خفض الإيرادات بنسبة (40)%، والسبب الثاني أن مؤتمر برلين في نفس الشهر كان شحيحًا تجاه الخرطوم، وذلك بتخصيص (1.8) مليار دولار تسدد وفق جدولة طويلة لم تقدم سريعًا إلى خزينة فارغة جراء شح العملات الصعبة.
وفي الفترة بين حزيران/يونيو وتموز/يوليو، كان الجنيه يسجل تراجعًا مخيفًا هذه المرة، حيث بلغ الدولار الأمريكي في السوق الموازي (180) جنيهًا، بينما خنقت الأزمات الحكومة الانتقالية، حتى لجأت إلى تكوين محفظة السلع الأساسية بإشراك القطاع الخاص وهي ترتيبات انطلقت في نيسان/أبريل 2020 وبدأت فعليًا في آب/أغسطس من نفس العام للتغلب على شح العملات الصعبة، وأغرى "الكونسورتيوم المكون من رجال الأعمال والشركات شبه العسكرية" التي شاركت في المحفظة، أغرى الحكومة لوضع (380) مليون دولار لغرض استيراد السلع الأساسية وهي مشتقات الطاقة والقمح، وهي أقل من القيمة الكلية لاستيراد السلع الأساسية في شهر واحد، والتي تكلف (500) مليون دولار.
في حزيران/يونيو، وجراء السخط الشعبي لجأ حمدوك إلى إعفاء وزير المالية أبراهيم البدوي ضمن آخرين، وذلك لاستعادة شعبيته المتآكلة بسبب التضخم المرتفع وتكليف وزيرة المالية، هبة أحمد علي، بتسيير العمل في المالية، ولم تتمكن من فعل شيء يعيد الحيوية للجنيه رغم تحالفها الوثيق مع القطاع الخاص لاستيراد المشتقات النفطية، إلا أن الحلول التي اتبعتها ضربت القطاع العام في مقتل، وبالتالي لا يمكنك الحصول على سرير عناية مكثفة في مستشفى خاص إلا بعد سداد عشرات الآلاف من الجنيهات، وينظر اقتصاديون لحقبة حمدوك على أنها: "حقبة لا ترى في القطاع العام سوى مسخ مشوه ينبغي التخلص منه".
اقرأ/ي أيضًا: رابطة إعلاميي وصحفيي دارفور تدين أحداث قريضة
ومن تموز /يوليو إلى آب/نيسان 2020، كان الدولار الأمريكي مطلوبًا بشدة في السوق الموازي مع اقتراب نهاية الإغلاق وحاجة القطاع الخاص إلى الاستيراد، أدى الطلب المتزايد إلى زيادة سعر الدولار الأمريكي أمام الجنيه لـ(220) جنيهًا، ورغم أنه بقي في هذا السعر حتى أيلول/سبتمبر، إلا أن إرهاصات تعديل الموازنة والتي لم تجز قانونيًا منذ مطلع العام بسبب الاضطرابات الاقتصادية والأداء المخيب للآمال للشق الاقتصادي في الحكومة الانتقالية؛ اضطر مجلسا السيادة والوزراء إلى إقرار موازنة معدلة حملت زيادة جديدة على سعر الوقود، لترتفع من (128)جنيهًا للجالون إلى (560) جنيهًا، والنوع الثاني من الوقود من (128) جنيهًا إلى (250) جنيهًا، ونفذت رسميًا في نهاية تشرين الأول/أكتوبر ليخسر الجنيه مكاسبه التي كان يتوقعها عندما أزال الرئيس الأمريكي دونالد ترامب اسم السودان من قائمة الإرهاب في نفس الشهر، حيث ظل الدولار الأمريكي غير متأثرٍ بشطب السودان من رعاة الإرهاب متأرجحًا بين (255) جنيهًا و(245) جنيهًا.
حتى مغادرة الخرطوم لقائمة الإرهاب لم تعد كافية على ما يبدو لإنقاذ موقف الجنيه
وليتعافى الجنيه السوداني لا بد من تغطية الفجوة في الميزان التجاري والذي يتأرجح سنويًا بين (3.5) مليار دولار وأربعة مليارات دولار، ومع إصرار الحكومة الانتقالية على إنهاء أي دور اقتصادي وخدمي للقطاع الخاص، إما أنها بحاجة إلى صنع قطاع خاص جديد مع شبكة بنوك متحالفة معها، أو العمل مع القطاع الخاص الموروث من عهد المخلوع وقطاع المصارف؛ وهما قطاعان يعجان بالفساد والتداخل بين أوكار النظام ومحاولة ركوب موجة النظام السياسي الجديد.
وبين تشرين الثاني /نوفمبر وكانون الأول/ديسمبر الجاري، صعد الدولار الأمريكي في السوق الموازي إلى (268) جنيهًا، وبقي في هذا السعر حتى اليوم.
حتى مغادرة الخرطوم لقائمة الإرهاب لم تعد كافية على ما يبدو لإنقاذ موقف الجنيه في ظل فقدان الأسواق للأمان الاقتصادي والتقلبات اليومية لأسعار السلع والخدمات والنقل وشح يصر المجتمع الدولي على إظهاره لحكومة حمدوك المتشبثة بالخارج أكثر من التعويل على الداخل.
ومع مؤشرات مشروع موازنة 2021 التي حملت سياسات اقتصادية بتخفيف الدعم الحكومي عن القمح والكهرباء والسلع المستوردة، وزيادة التعرفة الجمركية يتنبأ اقتصاديون بخسارة الجنيه مزيدًا من قيمته، والاقتراب من تجربة فنزويلا في التضخم الفائق.
اقرأ/ي أيضًا