05-نوفمبر-2015

جامعة الخرطوم عام 1936

في السودان، يتم، دون مشاكل تذكر، تجاهل حنين العجائز بين الحين والآخر إلى أيام حكم الإنجليز "الاستعمار الإنجليزي المصري"، لكن إن أبدى أحدهم، من الأجيال اللاحقة، إنصافًا لذات الفترة، فغالبًا سيتعرض لهجوم قاسٍ بتهمة "عدم الوطنية" وهي تهمة محمولة على مقولات أنتجتها نخب الستينيات التي أسست لأكثر المفاهيم الوطنية السائدة حتى اليوم.

أيهما أكثر قسوة، المستعمرون أم نحن تجاه بعضنا البعض؟ 

يُنظر إلى حكم الإنجليز للسودان على أنه "استعمار، نهب للثروات، إذلال..." إلى آخر الصفات التي تُلصق بتلك الفترة التاريخية الممتدة من آخر القرن التاسع عشر حتى منتصف القرن العشرين. وظل العمل على ترسيخ "صورة العدو الإنجليزي"، فعلًا يراهن فقط على "العاطفة القومية" لنجاحه.

لا تشبه التجربة الاستعمارية في السودان بعد سقوط دولة المهدية (1898) غيرها في البلدان التي احتلها الإنجليز، بسبب من الوضع الخاص للسودان الناتج من حكمه "ثنائيًا" من قبل مصر وبريطانيا معًا، ما جعله يتبع إلى وزارة الخارجية البريطانية وليس وزارة المستعمرات مثل غيره. وكان من نتاج هذا الأمر أن ظل السودان بعيدًا عن صور القهر الاستعماري التي عانت منها مناطق أخرى في أفريقيا، بل حتى استقلاله كان أشبه بـ"تسليم وتسلُّم" بعد إعلانه من داخل البرلمان السوداني!

لكن.. ما الذي فعله الإنجليز ليصيروا "العدو"؟ هل قتلوا الناس ظلمًا، ودمروا البنية التحتية، وخرَّبوا التعليم، ونهبوا الثروات، وعطلوا حكم القانون؟ الطريف أن السودانيين هم من فعلوا كل هذا! لقد تسلّم الإنجليز بلدًا محطمًا بفعل الحرب والمجاعة والأمية التي وسمت حكم المهدية في عهد الخليفة عبد الله، ثم بعد أقل من ستين عامًا سلموه بلدًا ناهضًا بمدارسه، ومشافيه، ومشاريعه الزراعية والمائية، وهيكله الإداري الحديث، وهو ما يشرح نزعة الحنين التي تنتاب بعض من عاصروهم إلى عهدهم.

إن الصورة التي رُسمت لفترة الإنجليز بقصد أن تكون قاتمة، تعتبر حين مقارنتها بحال السودان اليوم، فردوسًا خياليًا مدهشًا؛ فيكفي من يتحدث عن قتلى الإنجليز في معركة أم درمان أن ينظر لحرب الجنوب وحرب دارفور وينظر أيهما أكثر قسوة، المستعمرون أم نحن تجاه بعضنا! ومن يتحدث عن نهب ثرواتٍ عليه على الأقل إخبارنا عن تفاصيل تلك الثروات التي "نُهبت" دون حتى مقارنتها بتقارير المراجع العام للدولة خلال العشر سنوات الماضية فقط، أما من يظن أن الاستعمار أذل السودانيين فلا رد عليه غير ما يحدث يوميًا الآن في مقابل الالتزام أيام الاستعمار بحكم القانون واحترامه.

هل كان سياق تطور دولة المهدية سيقود إلى نهضةٍ بجامعاتها وجسورها وسدودها وهياكلها التي تحفظ حقوق الآخرين؟ 

في ظني، اخترعت نخبة الستينيات، وقبلها آباء الاستقلال، "العدو الإنجليزي" مبررًا للاستيلاء على السودان، فما حدث في رأيي ليس صراعًا من أجل "استقلال"، بل هو فقط حرب مصالح وامتيازات بين سودانيين يظنون أن انتماءهم لجغرافيا السودان يمنحهم الحق في الحكم وإن لم يفعلوا غير التأسيس للفساد، أكثر من الأجنبي وإن لم يفعل غير البناء. إن الحاجة للاتكاء على حائطٍ قومي لم يكن موجودًا وقتها، جعل آباء الاستقلال يخترعون صورة لعدو ليلصقوا به نقائص متخيلة من أجل إقناع المجموع بصلاحهم لخلافته، وهو الصلاح الذي سقط في كل الامتحانات اللاحقة، ودوننا تشظينا الذي يهدد كيان السودان ذاته بالمحو إلى الأبد.

ثمة تساؤلات نحن بحاجة إلى التفكير فيهما بغير انغلاق، أولهما: هل كان سياق تطور دولة المهدية سيقود إلى نهضةٍ بجامعاتها وجسورها وسدودها وهياكلها التي تحفظ حقوق الآخرين؟ أم أن الاحتلال الإنجليزي شكّل مسارًا مفارقًا لما ظلت تجرُّنا إليه دولة المهدية؟ أما التساؤل الثاني فهو: هل لو سُمح للجنود السودانيين بالمغادرة برفقة الجيش المصري عام 1924 كونهم يتبعون له بالقَسَم، هل كنا سنسمع بـ"ثورة 24" التي بنيت عليها لاحقًا أدبيات القومية والنضال ضد الاستعمار؟

اقرأ/ي أيضًا:

أنا مع حصار بلادي!

اقتلوا هاري بوتر!